كامل مهنا.. «المؤسسة»

كامل مهنا (مصطفى جمال الدين)
كامل مهنا (مصطفى جمال الدين)


تحتار وأنت تتأمل في مسيرة الدكتور كامل مهنا، رئيس مؤسسة «عامل الدولية»، إن كنت تتحدث عن المؤسسة أو مؤسسها لشدة الشبه بين مسيرة الاثنين. حيرة سرعان ما تتبدد من دون أن تطيح هذا الالتصاق في المبادئ والقيم ومعهما الصمود والسيرة، وخصوصا الإنجازات. فمسيرة مهنا النضالية سبقت المؤسسة التي جاءت نتيجة طبيعية لعمله والأهم إطاراً مؤسساتيا للخط الذي انتهجه والقيم التي آمن بها، تحديدا إثر العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان في العام 1978، تاريخ تأسيس «عامل».

من طالب الطب الذي طردته فرنسا في العام 1968 بسبب نضاله من أجل فلسطين ولبنان وضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى منحه وسام جوقة الشرف الفرنسي من رتبة فارس من الرئيس الفرنسي جاك شيراك، صارت «مؤسسة عامل» اليوم «عامل الدولية» بفروعها في فرنسا وسويسرا وهولندا واليونان، حاملة معها القيم عينها: «كيف نعمل على تعزيز إنسانية الإنسان بمعزل عن خياراته السياسية أو الدينية أو الجغرافية، إذ ان أياً منا لم يختر دينه أو عائلته أو جنسيته، هذه أمور قد ورثناها، وما نقوم به معا هو التحدي الفعلي»، وفق ما يختصر رئيسها الخطوط العريضة لعملها.

في المسيرة نفسها، تلتصق «عامل الدولية» المرشحة لنيل جائزة «نوبل» المخصصة هذه السنة للعمل مع اللاجئين، بمؤسسها، ابن الفلاح الآتي من بلدة الخيام الجنوبية متحديا الظروف الصعبة لأبناء المناطق النائية والمحرومة. وعليه، لم تكتف «عامل» بالنضال ضد إسرائيل والحرب الأهلية في بيروت والجنوب، بل تفرعت إلى حيث تُرك الفقراء ومحتاجو الخدمة من المواطنين في المناطق البعيدة والأحياء الشعبية في العاصمة وبقية المدن اللبنانية، ناضلت مدى 38 عاماً ما بخلت ولا بدلت تبديلا.

ولد كامل مهنا من أب مزارع في الخيام على الحدود مع فلسطين المحتلة. ومن هناك على التلة المشرفة على «القضية»، تفتّح وعيه السياسي وما زال، إذ ينص المبدأ الثاني من مبادئ «عامل الدولية» على أن «أي عمل إنساني لا يكون مع القضايا العادلة للشعوب، وعلى رأسها قضية فلسطين، ليس عملا إنسانياً».

لم تكن مدرسة الخيام تتضمن أكثر من الصف الثالث المتوسط. كان على كامل مهنا التلميذ - الطفل أن ينتقل إلى صيدا، عاصمة الجنوب، لإكمال تعليمه المتوسط ومن ثم الثانوي، ومن هناك انتقل إلى ثانوية الظريف في بيروت ليكمل الشهادة الثانوية.

ومع الجامعة كان على المزارع أسعد مهنا، والده، الذي كافح بعرق الجبين لتعليم أبنائه أن يبيع مزيداً من الأرض ليحقق طموح ابنه بدراسة الطب في فرنسا. هناك، كشّرت «الأم الحنون» عن أنيابها في مواجهة الشاب المفعم بالطموح والنضال وحامل الهم الوطني والأممي الذي سرعان ما ظهر تميزه بين أقرانه مع انتحابه الأمين العام الأول لاتحاد الطلبة اللبنانيين في فرنسا، وكان يضم سبعة آلاف طالب.

ومع الاعتداء الإسرائيلي في 26 كانون الأول 1968 وتدمير 13 طائرة في مطار بيروت، أرسل مهنا رسالة إلى الرئيس الفرنسي يومها شارل ديغول يطالبه فيها بإدانة المعتدي، ثم احتل مع مجموعة من طلبة الاتحاد السفارة اللبنانية في باريس احتجاجا على عدم الرد الرسمي على العدوان. بعدها بأشهر، وتحديداً في 23 نيسان 1969 نُظمت تظاهرة تأييداً للفلسطينيين في بيروت فأطلقت السلطات اللبنانية النار على المتظاهرين وسقط ضحايا. وهنا أيضاً احتل مهنا وطلبة من الاتحاد مبنى السفارة اللبنانية في باريس وقنصليتها في مارسيليا.

بعدها لم تنتظر فرنسا طويلاً حتى طردته عن أراضيها اعتراضاً على نشاطه السياسي. طرد حرّك الجسم الطلابي اللبناني والعربي والفرنسي في فرنسا وسارعت الجزائر إلى تقديم منحة لمهنا لإكمال دراسة الطب على أراضيها.

ومع توقيع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مع كوكبة من المثقفين والمناضلين والناشطين عريضة ضد قرار الطرد، تراجعت فرنسا، ليتابع مهنا نضاله في المسار نفسه وينشئ مع آخرين لجانا لدعم ثورات فلسطين واليمن وسلطنة عُمان.

عاد كامل مهنا وفي جيبه دكتوراه دولة في الطب العام من فرنسا واختصاص في طب الأطفال في العام 1973. إمكانيات علمية وطبية سرعان ما تابع توظيفها في خدمة قضايا بلده وناسه. ومع عيادته الخاصة تطوع في مناطق الفقراء في النبعة وتل الزعتر ليعيش حصارهما ويصاب خلال الحرب الأهلية الدامية التي كان من أبرز المناهضين لها وللاقتتال الأهلي. ومع اشتداد الحصار، بقي ظل كامل مهنا الطبيب الوحيد الذي يسعف المصابين ويداوي المرضى في أكثر من اختصاص. عمل استمر إلى حين سقوط منطقتي النبعة وتل الزعتر حيث خرج مع الصليب الأحمر الدولي وبواسطة البروفسور أرنست مجدلاني.

من تل الزعتر والنبعة إلى الدامور، سكن مهنا مع النازحين بسبب الحرب ليؤسس جمعية النجدة الاجتماعية التي كانت تهتم بالمخيمات الفلسطينية في العام 1977.

ومع العدوان الإسرائيلي في العام 1978 على جنوب لبنان وتدمير بلدته الخيام وطرد أهلها وارتكاب المجزرة الجماعية بحق المسنين فيها، شعر مهنا أنه لا بد من تأسيس مؤسسة «عامل» التي اندرجت في سياق ورشة أطلقتها «الحركة الوطنية اللبنانية» وقوى اليسار اللبناني لإنشاء مؤسسات لدعم الصمود الشعبي.

لكن انطلاقة «عامل» الفعلية جاءت إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 فافتتحت ثلاثة مستشفيات ميدانية و27 مركزاً صحياً اجتماعياً، ووضعت في الخدمة ثلاثين سيارة إسعاف، وأوفدت إلى الخارج 1200 جريح للعلاج، وركّبت 400 طرف اصطناعي لذوي الإعاقة من ضحايا العدوان بالتعاون مع الحكومة الهولندية.

بعد الاجتياح الإسرائيلي، تابع كامل مهنا نضاله الوطني الشخصي وعبر «عامل» المؤسسة التي قلّما انفصلت عن مسيرة مؤسسها. مؤسس لم يتوقف عن تحقيق إنجازاته الشخصية بموازاة تمدد وانتشار «عامل» التي افتتحت مركزاً لها، من ضمن مراكز أخرى كثيرة في عرسال المنسية في لحف سلسلة جبال لبنان الشرقية، ما زال صامداً حتى اليوم. مركز عابر للخلافات والانقسامات الحادة في البلاد بدا في الآونة الأخيرة كرسالة من ابن الخيام الجنوبية في قلب مواجهة عرسال للإرهاب واستباحة أمنها الحياتي والاجتماعي. رسالة أكدت جدواها عندما حاول المسلحون إحراق «عامل» العرسالية فتصدى لهم أبناء عرسال.

تنظر اليوم إلى المناضل ابن السبعين فلا تجد سوى توقده النضالي وحماسته. ما زالت الأحلام كثيرة في رأسه المعجون بخبرة سنوات طويلة من العطاء والتخطيط والتنفيذ والإنجازات في كل القطاع الأهلي، وعينه مفتوحة على فرصة نيل مؤسسة عامل الدولية جائزة نوبل. هذا لا يجعله يغفل عن احتياجات المناطق التي تخدم فيها مراكزها الـ24 حالياً اللبنانيين واللاجئين السوريين، عبر 800 متفرغ في كل لبنان، إضافة إلى مراكز المؤسسة في فرنسا وسويسرا وهولندا واليونان.

جائزة نوبل بالنسبة لكامل مهنا «مهمة ليس فقط لأنها تنصف 38 عاماً من نضال «عامل الدولية»، بل لأنها تمنح المجتمع المدني اللبناني الذي طالما كانت المؤسسة جزءاً فعالاً منه وشريكة حقيقية، حقّه كمجتمع شكل رافعة لخدمة الناس وتعويض غياب الدولة واستمراره في الخدمة حتى اليوم ولعبه دوراً بارزا في إغاثة النازحين أيضاً».

يكفي أن نعرف أن في لبنان اليوم 860 مستوصفا ومركزا صحيا بينها 760 تابعاً للمجتمع المدني ومئة مركز رسمي فقط تابع للدولة.

أن تنال «عامل» جائزة نوبل غداً، ليس ختام مسيرة مهنا، بل استحقاق تترتب عليه مسؤوليات كثيرة وأحلام أكثر.

الشراكة في «نوبل» بين لبنان واليونان

تضم «عامل» اليوم 24 مركزاً صحياً واجتماعياً، ولديها ست عيادات نقّالة، ويعمل فيها 800 متفرغ. يفخر مؤسسها د. كامل مهنا أنها «تشتغل عكس الثقافة السائدة في العالم العربي بعدياً عن الحسابات السياسية والطائفية والدينية والجغرافية، وتحت شعار «التفكير الإيجابي والتفاؤل المستمر».

تنتشر «عامل» في معظم المناطق اللبنانية، لديها خمسة مراكز في قضاء مرجعيون ـ حاصبيا، ومركزين في عين الرمانة وفي الشياح من النقطة التي اندلعت فيها الحرب الأهلية، بالإضافة إلى مراكز في عرسال وكامد اللوز وغيرها من المناطق.

قدمت حتى الان مليون وخمسمئة خدمة للسوريين، وهي من اجل هذا السبب مرشحة لجائزة نوبل المتخصصة بموضوع اللاجئين هذا العام.

وتم تقديم فكرة الترشح لجائزة نوبل على أساس التشارك بين جزيرتي ليسبوس ولامبادوزا اليونانيتين اللتين تستقبلان اللاجئين وبين لبنان تحت شعار التضامن بين الشمال والجنوب، وهي شراكة يدعمها مجلس العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي والفاتيكان، وحظوظ نيلها الجائزة كبيرة.

تعليقات: