الجنوبيون عند الحدود: مطمئنّون.. لكننا خفنا على أطفالنا من قاتل الأطفال

دورية فرنسية اثر إطلاق الكاتيوشا الخميس الفائت
دورية فرنسية اثر إطلاق الكاتيوشا الخميس الفائت


بنت جبيل :

بعد التحرير في العام ،٢٠٠٠ لم تعد المقاومة هنا وجهة نظر. وبعد حرب تموز ٢٠٠٦ بنتائجها، لم تعد الحرب مجرد احتمال. هي حديث الحاضر، الآن خاصة، مع أن أحداً لا يحب الحرب.

الخميس الفائت، وبعد حادثة اطلاق الكاتيوشا، ظن البعض من الناس ان الموعد قد حان، فاستنفرت الانفس وشدت الرحال، لكن ليس لوقت طويل.

غير أن هذه الحادثة بدت تتويجاً لأيام ثقيلة الوطأة على الجنوبيين، لأن مشاهد المجازر والقتل والتدمير أعادت إليهم كوابيس ليالي صيف حارق. صور متماثلة في مكانين مختلفين ذات قضية واحدة وعدو واحد. هل ينتظر الجنوبيون دورهم؟ ليس بالضرورة. لكن كلاماً كثيراً يقوله الذين يعيشون على طول الخط مع عدو يكره اشد ما يكره، الاطفال.

خميس الكاتيوشا

صباح الخميس الفائت تحولت العيون المسلطة على غزة إلى الشمال منها، حيث بضعة صواريخ »قليلة وقديمة« لم تتعد اصابع اليد الواحدة انطلقت.

الساعة الثامنة تقريبا، على شاشات التلفزة:

عاجل رقم واحد: اطلاق صواريخ من جنوب لبنان، والمدفعية الاسرائيلية ترد على مصادر النيران.

عاجل رقم اثنان: طائرات إسرائيلية تحلق على علو منخفض في اجواء القطاع الغربي.

عاجلان كانا كافيين ليستعيد الجنوب ومعه الجنوبيون ساعات طويلة وثقيلة من ايام الحروب السابقة. صور لم تكن كلها موحدة، بل في احيان كثير متناقضة، اختلفت تلاوينها في البلدة الواحدة بل في البيت الواحد.

الثامنة والنصف تقريبا في بنت جبيل، ازدحام في ساحة سوق البلدة التي لا تزال تلملم اثار الحرب الاخيرة. لم يكن الازدحام بفعل سوق الخميس الاسبوعي، فالسوق كان قد انحل قبل هذا الوقت وفور تناقل الخبر، وانما هذا الازدحام نتيجة الخبرين السابقين والمدعومين بإشاعات كثيرة لم يعرف مصدرها عن غارات هنا وقصف هناك. لكن بعض »الخبريات« التي تناقلتها بعض وسائل الاعلام ساهمت في تسخين الجو. في السوق، سيارات متراصة على مسافة طويلة في اتجاه واحد، ابواق سيارات وصراخ سائقين، مشهد نادراً ما يرى في هذه البلدة. عشرات السيارات والباصات المدرسية خرجت في وقت واحد. »يخيف من لا يخاف«، يصف الحاج ابو علي الذي يقف على ناصية الطريق الازدحام الذي لا يفهمه: »ليش الناس عم يعملوا هيك؟«، يميل بعنقه مستنكرا ويمضي. الرجل مطمئن. غيره ليس مثله. تصطف السيارات على محطات البنزين لتخزين المادة، اما للمغادرة او تمهيدا لها.

على كل، كان الوقوف في منطقة »صف الهوا«، المدخل الرئيسي لبنت جبيل كافيا لمعرفة انه تحول الى مخرج رئيسي لبضع سيارات متجهة الى بيروت تحسباً لأي طارئ.

تقف سيارة اخرى متجهة صوب الساحل امام الكاميرا ويسأل سائقها: »صحافي؟«، الرد بالايجاب يكفي ليفرغ ما في قلبه: »سأضع اولادي عند اهلي في بيروت وسأعود اليوم، الاولاد يكسرون الظهر خاصة بعد المشاهد التي رأيناها في غزة امام هذا العدو الذي لا يراعي اي معايير انسانية او اخلاقية. غير ذلك، لا يهم ما سيحصل لي«. اليس من المبكر بعد الكلام عن الحرب؟ »يا اخي لن نخسر شيئا، نطمئن على الاولاد من جهة، ونزور الاهل من جهة اخرى«، مكملا »بعدين بيني وبينك اذا فرغت القرى من اهلها خاصة النساء والاطفال سيكون الشباب (يقصد المقاومة) اكثر راحة في حركتهم وبالرد اذا ولعت الحرب لا قدر الله«، ويكمل طريقه.

الا ان ما جعل مشهد الخميس أكثر دراماتيكية مما هو عليه في الواقع هو ارتال المجنزرات الدولية التي راحت تجول بهدير محركاتها ووقع جنازيرها على الزفت، وطبعا بسرعة زائدة وبمواكبات طويلة من السيارات الدولية البيضاء فتنقلت بين القرى وعلى الطرقات العامة.

بعد بنت جبيل، يقود الفضول الى عيتا الشعب، »ام العز«، والساعة تجاوزت العاشرة صباحا. عند مدخلها محطة البنزين، وبخلاف صورة بنت جبيل، خالية الا من عمالها. بعدها بامتار قليلة، مجموعة من الشباب وضعوا نراجيلهم امامهم على فسحة خضراء وتحت شمس ساطعة. رجل على طرف الطريق يركض حاملا ليترات قليلة من البنزين الاخضر في غالون، نظنه ضالتنا، نسبقه بالسؤال: »شو حاج انقطعت السيارة من البنزين«، فيرد ضاحكا »لا. اي سيارة؟ هذا البنزين لمولد الكهرباء التي انقطعت على غير موعدها ونريد متابعة الاخبار«، ويضحك ساخراً من السؤال عما اذا كان يفكر بمغادرة المنطقة.

داخل عيتا الحياة تسير على سجيتها، هدير محركات الجبالات وضرب »الشاكوش« في ورش اعادة الاعمار يشير الى ان الخبر ربما لم يصل الى هنا، أو ربما وصل لكنه كان مجرد خبر.

وبعد يومين..

عيتا بعد يومين، أي السبت الفائت، هي نفسها صبيحة الخميس الفائت، حركة واعمار وسيارات، هنا يعرف محمد سرور كما باقي اهالي البلدة ان المعركة القادمة »كوم، ومعركتهم مع عيتا الشعب كوم اخر«، فكلمات المحقق الاسرائيلي التي نقلها إليهم الاسير المحرر محمد سرور لا زالت »تطن« في اذانهم: »نحن لو صالحنا العالم كله لن نصالح عيتا الشعب«، ومع ذلك، »فنحن باقون هنا«.

السبت ايضاً في مارون الراس التي يسكنها عدد قليل من سكانها، تختلف الصورة برغم قربها من الحدود. في هذه البلدة التي رويت عنها القصص في حرب تموز، »ختايرتها«، استغلوا شمس كانون للحصول على دفء سماوي بعدما عز عنهم المازوت والكهرباء.

البلدة ما زالت تحمل آثار الحروب المتعاقبة والاعتداءات التي توقف اهلها عن احصائها. بيوت بات أهلها لا يعرفون في اي من الحروب قصفت وهم ما زالوا ينتظرون التعويضات الرسمية، الا اخرها التي دفعت بأموال خليجية خاصة.

هنا في مارون الراس الكثير من الطمأنينة وبعض من الخوف. يستنكر ابراهيم فارس السؤال عن عدد الذين نزحوا الخميس الفائت، »لم نسمع بأن أحداً غادر مارون ذلك اليوم، وعلى كل لم تكن الحادثة تحتاج الى المغادرة، فالناس هنا اختبروا في ظروف اصعب«. يتابع: »ما جعل الامر يأخذ أكبر من حجمه هو الوضع في غزة والاخبار العاجلة التي اوردتها بعض وسائل الاعلام منها ما هو صحيح واكثرها لا اساس له بالاضافة الى التغطية المباشرة مع مراسليهم في المنطقة وكأن الحرب على الابواب«.

هدى ايضا، من سكان هذه البلدة »الحرب مهما كنت قويا فيها فليست بنزهة، فيها الكثير من المآسي والدمار والقتل، ولكن اهلا بها اذا فرضت علينا، فالموت يطالكم لو كنتم في بروج مشيدة«، هدى التي عايشت الحرب الاخيرة تعرف عدوها »بالتمام والكمال«، ولا تخاف منه وهو »الذي اتخذنا مع بعض الجيران والاقارب دروعا بشرية طوال ٣٠ يوما خلال تموز ،٢٠٠٦ كانوا يختبئون مثل الصيصان عندما يسمعون تكبيرات المقاومين، هؤلاء لن يخيفونا بعد اليوم«. من هنا ترسل هذه المزارعة الجنوبية رسالة الى »اهلنا في غزة، اصبروا، فعدوكم قليل الصبر، وجبان«، لذلك فهي باقية هنا في هذا البيت الذي يقف حارسا على ثغور فلسطين المحتلة وقد سدت طرف الشرفة لجهة فلسطين بلوح من الزينكو كي لا تنكشف حركتهم، وتسأل قبل المغادرة »ممكن ان تقوم الحرب؟«، لا احد يمكنه الاجابة.

اما جارتها ام موسى، فقد واصلت تجهيز خيم المشاتل لشتول الدخان، »وين بدنا نروح؟ هنا ولدنا وسنموت هنا، ومن هنا سننتصر«، وعندما نسألها من اين جاءت بهذه الثقة، تجيب »من عدونا الذي رأيناه في تموز«.

اما في بنت جبيل فقد عاد النازحون القلائل قبل ان تمضي ٢٤ ساعة على نزوحهم. عادوا قبل حتى ان يعرفوا ما الذي حصل. لماذا تركوا؟ الاجابات متنوعة، أولها الاطفال، وآخرها الاطفال. مشاهد غزة كان لها التأثير الاول على القرار، اما السؤال عن قوات الطوارئ فله جواب مشترك لدى الجميع وكأنه درس حفظوه »ليحموا انفسهم اولا وليمنعوا الخروقات الجوية، قبل ان يطلبوا منا ان نعيش بأمان«.

هذا في النهارات، اما في الليل، همس، وخربشات ووقع أقدام بحمل ثقيل. اطياف رجال تتنقل بين زواريب الحارات ودساكرها، وظلال من قنديل في عتمة ليل ينام مطمئنا، ففي الخارج برودة حديد قابض على حده.. متربص.

.. و»هجوم« سيارات النقل المباشر إلى الحدود..
.. و»هجوم« سيارات النقل المباشر إلى الحدود..


تعليقات: