الحركة النقابية في لبنان.. قراءة في التجربة


لم يكن في مرحلة الحكم العثماني تشريع واضح يهتم «بعالم العمل» وظروفه وقواه وعلاقاته. ما كان سائداً، عملياً، هو نمط الجمعيات المهنية والطوائف المهنية الذي جاء تنظيمها متأخراً نسبياً (قانون 24 نيسان 1912). انحصر هذا التنظيم، الى حد بعيد، في تحديد الأعضاء الشرعيين للجمعيات على أن يكونوا من أسياد هذه المهن، وطريقة انتخاب الرؤساء بهدف الحد من تحركاتها الاعتراضية.

إن نمط الجمعيات او الطوائف المهنية في تلك المرحلة كان يقوم، من حيث المبدأ، على أسس تقليدية سواء في بنائها او في علاقاتها. فبناؤها كان قائماً على شكل هرم يتربع على رأسه السيد او المعلم او الشيخ او «الريس». وتتدرّج قاعدته على أساس درجة المهارة في الحرفة، فيكون الصانع ثم المبتدئ في الصنعة او الحرفة. أما لجهة العلاقات فتبدو أطاراً مغلقاً تسوده علاقات تضامنية على اساس الموقع في الحرفة، وهي لا تخضع لقواعد محددة وواضحة في طريقة تنظيم العمل وشروطه وبيته وعلاقاته وحل نزعاته. لذلك يمكن القول إن النقابة بالمفهوم الحديث لم تكن معروفة، مبدئياً، في المنطقة عامة وفي لبنان خاصة.

ما عرفته المنطقة في مرحلة ما بين 1908 تاريخ صدور الدستور العثماني والعام 1920 تاريخ بداية الانتداب الفرنسي على لبنان وإعلان دولة لبنان الكبير، هو تبلور أشكال من التنظيمات والتجمّعات والأحزاب السياسية على أساس القانون العثماني الصادر في 13 آب 1909، والمعروف بـ «قانون الجمعيات» الذي لم يميز بين الحزب والجمعية والنادي والنقابة. لذلك كثيراً ما نجد أسماء جمعيات هي بالأساس أحزاب سياسية.

اذا كانت النقابة كإطار حديث مقارنة بما كان سابقاً، فكيف تبلورت الحركة النقابية في الاجتماع السياسي اللبناني الناشئ؟ وما هي خصائصها العامة؟ وما هي طبيعة العلاقة التي حكمت النقابات مع الدولة؟ وما هو المسار الذي اتخذته هذه العلاقة؟ وما هو تأثير هذه النشأة وخصائصها على واقع الحركة النقابية اليوم؟ وبالتالي ما هو واقع هذه الحركة وآفاق تطورها في ظل هيمنة التيار الديني؟

من هنا تركز هذه الدراسة على الحالة اللبنانية بالتحديد لغناها من جهة، وعراقة تجربتها من جهة ثانية، ولأنها تمثل نموذجاً لتدخل التيار الديني في الآونة الأخيرة وتأثيره على طبيعتها من جهة ثالثة، الأمر الذي يفتح آفاقاً للنقاش والدراسات حول وضعها ومجالات تطورها.

النشأة الأولى

يعتبر العام 1920 محطة مفصلية في تاريخ المنطقة عامة، ولبنان خاصة. فقد تكرّس انتهاء الحرب الكونية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية بصيغ قانونية («مؤتمر سان ريمو» 22 نيسان 1920)، واقتسام الدول المنتصرة لتركة «الرجل المريض» عبر صيغة اتفاقية «سايكس بيكو» 1916 و «وعد بلفور» 1917. وبالتالي الإعلان عن دولة لبنان الكبير (31 آب 1920).

ظهور الحركة النقابية كفكرة حديثة وعصرية لتحديد العلاقة بين أطراف العمل (عمال، أصحاب عمل، الدولة)، وكشكل من أشكال التعاون والمشاركة أو الاتحاد الذي تقيمه مجموعة من الأفراد الذين يعملون في مهنة واحدة من أجل الدفاع عن مصالحهم وحمايتها، وتأمين الخدمات والضمانات الاجتماعية، ترافق مع بدايات مرحلة الانتداب وقيام دولة لبنان الكبير، الأمر الذي يجعل تاريخ الحركة النقابية متداخلاً مع التاريخ الحديث للبنان ومتلاحماً معه، وإحدى المقاربات المهمة لمتابعة تطوره السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

من هنا نلاحظ قيام مجموعة من التشكيلات السياسية والنقابية منها على سبيل المثال:

ـ «جمعية عمال السكك الحديدية» 1919. ولا تتوفر معلومات معمّقة عنها، إلا أنها قامت بما يمكن اعتباره أول أضراب من أجل زيادة الأجور. وقد تمّ قمعه من قبل القوات الفرنسية.

ـ «حزب العمال» في لبنان الكبير في بيروت (1-5ـ1921)، الذي خلف اتحاد العمال العام (1919) وهدفه التعاون بين العمال وأصحاب العمل والتعاون مع دولة الانتداب.

- «نقابة العمال الزراعيين» لجبل لبنان المؤيدة للانتداب الفرنسي.

خصائص الانطلاقة

إن متابعة الحركة النقابية في لبنان وقراءة التجربة وتحليلها توصل الى مجموعة من الاستخلاصات الأولية التي تكمن أهميتها في أنها أقرب لخصائص وسمت الحركة النقابية، لدرجة يمكن القول إن العديد من هذه الخصائص لم تزل حاضرة بشكل أو بآخر في صميم الحركة النقابية. ومن أبرز هذه الخصائص هو الآتي:

ـ أهمية فكرة الدولة الحديثة: إن تبلور الحركة النقابية ترافق مع قيام شكل جديد للاجتماع السياسي اللبناني، والمتمثل في الإعلان عن قيام الدولة اللبنانية. فقد عكس قيام الدولة كنموذج عصري ـ حديث يتماثل مع النموذج الأوروبي - الغربي نفسه على التشكيلات المجتمعية، ومنها التنظيمات النقابية. فغدت الدولة مركز الاستقطاب ومركز التوجّه الذي يقصده أبناء الوطن لمعالجة قضاياه من جهة، وغدت النقابات ظاهرة مدنية في الاجتماع السياسي اللبناني من جهة ثانية، ومكوّناً من مكوناته من جهة ثالثة.

من هنا فإن فكرة الدولة واهميتها وضرورتها كانت من المؤشرات المهمة التي عززت قيام اشكال مجتمعية وسياسية جديدة. وما يعزز هذه الملاحظة هو الموقف الإيجابي للحركة النقابية الناشئة وبتلاوينها المتعددة من قيام الدولة اللبنانية. بمعنى آخر فإن الحركة النقابية، وبرغم البعد السياسي لأطرافها، لم تطرح فكرة قيام الدولة الجديدة على بساط البحث او المساءلة، الأمر الذي يدفع الى القول إن هناك نوعاً من التمييز بين فكرة الدولة كضرورة والموقف من السلطات المتعاقبة وطبيعة النظام السياسي القائم في هذه الدولة.

ـ تداخل الحزب بالنقابة: إن عدم الفصل بين النقابة والحزب السياسي كان حاضراً بقوة. فحزب العمال العام كان «امتداداً» ما، او على علاقة بعدد من الجمعيات التي اعتبر بعضها فروعاً له (مثل جمعيتي النجارين والحلاقين، نقابة الطهاة) برغم من عدم وضوح هذه العلاقة. ونقابة عمال زحلة طمحت الى ان تتحول الى حزب، ونقابة عمال الدخان في بكفيا كانت أهم الروافد لقيام «حزب الشعب»، ثم الحزب الشيوعي اللبناني. بل يشير البعض الى ان فؤاد الشمالي استعان بالنقابة لنشر «الفكرة البلشفية بين العمال».

وبرغم أن هذا التداخل بين الحزب والنقابة قد يعود في جزئه الأساس الى طبيعة القانون العثماني (قانون الجمعيات 1909) الذي بقي سارياً في المراحل اللاحقة. غير أن الأزمة في هذا التداخل تكمن في أن التنظيمات النقابية اعتمدت كنمط لعمل الأحزاب ونشاطاتها، واعتبرت في مراحل لاحقة كأطر واجهية يمارس الحزب السياسي من خلالها نشاطه التعبوي او التحريضي او المعارض للسلطة.

ـ تأثير الأفكار التحررية والتغييرية: تأثرت بدايات الحركة النقابية بالأفكار الليبرالية وشعارات الثورة الفرنسية. غير أن تأثير الأفكار الماركسية كان أكثر فاعلية وتبلوراً (نقابة عمال الدخان في بكفيا)، الأمر الذي ترك بصماته لاحقاً على علاقة النقابات بالسلطات المتعاقبة.

ـ حدود الانتشار: انحصرت أغلب هذه التجارب في البدايات الأولى في نطاق جغرافي محدد وضيق. (نقابة مزارعي الدامور في الدامور، نقابة زحلة في زحلة، حزب العمال في بيروت). وقد تكون هذه الخصيصة من العوامل التي ساهمت في تقليص نفوذها، مقارنة بنقابة عمال الدخان في بكفيا التي كانت أوسع انتشاراً.

ـ البُعد الثقافي: قامت علاقة قوية ومتينة بين البدايات الأولى للحركة النقابية والصحافة في تلك المرحلة. فغدت قضايا العمال والشغيلة هماً مجتمعياً. قد يعود هذا الأمر الى ان النقابة كظاهرة مدنية حديثة كانت أقرب لحزب سياسي او تهيئ نفسها لتصبح حزباً سياسياً يضم المثقفين. لذلك تصبح اخبار النقابة مادة تستقطب الاهتمام، خاصة وان غالبية رموز العمل النقابي كانوا من الوجهاء واصحاب النفوذ في محيطهم الاجتماعي، مما جعلهم محط الأنظار، وجعل تحركاتهم ونشاطاتهم موضوعاً يستحق المتابعة.

لقد عزّز البعد الثقافي فكرة النقابة، بحد ذاتها، بمعنى لم تكن الفكرة قد أخذت البعد المجتمعي المعيشي لها. فنلاحظ مثلاً أن أول نشاط لنقابة عمال زحلة بمناسبة عيد الشهداء في السادس من ايار العام 1923 كان إقامتها مسرحية.

من الجدير ذكره في هذا المجال ان بعض الصحف ارتبطت، الى حد بعيد، بنقابة محددة. فجريدة زحلة الفتاة ركّزت على نقل اخبار نقابة عمال زحلة. وكانت هذه النقابة قد لاقت بداية احتضان من جريدة «الصحافي التائه». غير أن بعض الجرائد وخاصة «الصحافي التائه» حملت مباشرة القضايا العمالية واعتبرت نفسها «جريدة البؤساء والعمال»، فنقلت قضاياهم وهاجمت بعض الأحزاب التي تحمل اسمهم شكلياً من دون ان تعبر عن حقيقة أوضاعهم مثل «حزب العمال في بيروت».

ـ الابتعاد عن الانقسام المجتمعي: حملت البدايات الأولى للحركة النقابية هموماً بعيدة عن طبيعة الانقسام المجتمعي الذي رافق قيام دولة لبنان الكبير. وبرغم أن رواد الحركة النقابية هم بأغلبهم من المسيحيين، فإن الهم الذي حملته النقابات كان مدنياً غير تقليدي، ومجتمعياً غير طائفي، الأمر الذي ساهم في إرساء نموذج مغاير، الى حد ما، عن الانتماءات الطائفية واصطفافاتها السياسية من جهة، وساهم من جهة أخرى، وإن بحدود بسيطة وأولية، في تشكيل وعي مدني ـ مجتمعي قاعدته هموم الناس ومشاكلهم المعيشية والحياتية، بشكل عام والعمال منهم بشكل خاص، خارج الانقسام المجتمعي المرضي. وهذا يجعل، أو يفترض، أن يجعل الحركة النقابية اتجاهاً توحيدياً في المجتمع، او على الأقل يفرض اتجاهاً آخر للصراع المجتمعي خارج او متعاكس مع الصراع الطائفي ـ المذهبي. ومن المفارقات المؤلمة جداً أن واقع الحركة النقابية اليوم وبعد ثمانية وثمانين عاماً على بداياتها وقيام دولة لبنان، اصبحت أكثر تراجعاً عن صفاء البدايات الأولى وآمالها وطموحاتها ودورها المجتمعي التوحيدي غير التفتيتي.

..

إذا كانت مرحلة الانتداب الفرنسي (1920-1943) هي، من حيث المبدأ، مرحلة تبلور البذور الأولى للحركة النقابية في لبنان بشكل عام، ومرحلة ما يمكن أن نسمّيه تبلور المؤسسات المدنية بشكل خاص، في ظل «الوعد» أو الطموح لناحية قيام دولة حديثة ـ عصرية، فإن هذا التطور المهمّ بقي محكوماً في مرحلة الاستقلال بطبيعة البنية المجتمعية وبناها التقليدية من جهة، وبطبيعة السلطة السياسية المنبثقة عنها وتدخّلاتها من جهة أخرى.

لقد ورثت دولة الاستقلال (1943) مختلف أشكال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت في صميم الاجتماع اللبناني وعمّقتها. وبالتالي لم تستطع الاتجاهات الليبرالية للدولة اللبنانية أو ما سُمّي «بالمعجزة الاقتصادية اللبنانية» أن تعالج الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية البنيوية (لأسباب داخلية وخارجية)، فازداد الاختلال بين القطاعات لمصلحة قطاع الخدمات والتجارة، واشتدت حركة النزوح الريفي إلى العاصمة، وغابت عمليات التخطيط المديني، وتراجعت حركة الإنماء وازدادت الفروق والفوارق الاجتماعية، وتعمّقت أشكال التمظهر الطائفي، الأمر الذي أبقى البلد مشدوداً وقابلاً لتوليد الصراعات الداخلية.

هذه الوضعية عبرت بشكل مباشر أو غير مباشر عن قصور الأطر السياسية، الرسمية منها وغير الرسمية. وهي بالتالي انعكست على مسيرة مؤسسات المجتمع المدني، ومنها التنظيمات النقابية، فعرقلت نموها وأبقتها أسيرة البنية المجتمعية وآفاتها. يمكن القول، من حيث المبدأ، إن الحركة النقابية خضعت منذ الاستقلال 1943 وحتى العام 1970 لاتجاهين:

الاتجاه الأول قريب من السلطة ويدعو للتفاهم معها، وتبني سياساتها واتجاهاتها الاقتصادية، مثله عدد من الاتجاهات النقابية منها على سبيل المثال «جامعة نقابات العمال والمستخدمين في لبنان» 1948، و «اتحاد النقابات المتحدة» 1952 ويضمّ الاتحاد أجراء المصارف والمرفأ و «الريجي» والكهرباء والسكك الحديدية و «اتحاد النقابات المستقلة» 1954. وقد عبّر هذا الاتجاه النقابي المتقارب في غاياته عن نفسه بإنشاء «الاتحاد العمالي العام في لبنان» العام 1958.

الاتجاه الثاني غلب عليه الطابع «اليساري» ببعده السياسي والعقائدي (شيوعي، بعثي، اشتراكي...) ولم يتبلور في شكل اتحاد لتعارضه مع السلطة ومعارضتها له. وقد تمكّن هذا الاتجاه العام 1962 من إيجاد غطاء سياسي رسمي لنشاطه عُرف باسم «جبهة التحرر العمالي» التي كان لكمال جنبلاط الفضل في إنشائها. ثم تبلور هذا الاتجاه بإعطاء الدولة العام 1966 «الترخيص» لإنشاء «الاتحاد الوطني للنقابات واتحاد نقابات الجنوب» و «اتحاد المصالح المستقلة».

ظل الصراع قوياً بين الاتجاهين وهيمن الانقسام الشديد على الحركة النقابية في لبنان. غير أن تفاقم الأوضاع المعيشية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية في أواخر الستينيات فرض تخفيف الصراع النقابي والحدّ من انقساماته، فكان المجلس الأعلى للنقابات الذي جاء تتويجاً للمؤتمر العمالي العام (1967). وتعمّق هذا المناخ الجديد بقيام «الاتحاد العمالي العام» (1970) ليكون الناطق باسم جميع النقابات والجامع لتنظيماتها والمعبّر عن تطلعاتها، من دون أن يلغي ذلك التباينات والاختلافات بينها. إذ عبّر الاتحاد عن «تسوية» ما في ظل تأزم الأوضاع المعيشية والحياتية والانقسامات المجتمعية المتحكّمة في البلاد والعباد.

لقد شهدت مرحلة ما قبل الانفجار الداخلي 1975 تصاعداً مهماً في وتيرة النضال النقابي، ونمواً واضحاً لاتجاه مدني - مجتمعي مغاير للانقسام الطائفي. وتولد في البلد في بداية السبعينيات من القرن الماضي وعي مدني ـ مجتمعي اخترق، إلى حد بعيد، الانقسام السائد ومظاهره. وكانت الحركة النقابية ممثلة بـ «الاتحاد العمالي العام» نقطة التقاء الفئات اللبنانية من شباب وطلاب جامعيين وثانويين وأجراء وعمال ومزارعين ومثقفين، فضلاً عن الكثير من القوى السياسية.

من هنا، وعلى هذه الخلفية المدنية ـ الاجتماعية، كانت علاقة الحركة النقابية بالدولة تتّسم، من حيث المبدأ، بالتوتر ويغلب عليها التصادم والشك المتبادل، خاصة أن السلطة كانت غائبة عن متابعة قضايا الناس وهمومها الحياتية من صحة وتعليم وسكن وضمانات اجتماعية وفرص عمل. ومن جهة ثانية، كانت القضايا المطلبية «تخفي» مضامين «سياسية»، ويغلب على قيادتها وتحركاتها اتجاهات «يسارية»، ما عمق الشرخ بين السلطة العاجزة والقوى المدنية عامة وتنظيمات الحركة النقابية خاصة.

إن اندلاع الحرب الأهلية (1975-1990) أدّى إلى تجميد الحركة النقابية ونشاطاتها من دون أن يُلغيها. وبالتالي لم يعد ثمّة مجال للحديث عن علاقة واضحة بين السلطة والحركة النقابية. على أن الإشارة الأساسية والجوهرية تكمن في أن الحركة النقابية لم تنسَق، عملياً، إلى أتون الانقسام الطائفي ومظاهره العنفية، بل وقفت بوجه المسار التفتيتي الذي كاد أن يقضي على الوطن وأبنائه. ولعل تظاهرة «الاتحاد العمالي العام» بتاريخ 9-11-1987 ضد الحرب ونظامه وآلياته ورمزه وقواه، أبرز مظاهر التعبير عن رفض منطق الحرب، حيث التقى لبنانيون من شطري العاصمة في بيروت أمام المقرّ المؤقت للمجلس النيابي على خط التماس بين منطقتي المتحف والبربير، وأزالوا خطوط التماس. وكانت هذه التظاهرة أول انتفاضة مدنية وأهمها لتحطيم فكرة الحرب الأهلية بين اللبنانيين.

تحوّلات جذرية

إذا كانت سياسة السلطات اللبنانية المتعاقبة عبر تاريخ لبنان الحديث تقوم على التدخل في شؤون الحركة النقابية من أجل الهيمنة عليها، إلا أن مرحلة ما بعد الطائف كانت الأكثر فجاجة وضرراً، حيث كان التدخل السياسي والتنظيمي والأمني في العمل النقابي، وفي ظل الوجود السوري، نهجاً ثابتاً سواء مباشرة أو من خلال تفريخ النقابات وتركيب الاتحادات لضرب «الاتحاد العمالي العام» وإضعافه، والتحكم بتحركه والسيطرة على قراره.. الأمر الذي ترك بصماته على واقع «الاتحاد العمالي العام» وتحركاته بعد الانسحاب السوري من لبنان (نيسان 2005)، لدرجة يمكن القول معها، مجازاً، إن الحركة النقابية في ظل غياب السلطة اللبنانية (خلال الحرب الأهلية) كانت أقوى وأكثر استقلالية مما هي عليه الآن.

لقد عمدت السلطة ممثلة بشكل خاص بوزارة العمل ومنذ العام 1991 إلى شلّ الحركة النقابية واختراق بنيتها وعزلها عن قواعدها ومصادرة قرارها، لتكون أكثر مطواعية وأسهل انقياداً. وفي العام 1992، حاولت فرض هيكلية نقابية جديدة قوامها نقابة واحدة للمهنة الواحدة على مستوى لبنان أو على مستوى المحافظة. ولم يكن هذا المشروع نقابياً فحسب، بل عملاً سياسياً بامتياز، بحجة العمل على تخطي الانقسامات الطائفية والحزبية في الحركة النقابية.

وبرغم أهمية هذا التوجّه وطنياً، غير أن الهدف الأساسي من مشروع التنظيم المقترح كان تحويل «الاتحاد العمالي العام» إلى أداة سياسية بيد السلطة، كما هو سائد في بعض الأنظمة العربية. ولتوضيح هذا المعنى وتأكيده، فإن الهيكلية التي كانت مقترحة مؤلفة من 96 مادة بينها 36 مادة تعطي الحق لوزارة العمل بالتدخل في الشؤون الداخلية للنقابات. وبالتالي، فإن القصد كان واضحاً. حيث أعلن وزير العمل أن عدم القبول بهذه الهيكلية سيدفعه كوزير إلى إنشاء نقابات جديدة. فكما أن هناك نقابات لأحزاب «الكتائب» و «الشيوعي» و «الاشتراكي»، سيكون هناك نقابات لـ «حركة أمل» و «حزب البعث» (السوري) و «السوري القومي الاجتماعي»، ولاحقاً أصبح لهذه القوى حضورها إضافة لـ «حزب الله».

لذلك، يلاحظ أن «الاتحاد العمالي العام» بدأ يتضخّم رويداً رويداً وينتفخ بشكل غير طبيعي. فقد بدأ بحوالي 22 اتحاداً، ويضم اليوم ما يزيد عن 37 اتحاداً. بمعنى آخر يتضخم الرأس ويهزل الجسم النقابي - القاعدي. حيث إن الدراسات، على اختلافها، تبين هزالة عملية الانتساب إلى صفوف النقابات وتراجعها. وهي في أحسن تقدير لا تتجاوز 5 في المئة من العاملين.

مكمن الأزمة

إن الأزمة ليست، مبدئياً، في الزيادة الحاصلة في عدد الاتحادات. بل في أن هذه الزيادة لا تعبر عن ضرورة اجتماعية ـ نقابية، بقدر ما هي حاجة سياسة ـ طائفية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالواقع النقابي ومستلزماته. وهذا تراجع فاضح وخطير مقارنة بما كانت عليه الحركة النقابية.

لقد ذبل الخلاف الإيديولوجي (يساري ـ يميني) وتهمش لمصلحة البعد الطائفي ـ المذهبي، الأمر الذي يجعل الحركة النقابية خارج منطقها، وفي منأى عن مبرر وجودها، ما يهددها ويجعلها إحدى وسائط الانقسام المجتمعي (بعدما كانت أحد عناصر توحيده). وهذا يبدو متناقضاً مع تراث الحركة النقابية وتاريخها. من هنا، فقد غدت اختراقات السلطة السياسية، كما الأحزاب السياسية في هذه المرحلة (ما بعد الطائف) أخطر من المراحل السابقة، وأكثر ضرراً.

لقد تراجعت القوى غير الطائفية في الحركة النقابية أمام زحف القوى الطائفية والمذهبية. والأزمة لا تكمن فقط في «تطييف» التنظيمات النقابية أو في تفتيتها وتهميش دورها. بل إن القوى الطائفية والمذهبية لا تتابع، عملياً، القضايا المجتمعية - النقابية ـ المطلبية، بقدر ما تصادرها ساعة تشاء لأغراض خارج هموم الحركة النقابية وقضاياها.

إذا كان المأخذ على الاتجاه غير الطائفي عامة، واليساري ضمنه خاصة، هو مصادرته بعض النقابات واعتبارها واجهة للعمل السياسي ـ الحزبي، وعدم وعي هذه القوى لأهمية استقلالية الحركة النقابية وضرورة هذه الاستقلالية، فإن القوى الطائفية والمذهبية اليوم تعيد إنتاج الدور ذاته مع اختلاف في التوجه والخلفية والأبعاد.

من هنا يمكن القول إن تطييف الحركة النقابية يغيّب فكرة الدولة الحديثة ـ العصرية، ويكرس فكرة الدولة المزرعة والمحاصصة و «البقرة الحلوب». لقد تبلورت النواة الأولى للحركة النقابية في لبنان مع بدايات الدولة الحديثة. لذلك، فإن قيام الدولة يصبح هدفاً تسعى إليه الحركة النقابية، لأنه شرط لتطوير المجتمع ورقيه. وفي ظل قيام الدولة الحديثة العصرية، تصبح الحركة النقابية فاعلاً مجتمعياً وظاهرة مدنية مستقلة وقادرة على المشاركة في تقرير السياسات الوطنية المتعلقة بالشؤون الاجتماعية والتعليمية والصحية (إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، المجلس الاقتصادي الاجتماعي...). وهذا ما يعزز دورها المطلبي والوطني. والعكس صحيح ايضاً.


تعليقات: