الجنوب: منازل مدمرة تعود جديدة على أرض العواصف

 السوق الجديد في بنت جبيل
السوق الجديد في بنت جبيل


عادت غالبية المنازل التي دمرت في الجنوب خلال حرب تموز، لكنها عادت منازل مختلفة، في الشكل الهندسي، وفي الأماكن التي بنيت فيها. زاد عددها، وانتشرت في أراض لم يدخل إليها العمران سابقاً، لا سيما في القرى التي شهدت النسبة الأكبر من الدمار، وهي أساساً بنت جبيل والخيام وعيتا الشعب وعيناثا.

وقد سمحت الطريقة التي قررت فيها الحكومة التعويض على المتضررين، ببناء منازل منفصلة عن بعضها البعض، بعدما تم تقدير الوحدة السكنية بمئة وثلاثين مترا مربعا. وتبعا لذلك، فضل عدد كبير من المتضررين الذين حصلوا على بدلات مالية عن أكثر من وحدة سكنية، بناء منازل مستقلة لأبنائهم. وكانت النتيجة توسع عمليات بناء من دون وجود تنظيم مدني، ومن دون تقدير مدى صلاحية الأراضي للبناء أو عدمه.

مع ذلك، يعبر الأهالي الذين جرى لقاؤهم عن شعور بأن الحياة تسير بين العواصف التي ترتفع حينا وتخف حينا، في منطقة توصف أولا بأنها منطقة عسكرية، غالبية سكانها من الفلاحين الذين أرسلوا قسما من أبنائهم إلى بلاد الهجرة، وقسما للعلم والعمل في العاصمة، وبقي قسم يعمل في الزراعة، وهؤلاء جميعهم تختلط في صفوفهم المقاومة.

وعند الاشتباكات بين الجيش وبين القوات الإسرائيلية في العديسة مؤخرا، توزعت حركة الناس في القرى الواقعة على طول الشريط، من الخيام مرورا بحولا، وصولا إلى عيتا الشعب ثم بنت جبيل، بين من قرر البقاء في منزله، وبين من حضر ّحقائبه تمهيدا للنزوح، كما يقول من جرى لقاؤهم في تلك القرى، معتبرين أنهم أصبحوا وسط توقعات الحرب المستمرة، أكثر تأهبا من العام 2006.

الخيام تنتظر المياه وهي تعوم عليها

في بلدة الخيام، توضح سيدة فضلت عدم ذكر اسمها أنها عندما تزوجت في العام 1982، كان منزل أهل زوجها مدمرا، فانتقلت للعيش معهم حيث كانوا يقيمون مؤقتا بانتظار إعادة بنائه. ودمر المنزل نفسه في العام 2006، مع منازل كثيرة في الحارة المطلة مباشرة على جبل الشيخ، لكنه كان في المرة الثانية منزلا من خمسة طوابق، يعيش فيه خمسة أشقاء وشقيقتان، متزوجون جميعهم.

تروي السيدة أن ابنتها كانت مخطوبة لدى حصول الحرب، وقد أعدت لها جهازا كاملا، يتضمن مصاغا من الذهب، ضاعت كلها وسط الدمار. فتزوجت ابنتها بعد الحرب من دون جهاز ولا عرس: «ولكن الحمد لله أصبح لديها حاليا ابنتان».

تتحدث عن زواجها وزواج ابنتها، كأن الزمن يعيد نفسه، لكنها اعتادت العيش فيه، فتتابع مبتسمة: «يقولون إن الحرب سوف تقع مرة جديدة، لو دمر منزلنا مرة ثالثة لا خيار أمامنا سوى إعادة بنائه».

وتوضح زوجة أحد الأبناء، واسمها سحر أبو عباس، أن عائلات المبنى عادت إلى منازلها في العام الماضي، وقد حصل كل منها على مبلغ أربعين ألف دولار عن كل شقة. ولكنهم بنوا منازلهم في الفترة التي ارتفعت فيها أسعار مواد البناء فلم تكفهم التعويضات، ثم حصلوا على مبلغ مالي بدل فروقات الأمتار في الوحدات التي تزيد عن مئة وثلاثين مترا مربعا.

بدوره، يقول المواطن سليمان عبد الله الذي يقيم في حي آخر تم تدمير منازله، إنه كان يمتلك منزلاً من الحجر الصخري المنحوت، يأتي الناس للاستمتاع بمنظره، وتقارب مساحته نحو مئتي متر مربع. لكنه حصل على أربعين ألف دولار بدل وحدة سكنية، وثمانية عشر ألف دولار بدل الأمتار المربعة.

مع ذلك، يجري الحديث في الخيام، مثل كافة القرى والبلدات التي تضررت، عن حصول عدد من السكان على وفرة في التعويضات، وهؤلاء يقولون إنهم من أصحاب الوساطات.

وعند ساحة البلدة، بقيت بضعة منازل من دون بناء، لأن البلدية قررت استملاكها وتوسيع الشارع.

ولا توجد لدى البلدية إحصاءات نهائية بعدد بالمنازل التي بنيت، وهي تختلف في العدد عن أرقام الاحصاءات الخاصة بالوحدات السكنية المتضررة. وقد طلب رئيس البلدية عباس عواضة، وهو مهندس معماري من المسؤولين في مشروع الإعمار القطري، تزويده بملف كامل عن عدد المنازل والمؤسسات التي جرى بناؤها، مشيرا إلى أن عددا قليلا من المنازل لم يستكمل بناؤه حتى الآن.

لكن الخيام لا تحتاج إلى بناء المنازل فقط، بل تشكو مثل جميع قرى الجنوب من شح المياه، وهي تشرب حاليا من مرج الخوخ في السهل، بينما يعوم سهلها، كما يقال دائما، على بحيرة مياه. ويوضح عواضة أنه تم حفر بئر إرتوازي، لكن تلزمه شبكة مياه لإيصال المياه إلى المنازل. كما يوجد مشروع لمد المياه من نبع الوزاني.

ولدى البلدة معمل لفرز النفايات، لكن هناك بعض النواقص في آلية التشغيل، ويتحدث عواضة عن خطة لفرز النفايات داخل المنازل، يتم بموجبها توزيع السلال على المنازل من أجل فصل النفايات العضوية عن الكيماوية.

ويقول إن البلدية سوف توجه اهتمامها إلى السكان، وخاصة الشباب والنساء والأطفال منهم، لذلك، سوف تقيم مراكز خاصة بهم، تتضمن نشاطات رياضية ودورات تدريبية في مجالات مهنية.

بنت جبيل تبحث عن تنظيم مدني جديد

أحدث ما تجده في بنت جبيل هو السوق التجاري. أربعة صفوف من المحلات تصطف خلف بعضها، مع واجهات من القناطر، تقع في قلب الطريق الرئيسي للمدينة، وإن لم تعد قناطر حجرية. فيما تنشغل البلدية مع أصحاب المحلات ومستأجريها، بتنظيم عملية تشغيل السوق.

وفي الجانب الآخر من السوق، يوشك بناء المدينة القديمة على الانتهاء، فتؤلف المنازل الحديثة المتراصة قرب بعضها البعض شكلاً لا علاقة له بما سبقه. هنا، مدينة أخرى غير التي كانت قبل الحرب.

لقد فرض صغر مساحات المنازل السابقة طرازا مختلفا من البناء، فأصبحت منازل بطابقين، بعدما كانت مؤلفة من طابق واحد، وتراجعت مع الارتفاع في البناء مساحات الضوء والشمس بين المنازل، فيما اتسعت الطرق لكي تمر فيها السيارات.

وانتقل بعض أصحاب المنازل من المدينة للبناء خارجها، فانتشرت المنازل على التلال، وفرض ذلك تنظيما مدنيا غير ذاك الذي كان موضوعا في السابق، لذا تحاول البلدية تعديله مع التنظيم المدني في بيروت.

«لست راضياً، لكن ما جرى هو أفضل الممكن»، يقول رئيس بلدية بنت جبيل المهندس عفيف بزي، ويبرر طريقة البناء الحالية بالقول: «كانت هناك حاجة لتسهيل عودة الناس إلى منازلهم، وقد تم ذلك على حساب جمالية المدينة، فلم يبق قلبها تراثيا، لأن الناس رغبوا في تحديث منازلهم وتوسيعها».

كان يوجد في قلب المدينة أربعمئة وخمسون منزلا تراثيا، وبقي منها مئة وعشرة منازل، جرى ترميمها بعد إغراء أصحابها بتقديم بدل وحدة سكنية عن كل منزل.

أما الحجارة التي تم جمعها من المنازل المهدمة فقد استخدم جزء منها في عمليات الترميم، وجزء نقله أصحاب المنازل المدمرة لاستخدامه في بناء منازلهم خارج المدينة القديمة، وجزء سرق لدى انتهاء الحرب.

يضيف رئيس البلدية: «إننا لم نستطع الالتزام بالتخطيط المدني، هناك أراض كانت مصنفة زراعية، وأراض للبناء المستقبلي، وقد طلبت البلدية فتح هذه الأراضي للبناء». ويوضح أن وفدا من التنظيم المدني زار بنت جبيل وعاين التغيرات التي حصلت، «وسوف يكون لدينا تنظيم جديد يلحظ الثورة العمرانية».

كان عدد الوحدات السكنية في بنت جبيل ثلاثة آلاف ومئتي وحدة، وزادت بعد البناء فأصبحت أربعة آلاف وحدة. وهي تشرب حاليا من مياه رأس العين - وادي جيلو - باتولاي، تضخ المياه إلى خزانات كفرا، لكن من هناك يجري تحويلها إلى البساتين والقرى المحيطة. وقد أطلقت البلدية الصرخة خلال الصيف الجاري لأن غالبية السكان يشترون المياه، «يقولون لنا إن الحل عبر مد المياه من مشروع الطيبة»، يوضح بزي، «لكن خلال تجربة مد المياه تفجرت التمديدات ويعاد تجريبها».

وقد عبدت الهيئة الإيرانية الطريق الرئيسي وهو جزء من طريق الناقورة – كفركلا - تل النحاس. كما ستعبد طرق المدينة القديمة بعد الانتهاء من إعمارها.

عيناثا: فيلات ومنازل عند حفر تسمى طرقا

يختلف وسط بلدة عيناثا عن غيره من القرى المحيطة، بوجوده في المكان المنخفض من البلدة. منازل حديثة وفيلات للمهاجرين، تحيط بها طرق وعرة ومحفرة، تصعد باتجاه التلال المرتفعة، ثم تهبط من جديد إلى الوسط، فتستغرب كيف يتنقل الناس عليها، سيرا أو في سياراتهم، والأولى بهم الاعتصام عليها إلى أن يتم تأهيلها، لأن كل من يسير هناك لا بد أن يعود «مخضوض» الجسم من وعورتها.

عاد جميع سكان الوسط إلى منازلهم، وكانت آخر دفعة تعويضات التي حصل عليها البعض في حزيران الماضي.

يقول محمد وحيد فضل الله الذي يسكن في منزله من دون استكمال بنائه، إنه يحتاج إلى عشرين ألف دولار من أجل الورقة والطلاء والأبواب، فمنزله من طابقين وقد بناه عندما كان ثمن طن الحديد ألف وثلاثمئة دولار.

ويصنف فضل الله الذين حصلوا على التعويضات بثلاثة أصناف: هناك من حصل على تعويض أكثر مما يحق له بضعفين، وهناك من حصل على ضعف ونصف الضعف، ومن حصل على قدر حاجته.

وتعتبر الوحدات السكنية المدمرة في عيناثا الأقل عددا بين القرى الأربع الأكثر تدميرا، وتبلغ أربعمئة وثلاثين وحدة.

لكن شهداء حرب تموز هم الأكثر عددا، وقد بلغوا خمسة وأربعين شهيدا، سقط منهم تسعة عشر شهيدا في مجزرة واحدة، وأربعة عشر مقاوما في معارك مثلث بنت جبيل - عيناثا - عيترون.

يوضح رئيس البلدية عباس خنافر أن هناك نسبة عشرة في المئة فقط من المتضررين لم يحصلوا على فروقات الأمتار بعد. ووعد بتعبيد باقي الطرق خلال العام الجاري، لأنه لم تكن توجد إمكانية لتعبيدها دفعة واحدة. وقد تولت الهيئة الإيرانية تعبيد طرق وسط البلدة، أما الطرق المحفرة فسوف يتولى اتحاد بلديات بنت جبيل تعبيد جزء منها، والجزء الآخر تتولاه وزارة الأشغال العامة.

ومثل بنت جبيل وعيتا، تشرب عيناثا من برك رأس العين وتعاني المشكلة نفسها، تم حفر بئر إرتوازي في البلدة، لكن تبين أن مياهه كبريتية، ويستخدم السكان حاليا مياه الخزانات التي يجمعونها في فصل الشتاء، وهي طريقة تستخدمها غالبية القرى والبلدات جنوب الليطاني، وبشربون منها، لكنها لا تكفي، خاصة بعد شتاء هذا العام.

يعيش غالبية سكان البلدة من أموال الهجرة، وبينهم عدد من الموظفين، ولم يعد يزرع فيها التبغ سوى من لا يملك مصدر رزق آخر.

وقد تلقت البلدية مساعدة من الاتحاد الأوروبي بلغت قيمتها 315 ألف يورو، أنشأت بواسطتها مركزا ثقافيا وناديا رياضيا، وأعادت تأهيل بركة المياه.

 سوق بنت جبيل مدمّراً في تموز 2006 (م. ع. م.)
سوق بنت جبيل مدمّراً في تموز 2006 (م. ع. م.)


الإعمار في عيناثا (علي علوش)
الإعمار في عيناثا (علي علوش)


تعليقات: