غريغوار حدّاد.. مطران الفقراء وبابا العلمانية الذي يشهد بأن »لا إله إلا الله


نطرق باب الغرفة ١١٥ في »بيت السيّدة«، حيث يخضع للعلاج الفيزيائي، استئذاناً بالدخول. يأتي الصوت قائلاً: »نعم«، عالية النبرة. نسأل: »كيف الصحّة؟«، فيجيب: »الصحّة اسمها أوستيوبوروز، أي ترقق عظام«، ما عدا ذلك، يبقى الجسم سليماً والذهن صافياً وأكثر إيماناً. نظره مسمّر في اتجاه الشاشة الصغيرة، يتابع خبراً على إحدى المحطات الأجنبية. إلى جانبه مجموعة كتب على رأسها كتاب للوزير السابق جورج قرم بالفرنسية، عنوانه »La question religieuse au XXI siècle« (»المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين«). وعلى طاولة بعيدة، يبدو كتاب جوزف سعادة، الكتائبي السابق، »أنا الضحية والجلاد أنا« الذي يروي فيه قصّة »السبت الأسود« وبوسطة عين الرمانة، من خلال ممارسات الكتائب في الثمانينيات على المستوى العام، وانتقامه هو لقتل ولديه على المستوى الخاص.

مصادر المعلومات تلك، تكسر رتابة الغرفة الناصعة البياض، وتحوّلها إلى شبه مكتب فيه الكتب والمجلات وقصاصات الورق التي يحتفظ بها داخل خزانة الغرفة. وهو يحفظ عن ظهر قلب عدد تلك المجلة وكم نسخة من كتابه »العلمانية الشاملة« ما زالت بحوزته ولم يوزّعها بعد... وبين الكتب والمجلات، تظهر علب شوكولا يشير إليها بإصرار كلّما أتاه زائر.

في محيط هادئ بعيد عن صخب المدينة، يرتاح المطران غريغوار حدّاد، من دون أن يخضع »ثورته« للراحة نفسها. فوق السرير، يجبر جسده على الالتزام بقلة الحركة، كطفل موعود بمكافأة إن التزم بما أوصي به. أمّا بريق عينيه وسلاطة لسانه فلا يرتاحان البتة.

في الهدوء الذي ينعم به والبياض الذي يلف المكان، لم يعد حدّاد »مطران الفقراء« أو »المطران الأحمر« فحسب، فهناك، فوق السرير، يليق به لقب »بابا العلمانية«. والعلمانية هي كل ما يحبّ أن يتحدث به وعنه. لا يرتاح ولا يكلّ ولا يرضى باستعادة محطات حياته لرسمها في »بورتريه« على صفحات الجريدة. »لماذا البورتريه؟ هل سأموت؟ لأن كلاً من يمت يكتبون عنه بورتريه؟«.. أجبنا: »نحن نكتب عن وجوه الخير في زمن الخير«، يضحك حدّاد ويردف ممازحاً: »ومن وجدتم غيري؟«.

سيرته لا تهمّه، »لقد كتبوا عن سيرتي. أليس لديكم شيء عنّي في الأرشيف؟«، أتاه الجواب بالإيجاب وبالتحديد: »بين سير ومواقف رجال الدين«. ضحك المطران، وقد علم أن المعلومة تُلقى لجسّ النبض، فردّ: »ولشو حاشريني هالحشرة؟«.

بالنسبة إليه، هناك مطبوعتان تختصران غريغوار حدّاد: العدد ١٣ ـ ١٤ الخاص به من مجلة »آفاق« الذي نشر في العام ،١٩٧٥ وهو عدد يتحدث من ألفه إلى يائه عن »ظاهرة« حدّاد. والمطبوعة الثانية هي كتابه: »العلمانية الشاملة«.

يرى المطران حياته مكرّسة ضمن تيار في طور النموّ: »الظاهر أننا نبتعد عن العلمانية، لكن الحقيقة أن هناك أفراداً يؤمنون بها وقد ملّوا الطوائف، وهم مقتنعون شديد الاقتناع بجدوى الدولة المدنية التي تحدث عنها رئيس الجمهورية، وراجين تطبيقها. ليس صحيحاً أن العلمانية أمر مستحيل. أراها تياراً بدأ ينمو في صفوف المواطنين«.

وهو، في توصيفها لبنانياً، يستعيد ما كتبه في »العلمانية الشاملة«: »العلمانية الشاملة ممكنة التحقيق. هي صعبة وصعبة جدّاً ولكنّها غير مستحيلة. هي ممكنة، لذلك هي واجبة التحقيق!«.

لا يبدو غريغوار حدّاد ممن يعرفون الاستسلام، فكل ما يمكن تحقيقه يسعى جاهداً، لا بل يناضل، في سبيل تحقيقه، لأنه »طالما أن الشيء ممكن يعني أن من الواجب تحقيقه«. وهو، إما بالفطرة أو بعد خوضه لسلسلة تجارب، يحاول إيضاح أفكاره وآرائه بما لا يحتمل التأويل. فالعلمانية التي يناشدها »شاملة«، لكنّها »ذات حياد إيجابي تجاه الأديان«. كما أنها غير معنية بالإلحاد. قال لزائره ذاك اليوم، حين أعلن له انه ملحد: »أنت لست ملحداً، فالإلحاد أصعب بكثير من الإيمان، يا إبني«.

في الحديث معه، لا يبدو حدّاد أنه ينتمي إلى أي من الطوائف، هو مطران على أبرشيته الخاصة، وقد رسم لها أطراً وقوانين واضحة الخطوط. منها يستمدّ المطران مسافته الواحدة من جميع الطوائف. وعبرها، يكرّس نفسه خادماً »كما المسيح« لكل فقير، ويطالب بتحقيق الديموقراطية والعدالة والمساواة. هكذا هو، مسيحيّ الإيمان، شيوعيّ الممارسة، والعلمانية شعاره الدائم، لأنه يرى فيها قيمة إنسانية، وأضف إلى ذلك كله، أنه رجل لا تغيب عنه نفحته الثورية.

بالنسبة إليه، لم تكن تربيته العائلية ولا أي من الأحداث المفصلية في حياته وراء ثورته، بل إنها مستمدّة من تعمّقه بالإنجيل... يقول: »كلامي ليس تقليدياً، لأنه مستوحى من الإنجيل، والإنجيل ثورة على عكس ما يقرأه البعض، لا بل هو »ثورجي« أكثر من كل تيارات الثورة التي نشأت في العالم. فما ورد في إنجيل متى (٨١١ـ٢٣) »أمّا أنتم فلا تدعوا أحداً سيّداً. لأن لكم سيداً واحداً وأنتم جميعاً إخوة. ولا تدعوا أحداً أباً لكم على الأرض، لأن لكم أباً واحداً هو الآب السماوي. ولا تدعوا أحداً يسميكم معلماً، لأن لكم معلماً واحداً وهو المسيح. وليكن أكبركم خادماً لكم«. أجده أهمّ من شعار الثورة الفرنسية: مساواة، حرّية، أخوّة«.

إلى الثورة الفكرية، يتكّلم حدّاد بجذرية. يرفض بجذرية ويوافق بجذرية، غير أنه لا يُسقط التفاصيل ولا يهمل الفروقات في المسألة الواحدة. من هنا، لا يوافق على توصيفه بـ»المطران الأحمر«، لأن أحمر الشيوعية وإن كان يساوي بين الناس، لا يخدم العلمانية بشكلها الأفضل، خصوصاً وأن الشيوعية تعتبر الدين »أفيون الشعوب«، كما لا يمكن اختصار الشيوعية بالأمور الاجتماعية فقط. ثم يستدرك أن هناك شيوعيين جدداً في فرنسا مؤمنون: »لم تمنعهم شيوعيتهم من الإيمان ولا إيمانهم من الشيوعية، وهم بذلك فهموا الشيوعية الصحيحة«.

الدخول في حديث مع غريغوار حدّاد، عن غير العلمانية، هو أمر صعب وسهل في الوقت نفسه. فهو لا يهاب إبداء رأيه بأي من المواضيع، على عكس المعهود من رجال الدين. يقدّم تفسيراته وتحليلاته بطريقة سريعة ومباشرة، أما الإسهاب فيتركه لطائفته »المدنية«.

هكذا، يسهل أخذه إلى الحديث في السياسة، لكنه يحتفظ بحق الخروج منه، متى شاء. يقول: »أنا مش معاد لأحد. بالنسبة إليّ، كان عون »مبيّن« أكثر. أي عندما عاد من المنفى، اعتمد خطاباً قريباً من العلمانية. وأعرف انه قرأ كتابي »العلمانية الشاملة«. لكنّه أضحى اليوم البطريرك العلماني للموارنة. وأعتبر أن حسن نصر الله أفضلهم، فما قام به خلال ثلاثة وثلاثين يوماً، أي تحرير لبنان، يعطيه مصداقية أمام الناس، بمعنى آخر، أراه متقدّماً على غيره في المجال الإنساني. لكنّ الخطر الكبير يكمن في خلطه بين الدين والسياسة، لا سيما أنه ينتهج نوع التديّن التقليدي الذي يعيد إلى الوراء بدلاً من التقدّم إلى الأمام«.

ويستدرك: »سمعت مرّة نوّاف الموسوي يتحدث عن الدين الإسلامي وقال إنه في انطلاقته كان ديناً لا طائفياً، أعجبني حديثه فهو في أساسه يساري«.

ورجال السياسة هم أبرز أعداء العلمانية، »هم يعادونها عن سابق تصوّر وتصميم، لأن الطائفية تأتي بهم إلى مناصبهم. في حين أن رجال الدين يعادونها عن جهل، لأنهم يعتبرونها إلحاداً«.

يقرأ حدّاد كثيراً ويتابع تفاصيل ما يدور من حوله. نسأله رأيه بكتاب جوزف سعادة فيجيب: »لم يعجبني لا هو ولا كتابه، لم أرَ ما الهدف من كتابته، هل كتبه فقط لتفريغ الحقد؟«، ثم يحمل كتاب جورج قرم ويشير إلى حيث وصل في قراءته: »ما زلت في البداية، لكنّ جورج قرم يعجبني كثيراً ويبدو أن كتابه موثّق جيّداً. أساساً، هو عضو في تيار المجتمع المدني«.

هذا التيار أسّسه حدّاد في مطلع العام ،٢٠٠٠ عنوانه العريض »العلمانية الشاملة« أمّا قيمه وعقيدته فتطالب بتطبيق مجموعة أسس أبرزها السيادة، الديمقراطية، المشاركة، الشفافية، العدالة، العمران، والعروبة.

لا يتردّد المطران بالدعوة إلى تشكيل نواة أو مجموعة جديدة لتنضمّ إلى تياره. بعد فشل مؤتمره الأول، كما قال، يعتبر أن »أذرع العنكبوت« أفضل الطريق في تفعيل عمله وزيادة مناصريه أو المنتسبين إليه، لا سيما وأن »ما من أعضاء متفرغين له بعد«.

حين يكتب حدّاد أو يتحدث، في معرض مقابلة أو لقاء أو مؤتمر، يستشهد بآيات من القرآن كما من الإنجيل، يفسّرها بجذرية، يستعمل من »المقدس« آية ويقابلها بآية أخرى من »الكريم« المنزل، ليعود ويستنتج في كل مرّة ضرورة فصل الدين عن الدولة: »ملكوتي ليس من هذا العالم«، يقول المسيح بمعنى أن الأمور الروحية تكمن في السماء وليس على الأرض، و»لا إكراه في الدين« يقول النبي.

من »المطران الأحمر« إلى »بابا العلمانية«

ورث غريغوار حدّاد عن بطريرك إنطاكية للروم الأرثوذكس غريغوريوس حدّاد الإسم و»الفعل«. فالبطريرك كان صديقاً للإسلام وقد وزّع خيرات الكنيسة أيام المجاعة على الإسلام كما المسيحيين بالتساوي.

ولد الراهب الكاثوليكي في سوق الغرب عام ١٩٢٤ من أب بروتستانتي وجدّ أرثوذكسي. درس اللاهوت في جامعة القديس يوسف، ورسم كأسقف في العام ١٩٦٥ فتولى معاونة مطران بيروت للروم الملكيين الكاثوليك فيليبس نبعه، لينتخب مطراناً أصيلاً على الأبرشية مع وفاة الأخير.

اختار الفقر والزهد نهجاً له في حياته الشخصية، والانفتاح والحوار في حياته العامة، وكأنه مطران على سائر طوائف المشرق.

مقابل تململ الرهبان والمطارنة من حوله، لا سيما مع مظاهر الفقر التي اختارها، أسس »الحركة الاجتماعية« مع شبّان وشابات مسيحيين ومسلمين، وهدفها التنمية الاقتصادية ـ الاجتماعية. انضمّ إليها عدد من الشخصيات اللبنانية، من بينهم الإمام موسى الصدر، وذلك قبل تأسيسه »حركة أمل« والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.

كفلت له ستة مقالات كتبها في مجلّة »آفاق« التي أسسها مع صديقيه بولس الخوري وجيروم شاهين، أن يتعرّض لهجوم حاد شنّته عليه الكنيسة، لا سيما الكاثوليكية، وقد »جُلد« و»صلب« وكفّت يده لأشهر عن مطرانية بيروت. وبعد درس وتمحيص لعقيدته الظاهرة في كتاباته، برأته اللجنة اللاهوتية الفاحصة. لكنّ مناصريه من أهل الثقافة والإعلام ردّوا الحملة عنه بسيل من المقالات التي نشرت في مختلف الصحف والمجلات اللبنانية.

اليوم، يبدو غريغوار حدّاد منهمكاً في تفعيل »تيار المجتمع المدني«، وقد اعتمد أسلوباً جديداً لثورته ضدّ الطائفية والطائفيين، يتماشى مع وضعه الصحّي. لكنه لم يرم سلاحه ولا استسلم لأن الطريق نحو العلمانية ما زال طويلاً. وهو مؤمن بالمسيح والإنجيل ويشهد أن »لا إله الا الله ومحمد رسول الله« كما وقف وشهد ذات يوم في ليبيا. يقول ذلك، حين ينظر من الأرض إلى السماء. لكنّه، حين يجول بنظره على الأرض، لا يرَ »عادلاً« و»رحيماً« إلا العلمانية. والعلمانية ليست جزئية، بحيث تؤمّن اللاطائفية السياسية أو تؤمّن استقلالية الدولة عن الدين في المؤسسات والوظائف والقوانين... بل هي شاملة ولا تختصر ببند أو مادة، ولا بدّ وأن تبدأ من إنشاء »أحزاب لا طائفية تنقل الصراع من بين الطوائف وداخلها إلى الصراع بين عقيدتين حزبيتين«.

في الغرفة البيضاء، ينصرف المطران غريغوار حدّاد إلى كتبه ومصادر المعلومات على اختلافها. يرصد العلمانية أينما كان، ومناصريها أينما حلوا في لبنان وخارجه. يطالبهم كما يطالب أي إنسان بالثورة على كل خطأ مهما صغر أو كبر حجمه. معه لا تنفع العودة إلى تجارب ومراحل سابقة وصَمت حياته، »الرجوع إلى الوراء لا يفيد. صار اللي صار. أردت دائماً أن يتغلّب الإيمان على ممارسة الطقوس الدينية، وأن تنصرف الكنيسة إلى تظهير عمق الدين بدلاً من الغوص بالتقاليد التي تميّز المسيحية عن الإسلام. أكيد أن الاستسلام كان أهون من الثورة، ولكن هذا أنا... هكذا هو غريغوار حدّاد«.

تعليقات: