النصـر العربـي اليتيـم...وأمثولاتـه

لنا الحق، نحن العرب، من صنعاء الى الدار البيضاء، ان نزهو وان نشعر بنشوة النصر الذي تحقق لنا في الجنوب اللبناني. فهو النصر العربي اليتيم المكتمل حتى الآن، على مدى نصف قرن، منذ أنشب السرطان الصهيوني مخالبه بارض فلسطين، معلنا دولته الاستيطانية التي سرعان ما شرعت في التمدد والانتفاخ الى ان تراجعت هاربة، لاول مرة تحت ضغط المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة "حزب الله"، واقرت لاول مرة بهزيمة شنعاء لا سابقة لها..

لقد فعل لبنان العربي الصغير في حجمه الجغرافي وفي عدد ابنائه، ما لم تفعله الاقطار العربية الاكبر جغرافية والاكثر عددا، وفعل "حزب الله" وحلفاؤه في المقاومة الوطنية اللبنانية ما لم تستطع جيوش الجامعة العربية ان تفعله في عام 1948، وما تلاها من أعوام النكبة، وما لم تستطع قوات الانظمة الثورية والتقليدية ان تفعله في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. وكان يقال قبل هذا النصر كما قيل بعد النصر ان سر الانتصار اللبناني على جيش الاحتلال الاسرائيلي ودحره عن اراضي الجنوب، يكمن في حرية الارادة الانسانية لدى المقاتلين وفي غياب النظام الباطش الذي يتحول من قوة شرسة وباطشة على العدو المحتل الى قوة شرسة وباطشة بالشعب وبكل من يحلم بتحرير التراب الوطني من الاحتلال. وحق ما قالوه ويقولونه، فالعبيد لا يدافعون عن وطن ليس لهم، ولا عن ارض لا يمارسون على ظهرها وجودهم الحر. وعلى الرغم من حب الوطن الذي يتغلغل في وجدان الحيوان فضلا عن الانسان فان هذا الحب يتلاشى ويتراجع في

حضور القمع وتحت سيطرة العبودية والاستبداد، وتتحول اشجار الوطن في نظر ابنائه المسلوبين الى قضبان حديدية، كما تتحول زهور الحدائق الى اسلاك شائكة.

وعلى كل فإن لنا ان نفرح بالنصر العربي الوحيد والمكتمل، وان نقيم له بعد عام من تحققه، وفي كل عام، الزينات والتظاهرات التي تليق به وبأبطاله الذين لحقوا بمواكب الشهداء الابرار والذين ما يزالون ينتظرون دورهم في الشهادة واثقين من نصر الله وجزائه. وفي الوقت ذاته ينبغي الا تغيب عن عقولنا ولا عن ضمائرنا الامثولات العديدة التي سجلها النصر العظيم ومنها:

اولا: ان الحرية، حرية المواطن والوطن هي الحافز الاول للمواجهة، وهي الطريق الصحيح الى مقاومة العدو وتحويل الارض تحت اقدامه الى جحيم لا يستطيع معها البقاء ولا يجد حلا الا الرحيل مهزوما...

ثانيا: ان العرب في كل المعارك التي خاضوها مع اعدائهم كانوا يهزمون انفسهم قبل ان يهزمهم العدو، وان حروبهم غير الجادة مع الكيان الصهيوني كانت تنتهي قبل ان تبدأ، ليس لانهم مختلفون او متنابذون، وانما لان بعض الانظمة العربية المعادية لشعوبها اساسيا كانت تخاف الانتصار اكثر من خوفها من الهزيمة، وترى فيه اي في الانتصار نصرا للشعب الذي يبادلها الكراهية وعدم الثقة. لذلك فقد نجحت المقاومة اللبنانية لانها دخلت المعركة بوصفها شعبا لا نظاما، ولان النظام اللبناني يشاطر المقاومة الشعور بالعار والغضب ومن وجود الاحتلال على جزء من التراب الوطني.

ثالثا: ان النضال اللبناني الباسل بقيادة "حزب الله" وحلفائه استطاع ان يقضي على خرافة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر ولا يهزم، وهي الخرافة التي روجت لها وسائل الاعلام الاجنبية، والغربية منها بخاصة، ولم تسلم من ذلك الترويج بعض الاجهزة الاعلامية التي تساعد على نشر الخرافة إما بحسن نية او بسوء قصد ونية.

رابعا: اثبت النصر العظيم ان المعركة القادمة لن تشارك فيها الجيوش النظامية، وانما الجيوش الشعبية المنظمة والمدربة والمؤمنة بأن الدفاع عن الوطن والمقدسات يبدأ بالايمان ويتأكد ويسمو بالتضحية، وانها تأخذ اوامر القتال من ضميرها قبل ان تأخذها من قائد المعسكر او عريف الطابور.

خامسا: اثبتت المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله ان تحرير الاراضي المحتلة في فلسطين وغير فلسطين لن يتم عن طريق المفاوضات او عن طريق ما يسمى بالشرعية الدولية، ولا من خلال استجداء منظمة الامم المتحدة ومجلس الامن حيث تمارس الادارة الاميركية انحيازها وسيطرتها، كما لن يتم التحرير من خلال انتظار صحوة الضمير العالمي والرأي العام، فالعصر الراهن بلا عواطف، ولم يعد الاقوياء فيه يقيمون وزنا للاخلاق والقوانين، وهم لاسباب كثيرة لا يحترمون حقوقها واسترجاع ما افتقدته بالقوة كما فعل حزب الله تماما.

سادسا: ان ما حدث في 25 مايو 2000م فضح اللغز الكبير الكامن وراء الضعف والهوان العام والمتمثل، لا في التجربة القومية وغياب الحد الادبي من التضامن وتجاوز حالة اللامبالاة وحسب، وانما في غياب الرافد الاسلامي بعمقه الروحي والمادي، وما يشكله هذا الرافد من سند استراتيجي في حروب او نزاعات لم تعد محصورة في اماكنها التاريخية او في حدودها المحلية. وكما ان القضية الفلسطينية هي قضية العرب من المحيط الى الخليج فهي قضية العالم الاسلامي من جاكرتا الى طنجة.

سابعا: الامثولة الاوسع دلالة، والتي جعلت الانسحاب الاسرائيلي يتزامن مع احتفال الكيان الاستيطاني بقيام الدولة العبرية وما يرمز اليه هذا الاقتراب من انكسار لاوهام المشروع الصهيوني في التمدد والاندفاع صوب ما جاور مستوطناته من اراض عربية، كان المشروع يضعها في مقدمة ما سوف يتعرض للضم والالحاق.

هذه بعض امثولات النصر العربي في جنوب لبنان، وهو النصر الوحيد المكتمل حتى الآن في الصراع العربي مع الكيان الصهيوني ودولته الاستيطانية، والذي اثبتت الاعوام العشرون المنصرمة ان خطره لا يقف عند حدود الوطن العربي وانما يهدد بمشروعه العدواني التوسعي والعنصري المناطق المجاورة للوطن العربي، وهو اي الكيان الصهيوني يعبر بوضوح من خلال الفكر والممارسة عن طموح مدمر، كما ان قادة هذا الكيان (وكلهم على شاكلة الجلاد شارون) لا يترددون في سبيل تحقيق اوهامهم عن احراق الكرة الارضية بمن عليها وما عليها. وما يحدث الآن على ارض فلسطين لا يبقي مجالا للشك في غياب ادنى شعور بالمسؤولية الانسانية لدى الكيان العنصري الصهيوني تجاه الآخر، ويكاد القلب يتمزق وتكاد العين تعشى لهول ما ترى من قتل متعمد للابرياء ومن حصاد للارواح من دون حساب ولا عقاب، علما بأن ضمير الامة العربية كان دائما في اجازة وقادتها يدارون ويناورون حفاظا على عروشهم وكراسيهم التي يتوهمون انها مسنودة من واشنطن، وهو وهم اثبت مصير شاه ايران كما اثبت مصارع حكام آخرين قبله وبعده ان الشعوب وحدها هي السند الحقيقي للعروش والكراسي لا واشنطن ولا قصر باكنغهام او غيره من القصور.

وتبقى في نهاية هذه الملاحظات اشارة تقدير وتحية واعزاز الى الجنوب اللبناني، هذه القطعة الغالية من الارض العربية التي احتضنت الكفاح الوطني بكل ما أوتي اهلها من شجاعة وسخاء وصبر، وعاشت سنوات طويلة تحت القصف الهابط من الجو والقادم من البر والبحر فلم تخضع لارادة الصهاينة، ولم تدع فرصة لتحقيق احلامهم وغطرستهم التي مرغها ابطال الجنوب في التراب حتى حصدوا النصر الذي يستحقون.

تعليقات: