سنة التحرير الأولى والسنن اللبنانية: الجنوب عبء الوطن الأول


يبقى التحرير في "حجته" الأولى، وكما سيدوم إلى الأبد، حلما جميلا بحجم المخيلة والفرح. مع أيام التحرير الأولى كانت الطرق الى الجنوب مفتوحة احلاما وهواء وأغاني. الطريق اليوم مفتوحة تأملا وسؤالا. سؤال البسطاء وتأملاتهم. سؤال المقيمين في الجنوب المحرر، الحالمين الشجعان، الذين تألموا ويتألمون كثيرا أملا بخاتمة رائعة، تكون بحجم عرقهم ودموعهم او بحجم الدماء تجري في عروقهم، او تلك التي جرت شهادة، نسغا، ما بين تراب الجنوب وما عليه من النور.

تبدو السنة كافية في النظر لأداء التحرير، وتبدو كافية أداة قياس لا نلدغ بموجبها من "جُحر" أداء سنة تحرير ثابتة. فقد عاش الجنوبيون سنتهم الاولى محررين، فتشكلت عندهم صفحة من سيرة ذاتية راهنة، صفحة معيشة، وخطة جديدة في "خطط جبل عامل".

وإنجاز التحرير يتحدد، اليوم بمقدار ما يشكل في اللعبة اللبنانية "بطانة" وطنية، تجمع من داخل النسيج اللبناني، مناطق وطوائف وفئات وهيئات، بدت لوقت طويل دون ألفة في اجتماعها وفي طموحاتها.

كان الاحتلال الاسرائيلي للجنوب في جانب أول استكمالا لحرب الجنوب اللبنانية 1976 1978، وقد تبدى هذا الاحتلال ولمراحل طويلة، وكأنه امتداد للحروب اللبنانية عينها، تستظهر فيه فئات الجنوب نوازع تلك الحرب في السياسة والطائفة والعلاقات الاقليمية. وحتى انها كانت تستحضر مواد تلك الحرب من اسلحة ومقاتلين. لم يكن في هذا الاعتبار افتئات كبير على كل حال، فقد كان الجنوب ولزمن اسبق من الاحتلال بكثير، عيار التوازن اللبناني و"بورصة" لتبادل الأسهم في المواقف والمواقع السياسية والطائفية.

يبدو الجنوب، بعد التحرير، عبء الوطن الاول، يفوق ما كان عليه من عبء قبل حصول التحرير. دقت ساعة الاستحقاق الكبير. ففي وطن ينوء بأحماله كان عرس التحرير "سكرة" طارئة على همومه المقيمة الدائمة. عادت بعدها "فكرة" التبعات في المواطنة والتنمية والطائفة و"الطائف".

تبدو التنمية في الجنوب استنماء جنوبيا خالصا، يباشره الجنوب بصمت وغيض مكتوم، استنماء يباشره الجنوبيون خفية عن قلقهم وعن خوفهم من تداعيات الأيام الآتية. فالعمل التنموي الذاتي في الجنوب، ما بين "غصة" موازنة الحكومة السابقة وعجزها عن تأمين "مصروف جيب" لمشاريع التنمية مع التحرير، وما بين "شردقة" الحكومة الحالية في خطوات الانعاش الاقتصادي السريعة، والتي حتمت في ما حتمت من خطوات إنعاش، مشاريع إعفاء لهواتف منزلية من رسوم المخابرة والتخابر. وحتمت في ما حتمت، مشاريع إعفاء من دفع مستحقات الكهرباء بمئات المليارات من الليرات اللبنانية المتراكمة. والتي حتمت في ما حتمت، تسريب زيادات على صفيحة البنزين، دون ان يتعطفوا "بشمة" مازوت او بنزين زيادة يشهقها اللبنانيون المصدورين بالأصل، لحساب الإعمار والتنمية في الجنوب.

ومن دلائل السعة في انتفاء سياسة التنمية، نزول الطرف الافعل في ساحة الجنوب الى ميدان نقد غياب الدولة عن تنمية الجنوب، عبر استغراب كتلة المقاومة والتنمية غياب الاعتمادات للمناطق المحررة، وعبر توقف لجنة المال والموازنة عن دراسة مشروع قانون موازنة 2001 "الى ان تعد الحكومة مشروعا بديلا تضمنه إنماء المناطق المحررة وتعويض المتضررين فيها"، وعبر اجتماعات فعاليات سياسية وإدارية رسمية عقدت في بنت جبيل (صحف 27/4/2001) تطالب بالاسراع في "تنفيذ المشاريع المقررة". وقد جاءهم التعليق ساخرا من لسان حق من بنت جبيل بأن الاهالي لا يريدون شيئا "بس رجعوا لنا بلدنا متل ما كانت".

ولا يقلل من الجانب التنموي لهذه التصريحات كونها تأتت على قاعدة الاعتراض على عدم تنفيذ القانون رقم 242 الصادر في 7 آب 2000، والذي خصص 500 مليار لبنانية لمجلس الجنوب، ولم تأت على قاعدة المطالبة بسياسة تنموية واضحة في منحاها وفي روزنامة تطبيقها.

ومع ذلك يحار الجنوبي مما يقرأ أو يسمع عن "محررات" إنمائية وبنى تحتية، ومن تحريرات وطنة وبنى قومية، ومن حرير المواثيق والعهود، فبات لا يبيت على ما يسمع ويرى من ازياء الاجتماعات والقرارات. إنه ظلم ذوي القربى. وليس في ذلك غربة او سلوك "لبناني" في غير مكانه. فباقي الوطن في عسر من أمور نمائه، ومن "أشبه أباه فما ظلم". ولكنه الجنوب "أبو تحرير"، المولود البكر والوحيد، "لا يخاف بخسا ولا رهقا" كما في القول الكريم، يستأهل من الدولة نظرة غير معهودة في الكلام والتقديمات. ولكن حاله هذه لم تكن عشية التحرير، غريبة عن تهيؤات الجنوبيين وعن حدسهم. كانوا يهجسون، بأن يكون التحرير دخولا الى الحياة اللبنانية، بكل ما تحفل به هذه الحياة من ضروب الشطّار والعيارين. نقول، كان هذا هاجس الجنوبيين وخوفهم، وليس في الأمر صعوبة في التقدير او التبرير. فقد ارتفع في وجه الدولة اللبنانية مع التحرير، وقد ارتبط اقتصاد الجنوب بالاحتلال الاسرائيلي، ارتفع تحد يفترض تعويض اقتصاد المنطقة، مع اندحار الاحتلال. وهو امر لم تحزم الدولة عزمها عليه حتى اليوم. والأكثر قساوة أن أوان بدء المعالجة بعد سنة من التحرير، لم يحن بعد.

والحديث في الاحوال الاقتصادية الجنوبية، "ذو شجون" وذو فنون متشعبة. يحدثك الجنوبي، بإيماءة من يدين فارغتين او غمزة من عينين ممتلئتين همزا ولمزا. يستبرئ الجنوبي نفسه بهاتين الحركتين، ويبعد عن نفسه فجور امتداح الاوضاع الاقتصادية زمن الاحتلال، ويبعد كذلك عن لسانه فسق الحديث في نتن ارتباط العمالة بالمؤسسات الاسرائيلية.

لم يعد ممكنا بعد التحرير، النوم على وعود التنمية، ف"الصبي على الصينية" كما يكني الجنوبيون عن ضرورة التدخل المباشر والسريع والحاسم، فالكردي والحائط وجها لوجه. المريض موجود وقد جاء بلسم الحرية فأين المستشفى الحر؟ والطالب موجود وقد جاء نور العلم الوطني الحر، فأين دور المدرسة؟ والوجوه الظمأى الناشفة الجائعة موجودة، وقد جاء ترياق الحرية فأين اسباب شريعة الماء واسباب الرزق. بعد التحرير استردت اسباب الحياة اسماءها. فالإدارة إدارة، والمستشفى مستشفى، والعمل عمل، والمواطن مواطن، لم تعد التورية مفهومة، باتت لغوا من ماضي تعامل احتلال ممجوج مكروه.

لم يكن العمل او فرص العمل مع الاحتلال مشكلة جنوبية حدودية، كان الأمر سهلا على "قفا مين يشيل". كانت مشكلة الجنوبيين ان العمل مع الاحتلال، كالبطالة مع الانتساب الحر الى الوطن، أمّ لجميع الموبقات: الكسب الحرام وموبقات القلق، وموبقات السلوك من تعاطي حشيشة ومقامرة. كان الجنوبي يبحث عن امان دافئ وعن عمل وسكن.

ولا نجانب حقيقة او منطقا اذا ما تصورنا ان البطالة الحدودية اليوم تثير لدى الجنوبيين احرارا، نوازع وكوامن تفت من تماسكهم، اكثر مما كانت تفري في عروقهم رحلات العمل اليومية المضنية الى داخل المؤسسات الاسرائيلية.

المرافق غير العامة

الحديث في مرافق الشريط العامة وإداراتها حديث "حيايا" لا ينقطع سيّغا سلسا، فكيف اذا ما كانت "حيايا" لها "قرون" من التبرير، من قبل ومن بعد، وآخرها اتهام الدول الغربية بالاهمال و"المحدال" (اي التقصير باللغة العبرية) في تنفيذ منائحها على الجنوب محررا.

ففي ميدان الصحة تبدو كارثة الشريط المحرر في بوار المؤسسات الطبية في داخله، فقد قطعت اخبار مستشفى مرجعيون الكسيح قول كل خطب، بعد ان "اكتسحته" الدولة بإهمالها، إبرة إبرة وحبة حبة ومصلا مصلا. اما المياه فلا سبيل إليها منتظمة الدفع، في كثير من المناطق المحررة، وتحديدا في مناطق القطاع الأوسط.

المدرسة الحدودية:

ما أدراك وما يدريك

لم يدخل "التحرير" الى المدرسة الحدودية، ولم تحفل المدرسة الرسمية، مؤسسة التأهيل الوطني الاولى، بما تستحقه من إعادة اعتبار، فما زالت هذه المؤسسة في المنطقة الحدودية المحررة، في الموقع نفسه الذي تدور به قضايا وازمة المدرسة الرسمية في اية منطقة اخرى من المناطق اللبنانية، اذ ما زالت قضايا البناء والتجهيزات وإعداد المعلمين وتوزع اختصاصاتهم، قبلة التوجه الرسمي في توصيف ازمة التعليم، او في ترسيمه حدودا لها في المناطق اللبنانية "الجديدة". وكأن عشرين سنة من الاحتلال، وهي ما يعادل جيلا كاملا في مقياس الفعل التربوي، كانت "عبور غيمة" او "رفيف جناح" في سماء الجنوب، التي عادت بعد ذلك صافية كعين الديك، مع عودة الجنوب الى نصابه والشعب الى محرابه في حضن الدولة اللبنانية.

لقد شكلت المدرسة الحدودية نقطة التهديد الاولى، راحت اسرائيل تضرب من خلالها في خاصرة الشريط محتلا، خاصة بعد ان تركت المدرسة الرسمية مفردة في مواجهة خبث الاحتلال. وقد اوصلت سلطات الاحتلال، الحدودي لأن يعيش غير أحلامه وغير علاقاته وغير لغته، ان يعيش تفاوتا فجا بين امور البيت وامور المدرسة، في البيت هموم في الصحة والتنقل والمعبر وتقطع الاوصال العائلية واخبار المقاومة والعمليات ضد القوات الاسرائيلية، بينما عليه ان يكون داخل المدرسة على غير هيئة وغير لغة.

هذا الواقع القائم مع الاحتلال يدفعنا لطرح سؤالين وملاحظة، تصب في دور المدرسة المفترض مع التحرير:

1 ما الذي أدخله التحرير من تغيير في مهمة المدرسة، يطلق ما في داخل التلميذ الجنوبي، او يطلق الى داخل التلميذ الجنوبي، من شحنات جديدة في التواصل والانتماء الوطني؟

2 ما هي الوسائل والأدوات التي سوف تتوسلها المدرسة في توصيف هذا التساؤل والعمل بالتالي على تحقيقه؟

اما الملاحظة فتقول بأنه يستحيل الحديث عن نظام تربوي قائم متكامل مترابط يشبك التعليم في مدارس الجنوب المحرر، لأن هذه المدارس تدور في ما بينها، على معارك من "ذوات الصواري"، لان الاعلام مرفوعة في بعض القرى، على صواري مدارسها وفي زوايا ملاعبها و"حواجب" بواباتها. ناهيك بالطبع عن الاعلام المرفوعة فوق المؤسسات الدينية واعمدة الكهرباء وفي أنصبة الساحات العامة، ولا ترى من بينها غالبا علما لبنانيا واحدا، وان حصل وتوافر فهو بحجم مقزوم يرفرف في انخفاض وغربة، ولا يوصل باعتبار او احترام. او لا ترى في غير قرى، سوى الاعلام الحزبية اللبنانية خفاقة، وفوق الاشجار والتلال احيانا، ترد بإشراقها كيد الآخرين الى نحور أعلامهم.

"الموت بين الأهل نعس"

يظل استمرار الهجرة والنزوح من الشريط المحرر في السنة الاولى على تحريره، على وتائره المرتفعة السابقة، فقد وصلت نسبة من اطرحوا بأنفسهم خارج الجنوب المحرر، وتقلبوا على اسفارهم خارج باقي لبنان، باتجاه مغتربات خارجه، أرقاما مخيفة بلغت نسبتها، احيانا، ما يتعدى النصف من السكان المسجلين.

كان النزوح وكانت الهجرة مع الاحتلال، "تخليصا" للمجتمع الشريطي المحتل من بعض العناصر القوية فيه (معلمين، فاعليات اجتماعية، شباب في مقتبل العمر...)، ودفعا به الى استكانة مهادنة لواقع الاحتلال وتمهيدا لاستيعابه والوقوف عليه. اما سنة التحرير الاولى فلم تحمل للحدوديين المحررين، ما يسد "الشبابيك" امام "هوى" الهجرة لديهم، واليوم تتواضع الظروف الاقتصادية القاسية في هذه المنطقة، مع إقفال ابواب الرزق في المجال اللبناني كافة، وتتواضع مع القلق السياسي المتمثل بوقوف المنطقة في الجفن "الناعس" للحرب، ومع قلق الاقامة الآمنة مع التفجيرات او البيانات اليومية النهارية او الليلية، تتواضع هذه الامور جميعا على ثبات المحررين في مآرب صمودهم من أرزاق وبيوت واهل. فإذا الكثرة من ابنائها تقيم في الشريط على حلم الرحيل عنه هذه المرة.

وبذلك تتحول الهجرة من الشريط المحرر الى تيار مستديم لا يتوقف. وهذا ما يفسر قلق السكان الحدوديين وخوفهم من النزول في طريق الغربة التي طالما استمروا في دفعه طويلا، وكانوا على رهان دائم بأن التحرير هو البشير الذي سوف يحمل خلاصهم من الكابوس الثقيل للهجرة، وهو الكابوس الذي يساوي ما بين النخب الميسورة وبين الجموع المعسورة في الشريط المحرر.

كان الاحتلال يموه الهجرة في نفوس اصحابها. وكان الاهلون يواسون قراراتهم بالغربة في وقائع الممارسات العدوانية، فلما جاء التحرير صارت الهجرة أسى لاحلام من إقامة مكسورة، وصارت مشروع إقامة طويلا، واستكمالا، او ابتداء لهجرة تلم العائلة جميعها على افق عودة مقفل، بإحكام هذه المرة.

تمتد دائرة التفكير الجنوبية بالهجرة وتتسع. لم يعد طالب الهجرة في وارد "التكسير" على نفسه، بأن رغبته إقامة مؤقتة عارضة، ريثما تنجلى غيمة البطالة والقلق. يبدأ هجرته بانتقال افراد العائلة، اجمعين، على نية استبدال وطن بوطن ولا حاجة لاستبدال اهل بأهل، فالاعداد الفعلية من "الأهل" ابناء العائلة او البلد او المنطقة اصبحت بنصابها الكامل احيانا، في المغتربات البعيدة.

وهي مغتربات (في الولايات المتحدة الاميركية او كندا او استراليا) حصّلت فيها الجاليات الجنوبية هيئاتها المحلية الخالصة، بعد ان اكملت عقد إقامتها. بعض هذه الاقامة اكتملت بكامل افراد العائلة. وبعضها اكتمل بوجود رأس من فعالياتها، وهذا ما يجعل منها مواطن جنوبية بامتياز، بما تعنيه كلمة موطن من علاقات عصب واجتماع واقتصاد وسياسة، الى علاقات الثقافة بالطبع.

ملائكتهم حاضرون

بقي الشريط في سلم اعمار سكانه، مستودع اعمار أقرب الى النضج والشيخوخة، لا ترى هيئة الطفولة او المراهقة إلا مع اطفال المدارس جائين او ذاهبين مع حلول دوامهم. تلك هي ديمغرافيا الشريط الممتدة سنوات طويلة من عمر الاحتلال، تتابع قسماتها مع التحرير، يحق فيها ما قيل في توصيف النجف العراقية "صادراتها عجائز ووارداتها جنائر".

لم تعد الحياة بعد، حركة الى دروب الحارات وأزقتها وفسحات احيائها، على الوافدين الى بلداتهم الام في عطلات نهاية الاسبوع، ان يلتموا على اجتماع خاص بهم، يتنازل الاهل فيه عن وقار الاعمار وبعض عجزها، ويخفض فيه الاطفال جناح الرعونة والغرارة، يتنازل الطرفان عن مقتضيات الاعمار وميدان العشرة والمخالطة لكل منهما... وعما هو واجب لكي يعيش الاهل مآرب قريتهم، ولكي يعيش الابناء مآرب اعمارهم.

ولكن الذي ما بين الاهالي المقيمين في قراهم والوافدين اليه من اهاليها الطارئين لقضاء عطلة او لواجب زيارة، "لمختلف جدا" فقد تحزم المقيمون في أمرهم، وصارت لهم علائقهم المجدولة بينهم وزاويتهم الخاصة في مقاربة الامور ومعالجتها. يقيم الطرفان في الشريط المحرر متقابلين من "بعيد" عن بعضهما، وكذلك ينظرون متباعدين الى مواجد الشريط المحرر وقضاياه.

وتستطيل المباعدة بين الفئتين لتغطي الهيئة والزي واللهجة، وحتى مفردات الكلام وطريقة التعبير والتحية والتسليم والنظرة الى الامكنة والحاكورة والشجرة والساحات والزواريب...

تتأرجح حركة الجنوبيين الاهلية المدنية، اليوم ما بين ضفة الاقامة خارج الجنوب وبين ضفة الانتماء واللهفة اليه. وهي لهفة تتناقض مع امتداد الاقامة خارج القرى والحواضر، والتي نرى ان الانتخابات البلدية في الاشهر القادمة، سوف تتولى كشف الستر عما تحدد من روابط خارج الجنوب على حساب روابط داخله والارتباط فيه، فالجنوبيون اليوم يقيمون في مناطق واحياء في المدينة، ويرتبطون ببنيتها الاهلية والمدنية بقوة الاقامة والعشرة، بقوة المصلحة المباشرة في النظافة والخدمات المباشرة والمرافق العامة، دون ان يكون لهم من مشروعية في قانون الانتخابات البلدية السائدة. ولكن هؤلاء الجنوبيين أنفسهم وبفرض من قانون الانتخابات عينه موصولون بأمور انتخابية في مناطق سجلاتهم في بلداتهم الأم.

واليوم مع عودة الشريط محررا، باتت عودة اهليه النازحين إليه، خطوة أولى في سبيل حلم عودة اهليه المهاجرين إليه، قضية أولى من بشائر الامن الديمغرافي، بما يتطلبه هذا الامن من تمرين على استعادة الابهام، الذي يصل ما بين التراب والنفس وما بين الهواء والرئة وما بين الوطن و"حشيشة" القلب. فالنازحون او المهاجرون، قد امتدت إقامتهم خارج بلدانهم، صاروا من خيار العودة الى قراهم على حسابات جديدة في المهنة والوظيفة وتعليم الابناء وزواجهم او تزويجهم، وعلى الممتلكات في المدينة وعلاقات اجتماعها من عشرة وجيرة ووسائل عيش... ولا نغالي إذا قلنا ان غالبية هؤلاء لا يرون في املاكهم في منشئهم الام، سوى ارصدة كانت مصادرة مع الاحتلال، وهي اليوم ارصدة مجمدة مع التحرير، بانتظار فرج تحريكها لاستثمارها في مناحي الاقامات الجديدة.

لقد تخطت ازمة النزوح والتهجير مع تحرير الشريط الدائرة التي سورتها طيلة زمن ما قبله، أعني دوام انتظار زوال الاحتلال، وتخطت كذلك دائرة انتظار تحصيل التعويضات المناسبة، فقد باتت هذه القضايا خارج قضية العودة او في أطراف بعيدة منها. صارت العودة على مساحة قضية الشريط المحرر نفسها، وعلى مساحة تماسك البنية الوطنية كاملة، بعدما صارت بيروت "ام قرى"، وبعدما باتت العلاقة ما بين احيائها وما بين جماعاتها احلافا احلافا، منها المحصن بعمق اقامته ومنها المحصن بامتداد "قضيته". واللافت في الامر ان تلك الجماعات لا تفترق الواحدة منها عن الاخرى، فالجميع يتولون الوطن وقضاياه من حيث يرتؤون او من مطلات تنتهي اليها مصالحهم او مشاغلهم.

ولكن الظاهرة الخطيرة الراهنة، تبقى، وسط كل ذلك، في ان نزف "التهجير" و"التنزيح" متواصل، وعلى البارد هذه المرة، من مناطق الجنوب الحدودي المختلطة لمسيحيين في قرى صور ومرجعيون وبنت جبيل، وكذلك في قرى تماس مع الشريط المحرر في البقاع الغربي. يتواصل النزوح اراديا هذه المرة، في ظل من الظروف الاقتصادية الخانقة، وفي ظل ظروف سياسية لا تمتد بدوائر العلاقات ما بين الطوائف الى مدارات جديدة، فوقائع ما بعد التحرير في المناطق الحدودية، لا تبشر بحراك اجتماعي متفاعل، يقي المنطقة الترسيمات والفواصل السميكة العاجزة عن ابتكار اجابات ترأب صدوع الاقامة او تخفف من صداعها.

أعلام في رؤوسها نار

ففي غمرة الحزبية القائمة في الجنوب المحرر، نلمح "لبنانية" ناشطة في احاديث القرى وفي وجوه أناسها، وهي لهفة انتماء طالما قصر عنها الجنوبيون او احتسبوها وأرخوا عليها الستر طويلا، بدءا من سبعينيات القرن الفارط، مع تولي المقاومة الفلسطينية ادارة امور القرى الحدودية والنطق باسمها، او مع احتلال اسرائيل المباشر بعد العام 1978.

لم يتمالك العديدون من الدهشة امام انتصاب العلم اللبناني راية فوق واحد من قبور جبانة بنت جبيل، ترتفع فوق المقابر بالعادة رايات سود وحسب. يستذكر الاهالي على امتداد خطوات البين في مقابر البلدة، مناسبتين كانت لهما بيارق وأعلام. الاولى مع شهداء لحركة 1936 1939 في فلسطين، نقلوا الى بنت جبيل ودفنوا في جبانتها. وقد لفوا في البلدة بالعلم العربي (الشريفي)، على وقع تأبين أبيات غير معروفة او منشورة للأخطل الصغير:

انصفوهم أنهم من أمة

ملأوا الدنيا بعدل العُمَرين

ورثوا بأس علي في الوغى

ورموا البطل بإيمان الحسين

وكانت المناسبة الثانية مع "الاخضر العربي"، أمين سعد ابن بنت جبيل من الشهداء اللبنانيين الاوائل في لوائح المقاومة الفلسطينية. سقط في محور شبعا مطلع العام 1970، وقد لف جثمانه أثناء تشييعه المشهود في تاريخ بنت جبيل ومنطقتها، مع اندفاع المقاومة الفلسطينية في حنايا الجنوب، بالعلم العربي (الشريفي)، كما يكني الجنوبيون علم فلسطين.

محمد رشيد فردوس، الضمير المتكلم، رفع العلم اللبناني على ضريح ابنه. يغنيك أبو رشيد عن مشقة السؤال، فيأتيك باسطا "معموديته" في عمله ذاك:

أنا بناني (لبناني) قبل ما كون شيعي

يا أرضي أفكار للأديان شيعي

... ... ..

صحيح ان اعلام "الحزب" و"الحركة" او غير احزاب قومية، خفاقة في الجنوب، على امتداد مؤسساته وساحاته واعمدة الكهرباء فيه وعلى العديد من شرفات المنازل، ولكنها لا تعكس أبدا تطهرا من مواقف "لبنانية" في النظرة الى واقع الشريط المحرر وآفاق مستقبله. فالاعلام تلك تبدو في جانب كبير من علة رفعها، حاشية توازنات قرى واحياء وعائلات، فلا يندر مثلا ان يكون رفع تلك الاعلام، "عدة الايام الاخر" تعويضا عن قصور او تقصير في مواقف ايام الاحتلال، او ان تكون "كفارة" عن كبائر او صغائر حصلت في القرية او العائلة او الاسرة قبل التحرير، او ان تكون استظهارا من طرف بالسلطة القوية القائمة، ظهرا يستند إليه هذا الطرف، في يوم مدافعة، في "محل ضيق"، او "يوم زحمة" في إدارة او سياسة او اجتماع.

وهنا نلفت الى ان ما يرتفع في مناسبات المقاومة من جمع شمل جماهيري يبدو كاسحا في المناسبات العامة، لا يستطيع ان يخفي في الغالب شقوقا واهتزازات تضرب ركائز التكافل والتضامن الاجتماعي، وهي شقوق واهتزازات راحت تداول التأييد للمقاومة شكلا وهوية، مفسحة في المجال امام بروز خطوط الصراع الكامنة في المجتمع الحدودي، المقيم في الشريط المحرر ام النازح منه الى خارجه. ولا نغالي اذا ما استطردنا بالقول، بالمهاجر منه الى المغتربات البعيدة. وما كثرة الاحتفالات الخاصة "بأيام" القرى الجنوبية و"بأيام" شهدائها، سوى شبهات جديدة حول الوحدة والتكافل الاجتماعيين، حيث تبدو هذه المناسبة على مقاسات القرية والعائلة. ويندر ان ترى في الاحتفال البلدياتي الخاص حضورا غريبا عن حمى القرية او العائلة او الحزب المحتفل، وغير بعيد عن ذلك التهافت الدائرة حثيثا في هذه الايام ما بين القرى الجنوبية او ما بين عائلات فيها، وانقسام هذه العائلات جميعا ما بين قرية او عائلة تخدم في صراط الشهادة، وما بين غيرها الغاطس في سلك العمالة.

ان ما يتبادر الى الذهن من ان تأييد المقاومة بوجهه الظاهر، هو تأييد "حلس ملس" استخرج من مواجد المجتمع الحدودي علاقات عصبه او اطفأها، هو حكم لا يعكس "الذمة" الواقعة لهذه العلاقات، والتي لم تتحرج، ومن قبل ان ندرك ان العالم قرية واحدة، من ان تستنوق القوى العظمى في العالم، عشائر وبطونا وافخاذا في حارات القرى وزواريبها، فد "تقربت" فيتنام" من الانقسام الثنائي العائلي في بنت جبيل، حتى تنسبت الى واحدة من فلقتيه. ولا تزال اطروفة "فيتنام بزي" المستحسن، حديثا برا سرا في مرويات البلدة ومأثوراتها.

... ولو بعد حين

كانت الإمرة مع التحرير في عهد المقاومة، حدا امنيا ما بين مفاصل القرى والعائلات وقضايا وتفاصيل دواخلها، اغنى المنطقة عن الدخول في حمى انتقادات تدور على الارواح والممتلكات. وقد سارت الامور في صراطها المستقيم في شهور التحرير الاولى، مع تخفف المنطقة وتطهرها من وطأة عملاء الاحتلال والمتعاملين، تخفيا او سجنا او هروبا. ولكن مع عودة هذه العناصر رجالا علانيين في ساحات القرى وازقتها، وقد قضوا ما توجب عليهم من انعزال او احكام قضائية، كان لا بد من ان تفور حمية بعض لاهالي، وان يستذكروا جراحات "السنان" من سجن وتقتيل، وجراحات اللسان من إهانات وتحقير، تأتت على ايدي هؤلاء.

لم تأخذ الدولة من جهتها موقعها لدى الجنوبيين المحررين حكما بين نوازعهم او حدا بين تنازعهم، لذلك كان من الاهالي، من راح يتولى "حقه" بيده، ويتقدم من "قوس" المحاكمة وإصدار الاحكام والقضاء، بتفجير سيارات من رأى فيهم عملاء سابقين، او بتفجير بعض محلاتهم وحتى بيوتهم. وهذا ما يتجاوز الحدود السياسية والامنية التي حكمت حدود الأمن والأمان الجنوبيين مع مراحل التحرير الاولى. وهو تجاوز، وإن كان بعض الجنوبيين لا يرون فيه خروجا عن سوية القصاص العادل الذي يجعل النفس رهينة مكاسبها، يرى ان الدولة هي التي شرعت في خروج الناس على الامن، طالبين "ثارات الخيام" وثارات "ال17"، يوم لم تستطع هذه الدولة ان تكون حسيبا على قضاياهم واحوالهم. كل قضاياهم وكل احوالهم، وقد نجم عن ذلك شمول القسمة والخلف مواد جديدة من عصبيات المناطق والطوائف ومن عصبيات العائلات والاسر داخل القرى نفسها، حتى باتت هذه الانقسامات وجها من وجوه التوازنات الجديدة في الهيئات الاجتماعية البلدية في الجنوب المحرر. فكان ذلك اكثر مما تتحمله وتطيقه بعض هذه القرى في توازناتها المحلية، فكانت في البعض منها تلك البيانات المهددة وتلك التفجيرات في السيارات والممتلكات، الدفعة الاولى من مباشرة القتل.

الجنوب و"الهوى الشمالي"

تنقسم هيئة القرى الحدودية، الشيعية منها تحديدا، ما بين محررين (بكسر الراء الاولى) وبين محررين (بفتحها). اي انهم ينقسمون ما بين فاعلين للتحرير وبين آخرين تلقوا فعل التحرير، وقد وقع منهم اهلا ووطأ سهلا.

ويحاكي حال اللغة ما بين فاعل التحرير وبين المفعول به، كفة الطرفين في ميزان المسؤولية الامنية حينا والسياسة حينا آخر. والمسؤولية الاجتماعية في كل الاحيان. لم تستو "اعتبارات" التحرير مع أدبيات ما قبله، حول صمود المقيمين وتضحياتهم وبطولاتهم مع توليهم تحت الاحتلال الاسرائيلي، امور ارض الجنوب وتراثه ونصاب اجتماعه وحتى لرعاية اشجاره والحجارة فيه. ولكن هؤلاء (المقيمين) المتصلين بالمقاومين المحررين، لم يلحظوا ان لهم منسوبا بسيطا في التدبير او التسيير. والترسيمة العفوية لذلك تقضي، بالحد الادنى، الى وضع المقيمين خارج اي موقع في إطار صورة التحرير.

ليس سرا بالطبع ان المقاومين الوافدين الى قراهم مع تحريرها من الاحتلال، يتولون الامور في القرى من تحصيل وسلوك دينيين. وبذلك ينعقد الموقف الوطني، او الموقف من الحياة الاجتماعية من منظور ديني وحسب. وعلى ذلك بات كثير من معالجات شؤون في القرى، لغة وهو هواجس يومية. ولا يخفى ان تسنن المقابلة يشكل مدخلا، لتداعيات قد تكون موصولة بذاكرة الحروب الطويلة في ارض الجنوب، وخارجها، ما قبل الاحتلال او اثناءه وهذا ما يجعل احيانا مواقف هؤلاء المقاومين، خفية عنهم او رغما منهم، لصيقة من خارج على حياة الجماعة البلدية المتواجدة وحركتها، خاصة ان ما يحصل من مواقف لا تصير الى النهاية، على نقاشات او سلوكات او ظروف... يأتي الحسم غالبا من موقع القوة والتقرير والحسم، بحيث يتم تطويع مدارات الحياة الاجتماعية وقياسها على مدارات مازورة جاهزة ثابتة كل وقت وحين.

واللافت هنا ان مواقف المقاومين، من الحياة الاجتماعية في الشريط المحرر، لا تجتمع على سنة واحدة، فالاعراس والدبكات والافراح، التي تستبعد من قرية، تقوم اليفة في غير قرية، صافية في هويتها الدينية، على ضفة الشريط المحرر من الخارج.

وهكذا يطوي بعض الجنوبيين مناسبات افراحهم على اقامة فارغة من الاحتشاد، او على احتشاد فارغ من اجواء الاحتفال. فقد انقضت او كادت احتفالات الاعراس والافراح، وانتفت، او كادت، من ان تكون حاجة في تراث الجنوب وروابط اجتماعية. وهنا يحق لنا القول، هل ان البقية القائمة في المناطق الجنوبية المحررة، تقيم هانئة على تراثها الشعبي الذي احتبك في وجدانها لمئات من السنين، اغاني وامثالا وسلامات ومسرات واصبوحات، كانت تعطي الجنوبي في حياته نبرة الامر اليومي الذي يتحكم ويقيم ميزان الروابط والعشرة والاحلام؟

الطوارئ: ضلع من الجنوب

لم يكن من علات الجنوبيين ومن وقع الاحداث منهم ما يسمح لهم بالنظر الى هذه القوات مؤقتة في عملها ووجودها. صحيح ان هذه القوات، هشة المكسر وقد باتت عناصرها جنودا ردفاء يطلق سبيلهم الى وقت الحاجة، لكن هذه القوات منذ نزولها الاول عنصرا اضافيا من تشكيل اللوحة الجنوبية او اللبنانية او الاقليمية، وقد صاروا عيار المنطقة في احوال السلم واحوال الحرب واحوال قلق ما بينهما. وكان عليهم ان يعيشوا امان المنطقة وسلمها الخاص، وان يعيشوا ايضا قلق حروبها الخاصة.

ومع امتداد العشرة طويلة ما بين "الطوارئ" والجنوبيين، وقد مضى على وجودهم ما يقارب ربع القرن، بات هؤلاء على معرفة بالجنوب طوائف وقرى وحتى افرادا وعادات وسلوكا. والاحاديث دوارة في قرى الجنوب عن عادات بلدية "قح" اكتسبتها "الطوارئ"، من ركوب الحمير الى تعبئة المياه من الآبار ومن الشر "زرنقة" من ابريق الفخار الى السلام بوضع اليد على الرأس اولا وعلى الصدر ثانيا، الى حفظ بعض اغاني فيروز عن ظهر قلب. وبات الجنوبي بدوره على معرفة بالطوارئ بلدانا وعادات وثقافة ولغة واريحية. وقد اضافت هذه المعرفة البسيطة الى مخزون الطرفين عن بعضهما غنى لا يتحدد.

هناك جيل كامل في بعض قرى من الجنوب شب ودخل في المشيب في وجود هذه القوات وصحبتها.

فالتواصل الشعبي الاول مع الطوارئ في مبادرته، كان على كاهل الاطفال وفي كفالتهم. فقد كان هؤلاء الاطفال ألسنة اهلهم في التجارة والتعامل، وقد تدبروا امر اللغات المتعددة لاقوام الطوارئ. فهم (الاطفال) مع الطوارئ، الاكثر قدرة على سماع "لغواهم دون الخوف من طغواهم". وقد حذقوا كثيرا في هذا المجال، وتناهوا في فصاحتهم "فهناك صبية في (منطقة الناقورة) يتكلمون الانكليزية بلهجة ايرلندية او سويدية. وهناك من يتكلم السويدية اضافة الى الانكليزية والفرنسية. "اما في بلدة قانا فالاطفال يتقنون اللغة الفنلندية افضل من المترجمين المحلفين". وكذلك الامر في منطقة قلاويه حيث يوجد عدد كبير من الذين يعرفون اللغة الفنلندية، لا بل بعض الفتية يتقنون عددا من اللغات منها الاسكندنافية.

الافادة الجنوبية المباشرة من وجود الطوارئ كانت تقديمات هؤلاء في تسهيل المرافق العامة في ميادين الصحة والكهرباء والمياه اضافة الى المساهمات الجلية في تحسين خدمات المواصلات لشق طرق جديدة او إصلاح وتعبيد الطرق القائمة.

ولكن الفعل الرئيسي من وجود الطوارئ كان تأثيرهم في اقتصاد المنطقة الكامل عن طريق اعداد الموظفين الجنوبيين العاملين معهم (في حدود ال 455 موظفا)، وفي التجار الجوالين واعداد المحلات التجارية، فقد تواجدت هذه المحلات في خراجات البلدات الجنوبية في محيط حواجز الطوارئ، وقد يصل تعدادها الى المئات الكثيرة.

استطاعت التجارة الجنوبية مع الطوارئ ان تمتد حتى صارت باب الرزق الاول لآلاف الاسر الجنوبية التي تتوزع على مجمل منطقة انتشار الطوارئ مع غلبة واضحة في محوري الناقورة وابل السقي، وامتدادها في سنة التحرير الاولى الى اماكن لم تكن فيها من قبل (عيترون، رميش،...). وقد صار من التصاق هذه التجارة في حياة قطاع جنوبي واسع، ان صار الجنوبيون ينظرون الى الطوارئ هوية تجارية وحسب.

يفسر هذا الواقع قلق الجنوبيين من الحديث عن تخفيض عديد "الطوارئ" مقدمة للانتهاء من هذا الوجود. وهو قلق يصل الى حد تفكير العديد من الجنوبيين بهجرة الجنوب مع تفريغه من "طوارئه" (راجع تحقيق ثناء عطوي "تجار القرى الجنوبية يستعدون لوداع الطوارئ"، "السفير" 15/5/2001). ان النظرة الجنوبية الى الطوارئ التي ترى فيهم شعاعا من هدوء، وسكينة، تبدو ممتدة على مساحة القرى المحررة، او قرى تواجد الطوارئ، الى الحد الذي لم يعد يدفع بالناس الى الحديث في جدوى ودور هؤلاء الطوارئ، لا بل ان النظرة الجنوبية تسلم بحتمية وضرورة وديمومة هذا الوجود. لذلك نرى ان الطوارئ في حدود الوقائع الاقتصادية والاجتماعية التي يديرونها في الجنوب، وفي حدود العلاقات السياسية والامنية التي يدارونها ما بين الاطراف الفاعلة في لعبة المنطقة، وفي حدود كل ذلك، تبدو الطوارئ في الموقع المصل من وجود الجنوبيين ومن مستقبلهم.

متاع التحرير

لقد عرف الجنوبيون الحدوديون الحرية للمرة الاولى من ربع قرن، ولكنهم مع سنة التحرير الاولى، يرطنون بهذه المناسبة بغير الفرحة ويمسحون غير دموعها، فهم مشغولون امام الآخرين بلملمة نواحي اقامتهم في ارضهم المحررة، وملهفون بالتفتيش عن تقنيات فرح تضبط النواحي الجنوبية تحت سقف الاداء الوطني الطموح.

بعد سنة من حصوله، يتحول التحرير لان يكون هم امر اليوم الجنوبي. لان ليس للجنوبي من نصيب في مكسب او عمل. ولا مظلمة لبنانية في ذلك "فمن ساواك في نفسه ما ظلمك"، فالبطالة هوية القادرين على العمل في باقي لبنان. والتحرير همّ امر اليوم الجنوبي مع بطء توزيع المساعدات والتعويضات مع ان عوض السلامة الوطنية، يجدي في تتبيل جروحات الخسائر لا بل وحتى في شفائها. والتحرير هم مع بقاء خطط التنمية معلقة في فراغ الوعود والدراسات ومقتبل الايام. وهو هم مع زحف البنى التحتية محمولة على ظهر سلحفاة نقص الاعتمادات. واذا ما كان الجنوبيون مع كل ذلك، يتوفرون على صاحبتهم لدولة ويرعون حرماتها طيلة شوقهم وحنينهم اليها، فإن هم التحرير الاول يبقى لانه لم يعط الجنوبيين حضورا اصيلا في قضاياهم، فما زالت الوكالة عنهم قاصرين قائمة منذ السبعينات، ولم يرجع اليهم احد ما هو لغيرهم من باقي هيئات الوطن، مواقف تأخذها في الطوائف او في الاحزاب بالاصالة عن نفسها وعن موقعها وظروفها. يتوالى الجنوبيون على اعمارهم وممتلكاتهم وابنائهم واحوالهم محمولين على وقوعات لم يخايروا في امورها.

ويزيد من ازمة الجنوبي ان تلك الوقوعات لا تتحرك غالبا في دوائر السياسة، وهي في جوهرها طعن للسياسة وطراد لها. والجنوبيون لم يعودوا مع آرائهم، على عادة في التعبير عنها، فصوت المعركة هو الاعلى وحدود "القضية" الاكثر امتدادا تستقوي حياة الجنوبي، عمرا بعد عمر، وسنة بعد سنة، فبات الجنوبي وكأنه يهرول لاهثا من ازمات وقضايا لم يصطنعها الى مناطق ومهاجر لم يتخيرها.

كانت موائل الازمة التي يدور فيها اهالي الشريط المحرر، مركونة من قبل، في وقوعات الاحتلال ومفاعليه. لم يعد الجنوب اليوم محتلا، وقد صارت المنطقة الممتدة من "فقش" الموج في الناقورة الى "مرمى" الثلجة في مرتفعات عرقوب جبل الشيخ تنام وتصحو على لبنانية ناصعة صافية، لذلك كان الوقوف على اوضاع الشريط المحرر بعد سنة من تحريره، يعني الدخول في شبكة احاسيس متقاطعة. قد يستحيل "الوقوف" وقوف من يبكي ويستبكي اذا ما ولجنا دخائل الجنوب، الذي لم يبق في قلبه من "مودات" التحرير الا القليل يمسك به الرمق.

تعليقات: