قصّة معركة قضائية لاسترجاع 3 عقارات لآل العبدالله من «الشركة اليهودية الاستعمارية»

الدولة اللبنانية «حارسة قضائية لأموال العدو» ووضعت يدها على عقارات الحاج خليل عبدالله في الخيام في العام 1951 (عباس سلمان)
الدولة اللبنانية «حارسة قضائية لأموال العدو» ووضعت يدها على عقارات الحاج خليل عبدالله في الخيام في العام 1951 (عباس سلمان)


ثمانون عاماً ولمّا تزل أسرة خليل عبدالله تناضل لاستعادة أرضها من قبضة الاحتلال الإسرائيلي. وعندما لم تمدّها الدولة اللبنانية بـ«الذخيرة» القانونية لاسترجاع آلاف الدونمات المغتصبة، قرّرت خوض المعركة وحدها، سالكة جلجلة الدعاوى القضائية الطويلة، ضد «الشركة اليهودية الاستعمارية الفلسطينية».

يوغل سامر عبدالله، حفيد خليل، في الذاكرة. يستعرض الوثائق التي تعيد ترتيب الأحداث. لا يحاول فتح الكوّات المسدودة بالنسيان. لا هو استطاع أن ينسى ولا أحد من «شجرة» العائلة، المصرين على متابعة صراعهم غير القابل للمساومة، فـ«الحق حق، لا بل إنّه واجب وطني مقدس»، كما يقول.

يستند سامر إلى صك البيع العادي الذي تملك جده بموجبه ثلاث مجموعات من الأراضي، بعدما اشتراها من المطران بطرس الجريجيري، مطران بانياس، في 17 آب 1897، أي قبل أيام من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، الذي أعلنت فيه أهداف الحركة الصهيونية، فبدأت الآلة الاستيطانية تعمل في السر والعلن لإقامة ما يسمى الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين.

تضم المجموعة الأولى العقارات الرقم 16 و38 و39، مساحتها 189 دونماً و300 متر مربع في منطقة الخيام العقارية وحدودها المطلة جنوباً.

تضم المجموعة الثانية العقارات من الرقم 3571 لغاية الرقم 3605 في منطقة الخيام العقارية أيضاً.

أما المجموعة الثالثة فتضم العقارات من الرقم 116 لغاية الرقم 122، والعقارات من الرقم 202 لغاية الرقم 207، ومساحتها 400 دونم.

يصر سامر على إبراز مستند آخر. لماذا؟ لأن لكل اعتداء إسرائيلي طقوساً وطلاسم وأن لكل تقاعس من الدولة اللبنانيّة أصولاً وأسراراً. في حزيران 1920 يتم اختيار الحاج خليل المعروف بالتزامه القومي وتمسكه بعروبته، مندوباً عن مرجعيون في حكومة الملك فيصل بن الحسين في الشام. «وإذ اعتبرته حكومة الانتداب الفرنسي الحاكمة آنذاك خطراً على مصالحها، نفته إلى حوران وقامت بنهب بيته»، يروي سامر. يتابع: «لكن جدي تمكّن من استعادة زمام الأمور. وها هي الشركة اليهودية الاستعمارية تطرق بابه وتغريه بالمال الوفير ليتخلى عن أرضه، فيقابلها برفض حازم، وهي جهاز من ضمن منظومة تمويل الحركة الصهيونية ومن متفرعات منظمة الاستعمار اليهودي «البيكا» التي أنشأها المليونير اليهودي روتشيلد في العام 1883 لإقامة المستعمرات، فبنت 42 منها بعدما اشترت نحو 450 ألف دونم».

بالرغم من استغلال الحاج خليل أرضه في زراعة الحبوب، إلا أنه تم مسح عقارات المجموعة الأولى مسحاً اختيارياً في 23 شباط 1933 وفقاً للقرار 2576/29 الصادر عن المفوض السامي الفرنسي على اسم شخص يدعى هنري فرنك، فرنسي الجنسية ومقيم في باريس، وكان مجرد كومبارس لإنجاح الخديعة، وسرعان ما تنازل عن العقارات لمصلحة الشركة اليهودية الاستعمارية. لم يتوانَ الحاج خليل عن تسجيل اعتراضه كما يظهر محضر التحديد نفسه ضمن المهلة القانونية كمالك للعقارات، ولم يكن هو المعترض الوحيد. فحنا س.، أمين السجل العقاري في مرجعيون، سجل اعتراضاً مدعياً ملكية القسم الشرقي من العقار الرقم 16 بموجب صك طابو باسم الحكومة اللبنانية، وسجل ناصيف ص.، رئيس مكتب منطقة مرجعيون العقارية، اعتراضاً آخرَ مدعياً أن العقارات مرهونة لأمر الحكومة اللبنانية، «البنك الزراعي»، ما يؤكد ملكية الحاج خليل لها، علماً أن هذا الأخير سدد ما عليه من دين وفك الرهن والحجز عنها كما تثبت إفادة رئيس المكتب المعاون في مرجعيون لاحقاً. ما منعه من المراجعة هو عدم اعتراض أحد على استغلاله كامل عقاراته حتى وفاته في العام 1944، فضلاً عن أن المحكمة ذات الصلاحية جمّدت الملف ولم تعين جلسة وتدعوه وخصمه إلى جلسة محاكمة عادلة. وقد نصحه محامون بعدم التورط في الدعاوى القضائية، كما يؤكد الحفيد.

الأمر الطارئ الذي بدّل مجرى الأمور هو أن الدولة اللبنانية أصبحت «حارسة قضائية لأموال العدو»، سنداً إلى القرارات الخاصة بحراسة هذه الأموال، وخصوصاً القرار الرقم 198/41. كذلك القانون الذي قضى بممارسة الحكومة اللبنانية جميع الصلاحيات المعطاة لها كحارس لأموال العدو والمرسوم الرقم 7327 الذي يمنح وزير المال جميع الصلاحيات المعطاة إلى الحكومة في هذا المجال والصادرين في 31 تشرين الأول 1946. وقد وضعت يدها على العقارات في العام 1951 ومنعت ورثة الحاج خليل من التصرف بأرضهم، وتحل مكان الشركة الصهيونية، اثر تراجع نشاط الأخيرة إلى فلسطين المحتلة بعد النكبة.

في العام 1949 تم مسح عقارات المجموعة الثالثة مسحاً إجباريا بناء على القرار 186/26 على اسم «شركة خطوط الأنابيب عبر الأراضي العربية» (التابلاين). ونظراً إلى الوضع المضطرب في ذلك الحين لم يتم الاعتراض على المسح ضمن المهلة، فخسر آل عبدالله هذه المجموعة.

لكن المشكلة الأعقد حلت حين أخضعت عقارات المجموعة الأولى لمسح إجباري على اسم الشركة اليهودية. وجرى المسح الإجباري لعقارات المجموعة الثانية التي لم تكن قد خضعت لمسح اختياري سابق وذلك في تشرين الأول وتشرين الثاني من العام 1959، وصار الاعتراض عليها من آل عبدالله في 4 تشرين الثاني 1960، أي ضمن المهلة القانونية. ولم يكن قد مر الزمن العشري المكسب للملكية بين تاريخ وضع الأراضي تحت الحراسة وتاريخ الاعتراض. أما وقد أحس الورثة أن الأرض تنزلق من بين أصابعهم، فقد تقدموا بدعوى رقمها 229/1966 لاسترجاعها. وكانوا قد وجهوا كتباً عدة إلى وزير المال عبر قائمقام مرجعيون ومحافظ الجنوب طالبين إلغاء قرارات تلزيم أراضيهم وطرحها بالمزاد العلني للضمان من الغير، مبدين استعدادهم لدفع الكفالة اللازمة لتسليمها لهم حتى إذا فصلت المحكمة بملكيتهم لها ترفع الكفالة، وإلا كانوا ملزمين بدفعها. كل ذلك للحيلولة دون جعل تلك الأرض ممراً للعملاء والجواسيس ومعبراً إلى إسرائيل كما أثبتت محاكمات شولا كوهين وعملائها في الخيام التي ذاع صيتها آنذاك.

في 23 تموز من العام عينه، ينتقل الخبيران ألفونس رزق الله وجورج شمعون المعينان من جانب المحكمة إلى مواقع العقارات. وبعد الكشف الحسي والاستماع إلى الشهود ينظمان محضراً يؤكد مطابقة صك البيع على العقارات وتصرف الحاج خليل بها وورثته من بعده تصرف المالكين لها بشكل هادئ وعلني ومستمر حتى العام 1951.

في 10 آذار 1967 صدر القرار الرقم 183 عن القاضي العقاري في صيدا، يرد فيه اعتراض آل عبدالله. وفي 7 كانون الأول صدر قرار مماثل يحمل الرقم 315، إذ إن «التحديد الاختياري له قوة مفعول التحديد الإجباري، والاعتراض على التحديد الاختياري لعقارات المجموعة الأولى يقتضي ترقينه (الشطب) لعدم ثبوت أنهم قد تقدموا بدعوى دعماً لاعتراضهم وإن دعواهم الحالية قدمت خارج المهلة». وهكذا يكون القاضي قد ثبت ملكية «الشركة اليهودية للعقارات» بناء على سبب شكلي محض، علماً أن عمليات المسح الاختياري تمت طي الكتمان، غير مستوفية الشروط الشكلية الجوهرية، ما يجعلها باطلة، ويستتبع بطلان تثبيت الملكية الذي تم بناء عليها، خصوصاً أن خريطة المساحة لم توقع من القاضي رئيس اللجنة الدائمة، فضلاً عن غياب محضر يفيد إتمام معاملات النشر. ومهلة السنتين لإقامة الدعوى اعتراضاً على التحديد الاختياري تبقى مفتوحة أمام المعترض الذي لم يصدر في شأن اعتراضه حكم له قوة القضية المحكمة، على أن تبدأ المهلة بالسريان من التاريخ الذي يصبح فيه قرار تصديق محاضر التحديد الذي لم يصدر عن القاضي في قضيتنا نافذاً في معاملة مستكملة الشروط الإعلانية والأصولية وليس في معاملة جرت خلسة وخفية كما هي حالنا.

عندما أصدرت محكمة الاستئناف المدنية في الجنوب القرار الرقم 77 في 26 نيسان 1974 فحكمت بملكية آل عبدالله للمجموعة الثانية من العقارات، اعتبر هؤلاء ذلك انتصاراً جزئياً. فالمجموعة الأولى لم يذكرها القرار. وسواء أكان القاضي العقاري يعتبر الشركة اليهودية مالكة للعقارات بمجرد «وضع الدولة اليد عليها» ولم يرخص لآل عبدالله إثبات العكس بالبيّنة الشخصية، وكانت محكمة الاستئناف ترفض هذه الحجة معتبرة أن الدولة كانت «تدير أملاك العدو على سبيل الوديعة وبنية الحفظ فقط»، فإن الدولة كانت تحاول جعل حق إسرائيل في أرض لبنانية موضوعاً قابلاً للجدل، وافتراضاً ممكن التحقق.

ويسأل سامر عبدالله: «هل كان موقف الدولة وهي تعين محامياً للدفاع عن حقوق الشركة اليهودية التي لم تضع يوماً يدها على العقارات ولم تنازع بها، شبيهاً بضرورة نزع السلاح عن كل من يضمر العداء لإسرائيل، أم انه مجرد إجراء روتيني بريء يوكل بموجبه محام من جانب هيئة القضايا، في القضايا التي تكون فيها الدولة فريقاً في النزاع؟».

لم تقبل الدولة خسارة الأراضي بسهولة، بل تقدم محامي الدفاع عن الشركة اليهودية اللبناني ف.ط. باللائحة تلو الأخرى، معترضاً تارة على عدم إبلاغ الاستحضار الاستئنافي إلى أمانة السجل العقاري، وتارة أخرى على تعيب الكشف الذي أجراه مستشار المحكمة، مناقشاً في الشكليات.

كان العام 1975 محطة أساسية في القضية، إذ فقدت الدعوى 483/75 المتعلقة بالمجموعة الأولى من العقارات والتي تحدد موعد الحكم فيها في 12 تشرين الأول 1975. وقد تقدم آل عبدالله مراراً بطلب إفادة عن وجود هذه الدعوى العقارية فجوبهوا بالجواب الدائم: «لا وجود لها بسبب الحريق الذي أتى على جميع محتويات المحكمة». بعد استنفاد الوسائل تقدم هؤلاء في 8 تشرين الثاني 1977 بطلب تجديد الدعوى سنداً إلى المرسوم الاشتراعي الرقم 40/77. مرت ثمانية أعوام ومحكمة الاستئناف في الجنوب، التي تشك في وجود الدعوى، لا تحرك ساكناً، حتى أحيلت الدعوى إداريا إلى محكمة الاستئناف المدنية في النبطية في 9 كانون الثاني 1989.

مرّت عشرة أعوام أخرى حتى تقدمت سلحفاة القضاء خطوة وأصدرت القرار، في 25 كانون الثاني 1999 بقبول طلب التجديد وتكليف الفريقين المناقشة في الأساس.

ودخلت الحكاية مرحلة جديدة من المماطلة، بين تبادل اللوائح، وادعاء وكيل الخصم بعدم تبليغه موعد الجلسات أو عدم حضور هيئة المحكمة، فقررت المحكمة خلال تلك الفترة إعادة فتح المحاكمة ثلاث مرات لعدم جهوزية الملف للحكم، إلى أن صدر القرار الرقم 77 في 16 حزيران 2003، ليثبت باسم الشعب اللبناني ملكية «الشركة اليهودية للعقارات» 16 و38 و39، معتمدة على السبب القانوني نفسه الذي تذرع به القاضي العقاري في الحكم البدائي: «لم يتقدم آل عبدالله بدعوى دعماً لاعتراضهم في العام 1933. أما الدعوى الحالية فقد تقدموا بها خارج المهلة».

«صحيح أن ثمة تعدياً محدداً وخاصاً، لكن الجريمة عامة ومتمادية ولا تسقط بمرور الزمن بالنسبة إلينا»، يقول سامر، لذلك «فإننا رفعنا الملف إلى محكمة التمييز. ومذاك ما زال الموضوع عالقاً لديها».

يعبر سامر عن دهشته بمرارة: «هل يمكن القبول باستزراع الكيان اليهودي في رحم الأراضي اللبنانية على مساحة 200 دونم باسم القانون؟». يتابع: «إن بقاء هذه المساحة ملكاً للعدو من شأنه أن يجعلها موضوع مفاوضات بين لبنان وإسرائيل؟». ويرفض التعاطي المجتزأ والمنقوص لاعتداء إسرائيل على الأرض اللبنانية: «لن نتراجع قيد أنملة عن استرجاع أي ذرة من التراب، وأناشد المعنيين بتخمين هذه الأراضي بسعر منخفض كي تتمكن البلديات من استملاكها. فما نتمناه أن تعود أرضاَ لبنانية».

قال أحد القضاة: «نحن لا نصنع القانون، إنما نقول القانون». أما ملكيّة تلك العقارات فعلى عاتق القضاء اللبناني.

يستند سامر عبدالله إلى صك البيع الذي تملك جده بموجبه ثلاث مجموعات من الأراضي (بلال قبلان)
يستند سامر عبدالله إلى صك البيع الذي تملك جده بموجبه ثلاث مجموعات من الأراضي (بلال قبلان)


تعليقات: