
أتوجّه اليوم بنداءٍ صادق يخرج من قلبٍ يعرف تمامًا معنى الوطن حين يفرغ من شبابه. لقد طال الغياب، وطالت معه جراح لبنان الذي ينتظر أبناءه ليعودوا إليه لا كعائدين فقط، بل كقادرين على إعادة الإعمار، وصناعة نهضة تُنهي زمن الانهيار وتفتح باب الأمل من جديد. إنّ الوطن الذي منحنا اسماً وهوية يستحق أن نستعيده بجهودنا، وأن نكتب معه صفحة جديدة تليق بتضحياتنا وكرامتنا. العودة ليست خطوة إلى الوراء، بل بداية طريق نحو مستقبل يصنعه شباب يعرفون أن لبنان لا يُبنى إلا بسواعدهم وإصرارهم وإيمانهم بأن الأوطان لا تموت ما دام فيها من يحبّها.
في بلدٍ يملك من الطاقات ما يكفي لبناء نهضة كاملة، تتحوّل هجرة الشباب من فرصة فردية إلى أزمة وطنية تهدد مستقبل الدولة. ليست الهجرة قراراً عابراً، بل صرخة وجع، ومرآة تعكس عمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع أجيالاً كاملة إلى الرحيل.
هجرة الشباب اللبناني ليست ظاهرة جديدة، لكنها اليوم تتخذ طابعاً أكثر إيلاماً، إذ تتزايد الأعداد وتتسع الدوافع، ويصبح الوطن كمن ينزف أغلى ما لديه: عقول شبابه، وحيوية طاقاتهم، وأحلامهم التي كان يفترض أن تُبنى هنا، على أرضهم.
وتعود أسباب هذا النزيف إلى تدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع فرص العمل، وانهيار الثقة بالمؤسسات، وتقلّص الأفق أمام الأجيال الصاعدة. حين يشعر الشاب أنّ جهده لن يقوده إلى حياة كريمة، وحين يغيب الأمان الاجتماعي والسياسي، يصبح الرحيل خياراً دفاعياً عن المستقبل، لا مغامرة خارج الحدود.
لكن الأخطر من الهجرة نفسها هو خسارة الوطن للعقول التي يحتاجها كي ينهض مجدداً. فالدول تُبنى بسواعد أبنائها، والاقتصادات تُعاد هيكلتها بإبداع الشباب لا بغيابهم. إنّ كل شاب يغادر يحمل معه جزءاً من الطاقة الإنتاجية، ومن القدرة على التغيير، ومن فرصة كان يمكن أن تصنع فارقاً.
ومع ذلك، لا يمكن إلقاء اللوم على الشباب الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الحاجة وسندان اليأس. إن المسؤولية تقع على الدولة التي لم تنجح في خلق بيئة حاضنة للإبداع ولا في حماية أبسط مقومات الحياة الكريمة. فالوطن الذي لا يحمي شبابه لا يستطيع أن يطالبهم بالبقاء.
والحل يبدأ بإعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة عبر سياسات اقتصادية واضحة، وفرص عمل حقيقية، ودعم للمشاريع الصغيرة، وتعزيز التعليم والبحث العلمي، وإعادة ترميم ما تهدّم من الأمان الاجتماعي. فحين يشعر الشاب أنّ مستقبله هنا، لن يفكر بالابتعاد، لأنّ الانتماء ليس شعوراً يختفي، بل جرحاً يلتئم حين يجد مكانه الطبيعي.
وفي ظل التحولات الكبرى في العالم، يجب أن تكون هجرة الشباب جرس إنذار يدعو إلى إصلاح شامل، قبل أن نجد أنفسنا أمام وطنٍ حاضرٍ بأرضه وغائبٍ عن أبنائه. فالبقاء ليس واجباً مفروضاً، بل نتيجة طبيعية لوطنٍ قادرٍ على احتضان أحلام شبابه.
ختاماً، إن إنقاذ الوطن يبدأ بوقف هذا النزيف، وببناء بيئة تُعيد الشباب إلى الداخل، لا تطردهم إلى الخارج. فالمستقبل لا يُصنع بالمسافرين، بل بالعائدين والقادرين على تحويل الأمل إلى واقع.
راشد شاتيلا سياسي لبناني مختص في الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات
الخيام | khiyam.com
تعليقات: