أحمد الساحلي الذي قتله «المجهول» برصاص الابتهاج

مات ودفن قبل يوم من عيد ميلاده الرابع عشر
مات ودفن قبل يوم من عيد ميلاده الرابع عشر


كبير هذا النعش على الجسد الذي فيه. لم تكتمل قامة أحمد علي الساحلي بعد. لم يكبر الصبي بما يكفي ليملأ جسده نعش الخشب المحمول تحت شمس الأمس من بيته في الشياح إلى روضة الشهيدين. ما زال أحمد طفلاً.

اليوم كان عيد ميلاده. لم يسمح له قدره بأن يمضيه بين أهله حتى على سرير المستشفى، وهو في غيبوبة. مات ودفن قبل يوم واحد من عيد ميلاده الرابع عشر. عاش سبعة أيام في غيبوبته، وفي داخل رأسه تلك الرصاصة الساقطة في رأسه بعدما أطلقها المجهول المبتهج بإطلالة الرئيس فؤاد السنيورة. كان الصبي أسفل المبنى الذي فيه بيته، يلعب وشقيقه الاصغر أمجد في الشارع الضيق المتفرع من عبد الكريم الخليل، حين انغرزت رصاصة في أحلامه ومزقتها، وسلبته ما بقي له من عمر لم ير منه إلا قليلاً.

بين أحلامه التي نجهلها انغرزت الرصاصة العنيدة وظلت هناك. غير أننا نعرف المجهول الذي قتل ولداً أتى بعد أربع سنوات على الانتهاء المزعوم للحرب الاهلية، وراح ضحية لانبعاثها المتجدد في نفوس مطلقي النار بالمئات، يحتفلون بالحديد والنار كلما أطل زعيم. المجهول العنيف الغاضب على خصمه حتى الرصاص. المجهول ابن ثقافة هذه الأيام المريضة، يبثها الزعيم وإعلامه معاً. المجهول الزاحف أسفل أدنى مفاهيم القيم والأخلاق والقانون. المجهول القاتل، مطلق النار، في أي مناسبة، ومع كل طلة زعيم.

أمس صباحاً، مات أحمد في مستشفى بهمن. وعند الثالثة عصراً دفن. بين الخبرين القصيرين بكاء كثير، وبعد الخبر حزن سيبقى أبداً في البيت الذي ربه بائع قناني غاز، وله من العالم صبيتان وولدان. آيات وأماني المراهقتان وأحمد وأمجد. خال الصبي الذي يخبر هذه التفاصيل القليلة عن موت ابن شقيقته، سينهار بعد قليل ويحمل إلى مدخل المبنى غائبا عن الوعي، بعد أن يسجى النعش حيث قتل الطفل الذي فيه.

وعودة الطفل إلى بيته بعد أسبوع طويل من الانتظار، يجعل الأم ترفع ذراعيها عالياً وتهوي بهما على خديها، تصفعهما مرة بعد مرة. وأختها بقربها، لا تدري ما اذا كان عليها أن تسند أختها، أو تلطم نفسها. تسقط الام أرضاً بينما الفتاتان تغيبان في صراخ هستيري، بينما الخال الثاني يضرب على خشب النعش: هيدا عرسك يا خال، بينما النعش يرفع الى جنازته.

ليس لوقت طويل يمكث أحمد في شارعه. يحمل التابوت الملفوف بعلم حركة «أمل» ويمشي أولاد كشافة الرسالة الاسلامية أمامه، وخلفه يسير العشرات من نسوة ورجال. يخرجون إلى شارع عبد الكريم الخليل، الذي من متفرعاته الأخرى خرجت نعوش أخرى بعد أحداث مار مخايل. كثر التشييع في الشياح في الآونة الأخيرة. وكما فعلت مع آخر أبنائها الضحايا، تفعل الشياح مع أحمد. بالارز تودع شهيدها الجديد، ابن بلدة أنصار الجنوبية، الذي ولد هنا، وعاش ومات هنا.

ببطء تمضي الجنازة الى المثوى الأخير للفتى. توقفها الدعوة الى تلاوة الفاتحة، ثم تكمل. تصل إلى روضة الشهيدين. وقبل دخول النسوة الى الحسينية يرتفع نواح نسوة آت من عند القبور. هي والدة أحمد محمد حمزي الذي قتل في مار مخايل، تجلس عند قبره، ومعها أخريات ينحن. تقول الوالدة الثكلى: «احمد حمزي واحمد العجوز.. وهلأ احمد الساحلي. تلات أحمدات. نربيهم كي يأخذوهم». الباقي في قلبها، فوق كل حسراتها، حسرة أنها لم تره في موته. دفن ولم تودع وجهه.

خمسة قبور تفصل بين قبر ابنها وحفرة مستطيلة في تراب أحمر. بعد قليل ينزل اليها أحمد الساحلي. وبعدما يصل شبان كشافة الرسالة إلى الحفرة ويحيطون بها. يجهشون بالبكاء. أحمد زميلهم الكشفي، وقد مشوا بنظام في وداعه على الشارع، أما هنا، فبكوا جميعاً. كثر الأولاد الذين يحيطون بالحفرة، وكثر منهم يبكون والنعش يشق طريقه وسط الجمهرة الصغيرة من الناس ثم يسجى للمرة الثالة والأخيرة. يعود أحمد إلى ربه ويهال على كفنه الأبيض التراب والصراخ، ويدفن ولد وجهه في ذراعه المطوية فوق سياج قبر قريب. يضرب بقبضته على السياج: «ولك يا أحمد.. ولك يا احمد». يصرخ كما العاتب على المقتول. ينشج بالبكاء ويجرب ولد ثان أن يواسيه. يفلت من تحت يد صديقه ويركض منحنياً ليمر بين الجموع. يريد أن يرى القبر. «رفيق»، يقول الصبي الثاني، «رفيقه لأحمد» وتغلبه الدموع بدروه فينسحب. هذان صديقاه. وهذا وجه آخر أقسى من أن يحتمل ذكريات الأطفال.

تأتي الشقيقتان بعدما ردم القبر بالتراب. تنفجران بالعويل، ويحملهما خالهما بعيداً. يريد رجل تفريق الناس فيقول لهم: «يا عمي ولله اتفضلوا على الحسينية. خلص هون شو بعد فيه؟»

لا يقصد الإساءة. هو فقط يريد أن يخلي مكاناً لأهل الطفل. غير أنه، هنا، حكاية لبنانية كئيبة. هنا طفل مات قبل يوم واحد من عيد ميلاده. قتله المجهول الذي يعيش بيننا، يخرج سعيداً بإطلاق النار. يبتهج بسفك دماء الأطفال وبسحق أحلامهم وأعمارهم.

تعليقات: