حول «ملحمة الخيارات الصعبة» لكامل مهنا.. خيار من خيارات: النبعة الأسطورة

الدكتور  كامل مهنا و«ملحمة الخيارات الصعبة»
الدكتور كامل مهنا و«ملحمة الخيارات الصعبة»


تلك أيام من زمن عاصف لما تزل غامرة فيه، وما برح الماضي يدفع الحاضر الذي هو بضعة منه، فما لحج سيف المناجد القابض على الجمر، المسكون بالهواجس الظمأى.. وركوب الأخطار يبقى من تقاليده على غير ادعاء.

من «يومياته» ما خفي، وليس أكثرها في «ملحمة الخيارات الصعبة»، ففي الذاكرة بعد الحفيل الصاخب في معارج السنين، وثمة ما انداح على مساحات غامت ورسب فيها من العجاج، مما يخترق سجفه فقط، أولئك المواكبون للمسيرة، والغائرون في تفاصيلها المثيرة.

ليس في ما سلف من الاطناب أو المبالغة، ولكنني وأنا خدن الدكتور كامل مهنا منذ نيف وأربعين عاماً، قد أملك من أسرار التجربة ما تاه عنها، أو خانته الذاكرة المتخمة في استحضارها. كما قرأت الأوراق في أصولها مرات، إلا أنني في مقام لا يسوّغ الإفاضة في لم يكتب، عازفاً عما كتب، ذلك الذي تم تظهيره بقلم الأديب شوقي رافع في ما يشبه الرواية التاريخية الأنيقة.

هذا الكتاب إذاً سيرة ذاتية مجتزأة لمناضل ما استكان، أو نكث عهداً مع البائسين، أو كسر هالة الصمت الذي رفأ إليه وكان أبهى أدواته في زمن علا فيه الضجيج الصاعد من الفراغ.. والحديث يطول في السيرة، مؤرخاً كنت أو شاهداً، من دون الاتكاء فقط على المكتوب، بعد ما حفظت الشفوي عن ظهر قلب، ولم تغب عني شاردة منه.

المشهد الأول المطبوع في الذاكرة الفضية للطبيب تراءى له في الخيام، حين وقعت عيناه على قافلة للفلسطينيين المهجرين قسراً من ديارهم، وقد حفر في وجوههم الحزن لاغبين من طول المسير، وحولهم أطفال غرثى أثقل الوجى أقدامهم الصغيرة، وليس سوى القليل من المتاع ما تبقى لهم في رحلة القهر.

لم يفقه الصبي أبعاد اللحظة المأساوية، ولكن الهم الفلسطيني رسخ في وعيه، وهوي قطع المراحل من مدرسة الخيام، إلى أخرى في صيدا، إلى ثالثة في بيروت، متأثراً بالمد القومي الساطع، فلا تفوته تظاهرة، أو يفتقده اعتصام، أو يروّعه قمع مما كان يستهدف التحرك الطلابي المتوهج بأحلام كبيرة. وإذ جاز المراحل دون تضارب بين الدراسة والسياسة. جاشت الخيارات الصعبة في نفسه، حتى رست على قرار واجه بمشقة تحدياته، مصمماً حينذاك على الذهاب إلى فرنسا للتخصص في حقل الطب. ولم يكن ذلك ممكناً لولا أن عضده الأب المستنير، متحملاً عبئاً ثقيلاً عليه.

وإذا كان الطب ما استفز طموحه الخاص، فقد وجد فيه أيضاً المجال الموائم لشخصيته التي بدأت تنضح معالم تكوينها الإنساني، مما ينضو عن الحوافز الاجتماعية والسياسية الكامنة فيها. وفي «تور» حيث تدرج في جامعتها، كان المنعطف في مسار ماجت فيه الواقعية مع المغامرة، فلم يكن الوقت كله مكرساً للدراسة، وإنما وجد فيه حيزاً للنضال، رافداً سلوكه القيادي بجرعة من فرح سكبت في مواجده تفاؤلاً، ما انفك يدحر في ظله اليأس ويجترح البدائل حين تهب العواصف من كل صوب. بهذا النهج تبوأ رئاسة اتحاد الطلاب اللبنانيين في فرنسا، فكان المؤسس الرائد له، ثم المقدام في احتلال السفارة اللبنانية احتجاجاً على الضربة الغاشمة لمطار بيروت. وفي هذا الوقت كان يجازف بسنته الأخيرة في الجامعة، إذ عوقب بالطرح من الأجهزة الأمنية الراصدة من قبل لأخباره. ولكن ذلك لم يمر دون حركة اعتراض واسعة، داخل فرنسا وخارجها، حملت الأجهزة على التراجع عن قرارها، ليعود الطالب إلى استكمال ما تبقى من دراسته، حائزاً شهادة الطب. وكان أول ما راوده من شعور، أنه لم يخذل الوالد الذي تحدى نفسه، ممهداً أمامه السبل لتحقيق آماله، وغير متبرّم بسلوكه النضالي، بقدر ما كان فخوراً به.

والخيارات بعد تتآزح في ذاته المتمردة، وكان قد انعطف حينئذ إلى مسار آخر واجداً ضالته في ما عرف بـ«البؤر الثورية»، بديلاً من الحركة القومية المتراجعة، حيث التحق بإحدى بؤرها المشتعلة في «ظفار».

محطات كثيرة عرفت هذا المناضل الجليد، وعلى مداها اصطخبت الخيارات بنفس ملحمي، دون ان يكون لهذا التوصيف دلالة خاصة فقط بالحروب والبطولات الأسطورية على أرضها، كما في مفهوم من يقرأها في هذا الاتجاه. فقد جاء في لسان العرب «ألحم الأمر، أي أحكمه». والملحمة بهذا المعنى تقترن بعمل استثنائي يبدعه إنسان في مجاله، «قتالاً عظيماً»، أو إنجازاً مماثلاً في ساحات أخرى يتعدى المألوف، ويرتقي إلى السمو في التضحية والعطاء ونكران الذات. ألم تكن تجربة «النبعة» مما يندرج في سياق الملحمة، وهي خيار أنموذج تجتمع فيه عناصر الأخيرة؟ لن يراها غير ذلك من تتبع يومياتها بدقة أو قرأها بتداعياتها في الكتاب، حتى ليكاد بلتات الأمر، بأن تكون أسطورة الحياة بعد الموت، فقد انبعثت مجدداً مع بطل ملحمي قادم لتوه من أقاصي التاريخ.

كان ذات يوم قاطب. والطبيب عائد من تجواله الاعتيادي على مراكز الجنوب البعيد، فجمع قليلاً من متاعه وكثيراً من الأدوات الطبية.. إلى هوية مزورة في جيبه. والرصاص يتنافس مع جنون القيادة، قبل أن تصل السيارة، وقد نال منها القناص، إلى المركز في النبعة. فكان دائم التنقل بين هذه وتل الزعتر، حتى إذا سقط المخيم الأخير، بات محاصراً مع نفر من المقاتلين ومثلهم من الفقراء الذين خاطروا فلم يبرحوا مساكنهم البائسة، وبدا أن مأساة أخذت تحوك خيوطها في المكان. فقد سقطت التحالفات، والتبست المواقف، ولم يعد ثمة محايد يفصل المركز عن الجحافل المتعطشة إلى الدماء، بينما القذائف تنهال وابلاً عليه ومن حوله. وشهد الطبيب الوحيد آنئذ ما يروع، حتى آلف الموت وساكن أشباحه، فلم يدهره خوف أو يثنيه عائق عن الصمود.

وتمر الأيام خابطة في شره النار، والطبيب الذي تشتد عليه أوجاع الظهر، دائب على معالجة الجرحى مستنداً إلى جدار. والمفاجآت كثيرة: شاب يقتحم المركز بسلاحه طالباً إسعاف صديق له مصاب، رجال مموهون في سيارة إسعاف يحاولون اختراقه، فيقتل منهم ويقتلون، ثلة من «الحلفاء» تلقت نبأ كاذباً عن سقوط المركز، فأمطرته بوابل النيران، قذيفة ترج المكان، وصورة كبيرة للإمام الصدر تهوي على رأس الطبيب، ناجياً ببركات الأخير، قذيفة أخرى مدوية تفقده لحين الوعي فطن أن النهاية ألقت شباكها... وعندما استفاق عمت البهجة رفاقه المذعورين، وكأنهم استعادوه من براثن الموت. جثث تكدست على الأرض، فيما الصليب الأحمر غاب عن المشهد، ومن قبل كانت البعثة الفرنسية، وعلى رأسها الطبيب المتطوع برنار كوشنير، قد غادرت مشفى المحرومين، تاركة ما فيه من أدوات كان المحاصرون بأمس الحاجة إليها، بعد أن خوى المركز أو كاد من وسائل الإسعاف. وفي أعقاب ذلك تأسست علاقة تاريخية بين الطبيب مهنا وزميله الفرنسي الذي بقيت حرب لبنان في هواجسه، مؤازراً الأول بنقل مئات ممن كانت إصاباتهم بالغة إلى مشافي فرنسا. وعندما أصبح وزيراً للخارجية كرّم صديقه بوسام، تقديراً لنضالاته وعطاءاته. ولكن الوزير الذي انصرف عن جبهة العمل الإنساني، كما بدّل موقفه الحزبي اليساري، لم يعد هو نفسه على جبهة السلطة، ما لم يسوّغه الطبيب الذي طالما اعترض على سياساته المتقلبة، وإن ظلت الصداقة تشج بينهما على شيء من الخفوت.

ولنعد إلى النبعة، حيث بات الطبيب محاصراً حتى الاختناق ومعه نحو أربعين ممن ارتبطوا مصيراً به. فكان خيار لا بد منه، ولكنه لم يشأ أن يكون في غير مستوى اللحظة من التاريخ، إذ أبى المغادرة من دونهم. وكان لأستاذه الدكتور أرنست مجدلاني وزميلته الدكتورة سميرة صهيون التي افتتحت عيادة على تخوم النبعة، الفضل في الخروج من حصار الجحيم.

ليس ذلك إلا جزءاً من فصول التجربة ـ الملحمة، وهي تحتاج إلى أن يؤرخ لها منفردة، شأن الرحلة الظفارية، والمخاطرات في شرائط البؤس، والنبعة المرتحلة مخيماً إلى الدامور، من دون أن نغفل «عامل» وصوت الفقراء أنموذجاً في خطها التنموي الإنساني، وهي بعد في وتيرتها منذ نيف وثلاثين من الأعوام.. كل ذلك يحتاج إلى كتاب خاص، حتى تستوفي التجربة حقها كاملة من التاريخ.

ولكن ملحمة النبعة تبقى الأكثر صخباً في الذاكرة، ولشدة هولها كانت تتناهى إلينا إبان الحصار أخبار أرقت العيون وارتعدت منها الأفئدة عن مصير الطبيب، حتى وقفنا لحين في دوامة اليأس. ولكن القضية عندما تصطفق بالإيمان، ينحاز إليها القدر، متشفعاً بمن يهبون حياتهم لها، فلا تأخذهم خشية من وعورة الطريق، أو يلتبس عليهم الخيار النابع من اليقين.. هؤلاء تنطبق عليهم مقولة الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي: «قضت الحياة على أن يكون النصر لمن يتحمل الضربات لا لمن يضربها».

وليس أخيراً، عاد المناضل الشكيم من ساحته التي وسمها بدمه، ودخل في موكب تظاهري إلى الخيام التي أفعمه الشوق إليها، متصفحاً أطياف طفولته المتفتحة باكراً على مشهد فلسطيني مأساوي، ومقلباً في دفتر ذكرياته، بحثاً عن أشيائه الحميمة، قبل أن يغلبه الوسن، فيذهب في استرخاء ثقيل.. ولم تكد تلوح نجمة الصبح، حتى كان في طريقه إلى بيروت، حيث النبعة في مكانها الآخر تنتظر قدومه.

تعليقات: