يارين «وأخواتها» الغارقة في إهمال بدأ سنة 1977

إلى شارع الرئيس الشهيد في قرية البستا
إلى شارع الرئيس الشهيد في قرية البستا


الموالاة والمعارضة تتنازعان على ولائها.. بلا مقابل!

كأن الزمن توقف في يارين والقرى الخمس المحيطة عام 1977، تاريخ المجزرة الأولى التي ارتكبها الإسرائيليون فيها، وأدت إلى تهجير معظم أهلها.

لم تتغير أوضاع القرى الست مذاك، ولم تطلها رحلة العودة التي أعقبت التحرير واغتراب الجنوبيين القسري. كما لم تطلها مرحلة ما بعد «عدوان تموز» المرتبطة بالتعويضات، بالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته مروحين في بداية الحرب عندما أودت مجزرة المقاتلات الإسرائيلية بثلاثة وعشرين من أهلها، من النساء والأطفال.

هنا يعيش الأهالي في بيوت يطل بعضها على المستوطنات الاسرائيلية، هنا في يارين «واخواتها الخمس»: مروحين والبستان والزلوطية وأم التوت والضهيرة. «هنا» هي قرى منسية من قبل الجهات الرسمية، والأهلية. لم تنطلق فيها ورش الاعمار ومشاريع الانماء منذ عام 2000 (باستثناء مشاريع محدودة مولتها دول عربية)، ولم يفرج «مجلس الجنوب» بعد عن التعويضات التي تعين المتضررين من العدوان على العودة الى قراهم.

ما زالت القرى الست، وهي قرى سنية، تعاني من غربة أهاليها عنها، إذ لا تتجاوز نسبة القاطنين فيها العشرة في المئة (باستثناء الضهيرة). تبدو كالقرى المهجورة. حتى أن رؤساء بلدياتها ومعظم مخاتيرها يسكنون خارجها!

وليس التهجير هو الرابط الوحيد بين القرى الست، بل إنها تعيش تداخلاً في ما بينها، مبنياً على التداخل السكاني القائم على المصاهرة، والواقع الخدماتي المتردي المشترك.

ما زالت تداعيات مجزرة يارين ماثلة حتى اليوم في نفوس أهلها. ثمة منازل ما زالت مهدمة منذ عام 1977. في الثاني من تموز من ذلك العام هاجم الإسرائيليون يارين، لرفضها التخلي عن المقاومة الفلسطينية. يومها سقط 16 شهيداً.

لم تنته القصة هنا. دخل الاسرائيليون القرية، أحرقوا الجثث وبقروا بطون عدد من النساء، وهدموا القرية. هرب أهالي يارين وجوارها سيراً على الأقدام عبر البساتين والكروم الى القرى الخلفية، ليستقروا بعد ذلك في بلدات جنوبية عدة.

عام 1984، عاد حوالى عشرة في المئة من الأهالي الى قراهم، معظمهم من الشيوخ والنساء، بناء على إذن من مسؤولي المليشيات العميلة.

لم تتغير هذه النسبة حتى اليوم، باستثناء الضهيرة حيث يقيم حوالى 65 في المئة من عدد سكانها البالغ عددهم ألفاً ومئتي نسمة، معظمهم من المزارعين.

عام 2000، توافدت أرتال العائدين الى القرى الست الواقعة في نطاق صور، احتفالاً بالتحرير... وبعد نشوة الاحتفال تركت العائلات مجدداً قراها الى مساكنها البديلة. فالاحياء هنا بلا منازل باستثناء 30 منزلاً تكفلت دولة الكويت يومها ببنائها في يارين. فيما أعاد المقيمون في الضهيرة بناء وترميم منازلهم على نفقتهم الخاصة.

يعتبر الوصول الى القرى الست عملية شاقة تقضي عبور طرقها المتعرجة والمليئة بالحفر. على اثر عدوان تموز، قام القطريون بتأهيل قسم من الطرقات الداخلية في كل من يارين والبستان والضهيرة حيث حفروا بئرا ارتوازية وبنوا جدران الدعم. وفي يارين، حفروا بئرا ارتوازية وقاموا بتأمين خزاني مياه وشيدوا مبنى بلدياً.

والمبنى في يارين بلا بلدية بطبيعة الحال. فالبلدية شبه محلولة. ستة من اعضائها مستقيلون، فيما يسكن الخمسة الباقون خارجها، ومن بينهم رئيسها الزميل حسين الوجه.

يقول نائب رئيس البلدية بشر البردان «لمن ستقدم البلدية خدماتها؟ البلدية أصلا بلا مخصصات مالية، والقرية بلا ناس». لا تنسب القرى الست لنفسها ولاء سياسياً محدداً. يقول البردان إن الولاءات السياسية في القرى الست متنوعة بين «تيار المستقبل» وحركة «أمل» و«حزب الله» والجماعة الاسلامية». أما في الضهيرة، فيقول المختار محمد ابو سمرا «نؤيد الحركة والحزب».

لافتة مرفوعة في بلدة البستان تحمل عبارة: «شارع الشهيد رفيق الحريري... بلدية البستان»، وقد بهت لونها بفعل تشطيب مفتعل. ربما تعكس اللافتة حالة الانقسام في البلدة بين الولاء لـ«تيار المستقبل» وخصومه السياسيين...

يؤكد أهالي القرى بلهجتهم البدوية (أساس الأهالي من البدو) وجود مؤيدين للموالاة وآخرين للمعارضة. ويعبّر أبو نمر مصطفى (73سنة) عن ذلك على طريقته بالقول: «اللي بقدم خدمات هون العالم بتلحقوا».

غير أن مروحين تبقى عنواناً أساسياً للحرمان من الخدمات. لا حياة فيها ولا مقومات للبقاء. لا تتردد سلوى القاسم التي تعتاش من دكان صغير افتتحته داخل منزلها في القول ان قريتها «تشبه المقبرة»، وهي التي تشكو من التقنين الكهربائي القاسي، واضطرار الأهالي لتجميع مياه الشتاء في الخزانات للشرب، واستخدام بركة القرية للري الزراعي. «ولما تضررت أقنية البركة ذات مرة، وبعدما نفدت مياه الشتاء من معظم الخزانات، صار الأهالي مضطرين لشراء المياه، بمعدل 25 الف ليرة لكل صهريج»، تقول.

هدير الحفارة في احد شوارع القرية يصم الآذان، «قبل عشرين يوماً فقط بدأت عملية حفر بئر جديدة»، تقول قاسم ثم تضيف:» يقال إن المشروع تابع لأحد الأحزاب، وأنه مشروع انتخابي»، وهو ما تقوله ايضاً حول إنارة الشارع الذي تقطن فيه، بعدما بقيت لسنوات تمد شريطاً من منزلها لإنارة اللمبة الخارجية.

واذا كان ثمة مستوصفان في يارين (واحد للجماعة الاسلامية وآخر لآل الحريري)، فإن مروحين محرومة من الطبابة والتعليم، لخلوها من مستوصف وصيدلية ومدرسة.

وأكثر ما يؤلم الأهالي في هذه القرى هو أنهم تارة محسوبون كسنّة على «تيار المستقبل» وأخرى على «حركة أمل»، ومن خلفها «مجلس الجنوب». فيما لم يقدم أي من الطرفين تعهدات لاعادة بناء القرى الست.

يقول خالد حسين: «نحنا ضايعين بين الجهتين، تماماً كما كنا علقانين في السبعينيات بين مليشيا لحد وبين الفلسطينيين، كل طرف كان يتهمنا بالعمالة للآخر!»

وحسين الذي يقول إن أفراد عائلته هم من المقاومين، سقط شهيدان منهم مع المقاومة الفلسطينية عام 1978، وآخران مع المقاومة الإسلامية عام 1983، ما زال يعمل في البستان، ويقطن في صور، لأن منزله في يارين دمر لما وقعت المجزرة ولم يعد بناؤه حتى اليوم.

وفي يارين، يقول سعد الحامد «نحنا مقطوعين من كل الجهات، ولكن نأمل ان يستلم «حزب الله» البلدة، لأنه يساعدنا في مجال تأمين الطبابة والأدوية»، إلا أن جارته السبعينية المشغولة قبالته بشك الدخان، مع زوجها وطفليها (اربع وخمس سنوات)، تعترضه قائلة: «هذي سوالف فاضية، تهدم بيتنا وماتوا الغنمات، وما ساعدنا حدا».

وزراعة الدخان هي الزراعة الرئيسية التي يعتمد عليها القاطنون في القرى الست. تليها زراعة الزيتون والحمضيات ثم القمح.

ستة آلاف ناخب

ما زال بعض الأهالي في يارين والقرى المحيطة يفتخرون بأن التهجير كان ثمناً لدعم المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية. ولكن قبل ذلك كان خط يارين ناصرياً منذ الخمسينيات بحسب هؤلاء. ويشرح بشر البردان «ان القرى الست طول عمرها قومية عربية. وهي كانت من أنصار محمد الزيات في السيتينيات، وعلي الخليل في التسعينيات، ثم حصل بعد ذلك كل من «حزب الله» و«حركة امل» على الحصة الأوفر من التأييد، قبل أن يعود الولاء لينقسم اليوم بين الموالاة والمعارضة».

يبلغ العدد الإجمالي لسكان القرى الست نحو 18 ألف نسمة، بينهم ستة آلاف ناخب. ويبلغ عدد سكان يارين وحدها حوالى خمسة آلاف نسمة، بينهم 2100 ناخب بحسب لوائح الشطب. وفيما بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية الأخيرة نحو ستين في المئة من عدد الناخبين، يتوقع بردان الا تزيد نسبة المشاركة في الاستحقاق المقبل عن ثلاثين في المئة، بسبب غياب منافسة فعلية في صور، وأرجحية احتمال فوز لائحة المقاومة.

غير ان مختار الضهيرة ابو سمرا يتوقع ان تتجاوز نسبة الاقتراع في البلدة ستين في المئة، علماً بأن عدد الناخبين فيها يبلغ 650 ناخباً.

وتقتصر الماكينات الانتخابية في القرى على ماكينتين لكل من الحركة والحزب في كل منها.

يعيش نحو تسعين في المئة من أهالي يارين والقرى المحيطة في بيروت وفي الجنوب. وأكبر تجمع لهم يقع في العاقبية، حيث يطلق على أحد أحيائها «يارين»، ثم في الباص في صور، والمنصوري، وابو الاسود، وبئر حسن.

في السابع من حزيران، سيكون لبعض هؤلاء موعد مع قراهم، التي يبعدهم عنها قسراً غياب الدولة ومشاريعها.

تعليقات: