مريم ترسم ابنها ماهر

أمام إحدى اللوحات في بيتها ـ معرضها
أمام إحدى اللوحات في بيتها ـ معرضها


المناسبة مربكة لأنها خاصة جداً. مناسبة بين أم وابنها. تدفع إلى الاعتذار عنها أكثر من الرغبة بالمشاركة فيها، هرباً من تطفل غير مقصود. الورقة الواصلة عبر الفاكس تقول إن مريم السعيدي تدعو إلى مشاركتها في إحياء ذكرى ولدها ماهر قصير. فقد ماهر، ابن الخامسة عشرة، في السابع عشر من حزيران العام 1982 في كلية العلوم، خلال الاجتياح الإسرائيلي.

تدور الكاميرا في المنزل الذي يقع في الطبقة الخامسة في منطقة صفير. تلحق عدستها صاحبة المناسبة، السيدة الدمثة التي أدركتها الستون. الغرفتان المفتوحتان على بعضهما تختنقان بالجالسين، على قلتهم. هؤلاء زملاء صحافيون وأمهات جئن لأن كل مناسبة مثل هذه تعنيهن وتمس شيئاً فيهن، لا يدركه الآخرون. شيء من العلاقة الملتبسة والغريبة بين الحاضرين والغائبين. تغذيها الذكريات والخيال والمشاعر والأفكار السابحة في فضاء أصحابها.

اختارت مريم أن تتعلم الرسم وقلبت إحدى غرف منزلها محترفاً. والمحترف الصغير أنتج معرضاً. الرسم طريقة من طرائق التعبير. تفرغ مريم عبره بعضاً من مكنوناتها الشخصية التي راكمها الزمن في قلبها. اللوحات والصور التي قلبت المنزل معرضاً ليوم واحد تحمل أكثر بكثير من الأشخاص، أو الشخص الوحيد، الذي يستريح فيها. تحمل شيئاً من الأحياء وخيالاتهم. يصير ماهر «هنا» في رسومات أمه، وليس «هناك». تنقله اللوحة بين حياتين، واحدة حقيقية وأخرى وهمية. تجيء به الألوان والأشكال من العالم الوهمي إلى العالم الحقيقي. تصافح الروح في الغائب دون الجسد، فيعود طفلاً سابحاً بين ذراعين، أو شاباً بغيتار أو آلة إيقاع، ورجلاً ببندقية أحياناً.

ترسم مريم منذ فقدان بكرها، لكنها، في السنوات الأخيرة قررت أنها تريد أن تصبح أكثر تخصصاً. بدأت تحضر دروساً، كضيفة، في معهد الفنون الجميلة، في الحدث. ربما، لأنه كلما كان الرسم متقناً يصير حقيقياً أكثر فيخفف من هوة الغياب. وربما لأن المخيلة تحتاج إلى دفع دائم يرفده بعض الاحتراف. وربما لأنها من المعهد تستطيع أن تلقي نظرة على الأرض الأخيرة التي وقف عليها ماهر قبل أن يدخل إلى عالم الفقدان، دون إرادته. حمل الفتى المراهق، صديق الحزب الشيوعي اللبناني وطالب البروفيه في مدرسة حارة حريك الثانية، البندقية يومها، ومضى في طريقه للدفاع عن الوطن المحتل. ومع أنه كان يحمل البندقية مثلما يحمل هيكل الغيتار الخشبي، بحسب ما تبين الرسوم، غير أن هذا لا ينتقص من وطنية الفتى. بل على العكس، يظل يبينه عازفاً.. على إيقاع آخر.

تلعثمت مريم قليلاً حين تكلمت قبل أن تطلق أفكارها، فاليوم، بالنسبة إليها لا يقل عن التاريخي في الوصف. ذكّرت كيف أنها، منذ عشر سنوات، أعلنت وفاة ولدها بعدما أعلنت لجنة التحقيق الرسمية المكلفة بالاستقصاء عن مصير المفقودين والمخطوفين بأن جميع المخطوفين والمفقودين الذين مر على ظروف اختفائهم أربع سنوات وما فوق، ولم يعثر على جثثهم، بحكم المتوفين. لتتراجع عن هذا الأمر لاحقاً بعدما أيقنت أن الدولة لم تتحقق جيداً من هذا الأمر بعدما عاد مفقودون من سوريا وإسرائيل. تحدثت عن الجرح الكبير الذي يصعب تصغيره إلى كلمة وكيف صارت القضية محطة للمستفيدين.

ومريم اليوم، الستينية، هي غير الصبية الثلاثينية من ذاك الزمن. خيبات الأمل المتعددة تركت أثلاماً واضحة في حقل تفاؤلها. غير أنها تنتظر سفينة تأتي مع الموج، من أي شاطئ، لتفك حصار قضيتها وقضية كثر غيرها.

وهي لا تنتظر فحسب. مريم ترسم ابنها.

تعليقات: