تاريخ الانتشار الفلسطيني العسكري في القطاع الشرقي من الحدود


عرفت المناطق المتاخمة لسلسلة جبال لبنان الشرقية، والتي تشكل الحدود الفاصلة بين لبنان وسوريا، العمل الفدائي الفلسطيني، منذ اواسط الستينيات من القرن الماضي، لا سيما بعد صدور البيان الأول لقوات «العاصفة ـ فتح» الذي أعلن في 1/1/1965 انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني.

لكن هذا العمل اقتصر في بداياته على بعض المتسللين من المجموعات الفدائية، الى المستعمرات الإسرائيلية شمال فلسطين المحتلة، بهدف زرع العبوات والألغام في محيط هذه المستعمرات، بدءا بالمنارة مرورا بكفار جلعادي والمطلة وديشوم وصولا الى مرغليوت، غير ان هذه العمليات أثارت قلق المجتمع المحلي في تلك المناطق، نتيجة التهديدات وبعض الغارات التي كان يشنها الطيران الحربي الإسرائيلي، الى جانب ظهور المشاكل بين هذه المجموعات ووحدات الجيش اللبناني التي عمدت في تلك الآونة الى ملاحقة الفدائيين وإعتقالهم عند عودتهم، ولكن هذا الأمر لم يقف عند هذا الحد، حيث كان يتطور بين الحين والآخر الى اشتباكات مع هذه المجموعات وأبرزها الإشتباك الذي وقع بتاريخ 24/6/,1966 وحادثة إعتقال الفدائي أحمد الدحابرة في 14/5/,1967 أثناء محاولته التسلل الى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لكن ظاهرة القواعد والمراكز والتحرك العسكري للفدائيين مع بدايات العام ,1968 طغت عليها بادئ الأمر صورة السرية، في القرى الحدودية وفي محيطها بين الأحراج وفي المغاور، بعد الهزيمة التي مني بها العرب في الخامس من حزيران عام ,1967 وبعدما احتضن اللبنانيون العمل الفدائي ودافعوا عنه، وناصروه بالتظاهرات والبيانات والتصريحات التي كانت تقوم بها أو تصدر عن القوى اليسارية في تلك الآونة، ما حدا بالمرحوم العميد ريمون إده آنذاك، الى التقدم في 25/6/1968 باقتراح يتضمن استقدام بوليس دولي الى الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية لوقف العمليات الإسرائيلية ضد الأراضي اللبنانية من جهة، وضبط العمليات العسكرية الفدائية، إلا أن هذا الإقتراح سقط ولم يأخذ طريقه الى التنفيذ، نتيجة المناخات السياسية التي كانت قائمة في البلد، لا بل على العكس من ذلك، فإن الردود جاءت بتأسيس «الهيئة اللبنانية لنصرة النضال الفلسطيني».

اتفاقية القاهرة

الا ان التواجد الفلسطيني المسلح، وانتشار القواعد العسكرية الفدائية، لم يتخذ صفة «الشرعنة» إلا بعد اتفاقية القاهرة في 3 تشرين الثاني من العام ,1969 التي وقعها الوفد اللبناني برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد إميل البستاني، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، بحضور وزيري الخارجية والحربية في الجمهورية العربية المتحدة محمود رياض، والفريق أول محمد فوزي، بحيث تضمنت الاتفاقية: السماح بالعمل الفدائي عن طريق تسهيل المرور للفدائيين، مع تحديد نقاط المرور والإستطلاع في المناطق الحدودية، وتأمين الطريق الى منطقة العرقوب، بما سمي بمنطقة «فتح لاند»، حيث تم بالفعل شق طريق ترابية بين المرتفعات الجبلية الواقعة عند سفوح السلسلة الشرقية، امتد من تخوم بلدة حلوى القريبة من الحدود اللبنانية ـ السورية وحتى شبعا وكفرشوبا في العرقوب، مرورا بالمنخفضات الجبلية الواقعة الى الشرق من قرى كفرقوق وعيحا واليابسة وعين عطا. وقد عرفت هذه الطريق فيما بعد بطريق «الجامعة العربية». الى جانب ذلك تضمنت الاتفاقية: دراسة توزيع أماكن تمركز الفدائيين الفلسطينيين في المناطق الحدودية بالاتفاق مع هيئة الأركان اللبنانية، فضلا عن تسهيل الجيش إقامة مراكز الطبابة والإخلاء والتموين للفدائيين .

فتحت هذه الاتفاقية باب التواجد العسكري الفلسطيني على مصراعيه، بعدما سمحت الاتفاقية للفلسطينيين المقيمين في لبنان بالمشاركة في الكفاح المسلح، حيث انتشرت مئات القواعد العسكرية داخل القرى وخارجها، واستحدثت الأنفاق والسراديب والمغاور لخزن الأسلحة المتدفقة، إلا أن العمل الفدائي أفلت من عقاله، بعدما صدّرت بعض الدول العربية الى لبنان، المنظمات العسكرية الفلسطينية، وزودتها بالتمويل والتسليح، بعدما تسللت هذه المنظمات الى لبنان تحت عناوين العمل الفدائي والكفاح المسلح.

وإذا كان العمل الفدائي قد انحصر بادئ الأمر، بقوات العاصفة ـ فتح، فإن أحداث أيلول الأسود في الأردن عام ,1970 كانت كفيلة بتدفق اللآلاف من الفلسطينيين الى لبنان عن طريق سوريا، وانتشار ظاهرة تفريخ المنظمات الفدائية المدعومة ماديا والمسلحة عسكريا من العديد من الدول العربية، مع ما رافق ذلك من تدخلات في الشأن المحلي الداخلي، وذلك نتيجة احتضان قسم من اللبنانيين للفلسطينيين ومناصرة قضيتهم، ما أفضى الى بداية تقويض أركان الدولة اللبنانية.

الى جانب منظمة فتح برئاسة عرفات، ظهرت المنظمات الفلسطينية تحت تسميات مختلفة: الصاعقة (الموالية لسوريا)، الجبهة العربية (العراق)، فتح ـ المجلس الثوري (ليبيا)، فضلا عن الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش، والجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة، ومن ثم الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل، وبعد ذلك «فتح الإنتفاضة» بقيادة ابو موسى والتي انشقت عن فتح الأم، وكرّت السبحة دون أن تنتهي عند المنظمات المحكومة بالإيديولجيات والعقائد الدينية.

وانطلاقا من نصوص اتفاق ملكارت وملحقاته، الذي انعقد بين الجانب الفلسطيني ممثلا بالمقدم الركن أبو الزعيم، وأبو عدنان، وصلاح صلاح، والجانب اللبناني ممثلا بالعقيد الركن أحمد الحاج والعقيد نزيه راشد والمقدم سليم مغبغب (حضر الإجتماع الأول)، على ثلاثة أيام بين 15 ـ و17 من شهر ايار عام ,1973 تقرر إقامة ثلاث قواعد عسكرية فلسطينية في القطاع الشرقي: قاعدة أبو قمحة، وقاعدة الشهيد صلاح في الخريبة، وقاعدة جبل الشحار في راشيا الفخار، على ألا يتجاوز عدد عناصر القاعدة الواحدة الـ35 عنصرا ، بحيث يجري تموين هذه القواعد بواسطة السيارات المدنية، في حين ينحصر تواجد الفدائيين خارج القرى في بقعة منطقة راشيا الوادي، وعدم تواجدهم غربي طريق المصنع ـ الحاصباني، إنما هذا الواقع الميداني تبدل مع نشوء الحرب اللبنانية، وانتشرت المواقع والمراكز العسكرية حتى داخل القرى، وتحوّ لت المراكز الإدارية، والصحية الى مخازن ومستودعات للأسلحة، وقواعد لانطلاق الأعمال العسكرية، فضلا عن تسليح الشبان اللبنانيين، وانضمامهم الى صفوف المنظمات الفلسطينية.

لكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ,1982 أدى الى تغيير وقائع الانتشار الفلسطيني في المنطقة، فتقلصت بقعة الانتشار الجغرافية، وأخلت المنظمات الموالية لمنظمة التحرير الفلسطينية الساحة للمنظمات القريبة من سوريا، نتيجة للخلافات السياسية التي برزت بين منظمة التحرير من جهة وسوريا من جهة أخرى، حيث تمركزت العناصر التابعة لفتح ـ الانتفاضة بزعامة أبو موسى، في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية ـ السورية، بدءا من منطقة حلوى، والوادي الأسود بين عيثا الفخار وينطا، ووادي القرن، وقلعة إدريس، والمناطق الجبلية الواقعة بين ينطا وحلوى ودير العشاير، وفي التحصينات الجبلية والأنفاق والسراديب التي كان يشغلها حزب العمال الكردستاني عند الأطراف الشمالية الغربية لبلدة حلوى، حيث هذه المناطق تتبع إداريا لقضاء راشيا، في حين تموضعت العناصر التابعة للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل، في الأنفاق والسراديب المنشأة عند المنخفض الجبلي القريب من المنطقة المعروفة بكسارات دحروج غرب مثلث بيادر العدس على طريق المصنع ـ الحاصباني، بين بلدتي لوسي والسلطان يعقوب في البقاع الغربي، وصولا الى القاعدة العسكرية في قوسايا في البقاع الأوسط.

بعد الانسحاب الإسرائيلي من مناطق راشيا والبقاع الغربي في 25 نيسان من العام ,1985 وعودة الجيش السوري، ومفارز المخابرات الى هاتين المنطقتين، إثر الأحداث الدامية التي وقعت آنذاك بين مقاتلي الحزب التقدمي الإشتراكي، ومناصري النائب المرحوم سليم الداود في بلدة عيحا، والتي ذهب ضحيتها 12 قتيلا من بينهم رئيس البلدية في ذلك الوقت المحامي كمال أبو لطيف، تمددت عمليات المقاومة، انطلاقا من هذه المناطق ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية، واتخذت في حينها الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة قاعدة لانطلاق عملياتها العسكرية في مغاور حوش القنعبة، التي شهدت في العام ,1987 عملية كوماندوس إسرائيلية، أدت الى استشهاد مقاتلين فلسطينيين، ومقاتلين من الحزب التقدمي الإشتراكي والجيش اللبناني، أثناء محاولتهم سحب جثث الفلسطينيين التي عمد جنود الاحتلال الى تفخيخها. واستمر تنفيذ العمليات والهجمات الصاروخية على قوات الإحتلال، انطلاقا من المنطقة حتى العام ,1996 حيث توقفت بناء لأوامر من المخابرات السورية، باستثناء العمليات التي توارت عن أعين الرصد والمراقبة.

ومع إكمال القوات العسكرية السورية انسحابها من لبنان في 26 نيسان من العام ,2005 وانتشار وتمركز وحدات الجيش اللبناني في القطاعات الحدودية المتاخمة للحدود الدولية بين لبنان وسوريا، عند سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية، أبقت المنظمات الفلسطينية، لا سيما فتح الإنتفاضة والجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، على تواجدها العسكري في قطاع ينطا ـ حلوى (راشيا)، وفي السلطان يعقوب ـ لوسي (البقاع الغربي)، وفي قوسايا (البقاع الأوسط).

مواقع الانتشار

تتميز هذه المواقع والمراكز بكونها مواقع إستراتيجية حصينة بالدهاليز والأنفاق والسراديب والمغاور المنشأة في بواطن المرتفعات التي تحميها من جميع الجهات، وتمتد داخل الأراضي اللبنانية بعدة كيلومترات، فيما خلفيتها مفتوحة على الأراضي السورية باستثناء موقع السلطان يعقوب ـ لوسي، ومن الصعوبة بمكان اختراقها، على اعتبار ان طرق إمدادها بالسلاح والعتاد والعناصر سهلة المنال، فلا تحكمها أي عوائق، ولا تقطعها أي سبل واستهدافات عسكرية، لأن أي خلل في الرمايات العسكرية باتجاه هذه المواقع والمراكز، من المؤكد أنه سيسقط داخل الأراضي السورية، وبذلك يعتبر اعتداء على الدولة السورية.

ونظرا لوقوع مواقع «فتح الانتفاضة» في قطاع حلوى ـ ينطا ومواقع الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة في قوسايا، عند تخوم الحدود اللبنانية ـ السورية، فإنها في حال حصول توترات عسكرية، قابلة للدعم والتعزيز بالعناصر والعتاد والأسلحة في خلال ساعات، في حين تتقلص هذه التعزيزات عند إنخفاض مستوى التوترات. وهذا المستوى من التعزيزات شهدته هذه المواقع في أكثر من مرحلة، لاسيما أثناء استشهاد المساح في مديرية الطبوغرافيا في الجيش اللبناني على طريق حلوى، نتيجة إطلاق النار عليه من قبل عناصر مسلحة تابعة لـ«فتح الإنتفاضة»، وفي أعقاب المواجهة العسكرية التي وقعت بين الجيش اللبناني وهذه العناصر عند أطراف الوادي الأسود بين عيثا الفخار وينطا، حيث سقط بنتيجتها شهيدان وجرحى من الجيش.

ولا بد هنا من الإشارة في ظل كثرة الحديث عن تهريب الأسلحة من سوريا الى لبنان، الى أن القطاع الحدودي بين لبنان وسوريا، يختزن عشرات الممرات الجبلية، والطرقات الترابية، والمسالك الوعرة التي كانت قد شقتها القوات العسكرية السورية قبل انسحابها من لبنان، لتسهيل تحركات آلياتها بين الداخل السوري والأراضي اللبنانية. وقد عملت وحدات الجيش على مراحل متلاحقة على إقفال بعضها بالسواتر الترابية، إنما في حال التأكيد على أن عمليات تهريب المواد الغذائية والأسماك والمشروبات الروحية والمشتقات النفطية قائمة بين البلدين، فإنه لا يمكن بالمقابل تأكيد أو نفي عمليات تهريب الأسلحة عبر هذه المسالك، وفقا لما أوضحه العديد من سكان القرى الواقعة على الحدود، نظرا لصعوبة انتقال السيارات والآليات على هذه الطرقات.

والى جانب ذلك لا بد من التذكير بأن هذا القطاع شهد في الآونة الأخيرة زيارات متكررة من قبل الفريق الدولي المكلف تقييم الحدود بين لبنان وسوريا، بمؤازرة من الجيش اللبناني، رفع بنتيجتها توصية الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، تتضمن ضرورة نشر مراقبين دوليين الى جانب القوى الأمنية اللبنانية، لمراقبة الحدود بين لبنان وسوريا، حتى تنتظم الأمور بين البلدين.

يستدل مما تقدم ان خريطة الانتشار العسكري الفلسطيني في هذه المواقع والمناطق هي خريطة معقدة ليس من السهل معالجتها عسكريا. ولهذا السبب وغيره من الاسباب السياسية كان مؤتمر الحوار الوطني جازما في معالجة هذا الموضوع عبر الحوار، وهو ما اعاد التأكيد عليه قائد الجيش العماد ميشال سليمان قبل ايام. وقد يكون اقصر السبل الى المعالجة، هو في التفاهم اللبناني السوري على هذا الأمر، في اطار سلة من القضايا المختلف عليها بين البلدين. وقد جاءت معركة مخيم نهر البارد لتؤكد القناعة لدى الكثيرين بان العلاج السياسي عبر الحوار ربما يكون الطريق الاسلم الى ذلك.

تعليقات: