أسواق حلب القديمة.. حلم وخيال يحلق في طقس تراثي جميل

اسواق حلب متعة للسائح وابن البلد
اسواق حلب متعة للسائح وابن البلد


اشتهرت مدينة حلب، التي تعتبر عاصمة شمال سورية، وثاني أكبر المدن السورية بعد دمشق، بالكثير من المواقع والأماكن التاريخية والسياحية، ولعل من أبرزها أسواقها القديمة الفريدة التي تشكل عنصر جذب سياحياً للكثير من زوار سورية، حيث تعد هذه الأسواق التي يطلق عليها أهالي حلب اسم: (المدينة) بتسكين حرف الميم، كونها تشكل مع خاناتها مدينة متكاملة داخل مدينة أوسع، تعد من أكبر وأطول الأسواق القديمة المغطاة في مدن العالم حتى إنها تتفوق على أسواق دمشق القديمة الشهيرة، إذ يبلغ مجموع أطوال أسواق حلب القديمة 15 كلم، ومساحتها 16 هكتاراً، أي 160 ألف متر مربع. ومنذ تأسيسها في القرن السابع عشر الميلادي، وهي تتخصص في أنواع معينة من المنتجات الاستهلاكية. وكون هذه الأسواق هي الأطول في العالم، فقد تم قبل سنوات إدخالها في موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية العالمية.

كيف يمكن للسائح أن يقضي نهاره فيها؟

المميز في أسواق حلب التي جُلنا بها، جميعها، ذهاباً وإياباً، أنها تعتبر مكاناً جميلاً ليس للتسوق فقط بل للتنزه أيضاً، وفي أي وقت من اليوم، وخلال أي فصل من فصول السنة، إذ يمكن للسائح أن يمضي نهاراً كاملاً يتجول فيها ولمسافة طولية تصل لحوالي 15 كلم ومع روائح محلات عطاريها وزعترها الشهير وصابون الغار العريق، ومع روائح محلات تحضير العطور المحلية، لن يشعر السائح الزائر المتجول في هذه الأسواق بالملل أو بحرّ الصيف وبرد الشتاء فجميعها مغطاة بسقوف حجرية بعكس أسواق دمشق المغطاة بسقوف معدنية، وهي مبنية بشكل هندسي على شكل الأقبية واسطوانية بعقود مقببة ضخمة، وتوجد في سقوفها نوافذ للإنارة لتسمح لأشعة الشمس أن تدخل هذه الأسواق منها، كما أنها تسمح للهواء بالدخول بشكل لطيف، وبالتالي حرص بُناة هذه الأسواق على تحقيق معادلة حماية المتسوق من الأمطار والثلوج والهواء البارد شتاءً والحار صيفاً. وعند النظر لهذه النوافذ من قبل السائح سيشاهد منظراً جميلاً فريداً، خاصة في الأيام المشمسة، حيث يندفع الضوء على شكل حزم من هذه الفتحات، وكأن مصممها أراد منها أن تستقبل أشعة الشمس بكل ما تستطيع من إمكانيات فراغية، فتدخل هذه الأشعة كالنور الساطع ذهبية اللون رائعة بخيوطها، مداعبة محلات الباعة والمتسوقين والزوار، ناشرة الدفء في الأيام الباردة والحرارة الناعمة في الأيام الحارة خارج الأسواق، حيث يشعر الزائر داخلها حتى في أشد أيام الصيف حرارة ببرودة بسبب الأسقف القببية وعمارتها القديمة الفريدة، فتأتي خيوط الشمس لتبعث الدفء في الأجواء الرطبة.

ساعات حلم وخيال: الوصول لهذه الأسواق ليس صعباً، فبعد أن يصل السائح إلى مدينة حلب عن طريق مطارها الدولي، أو بواسطة حافلة النقل إذا كان قادماً من دمشق عن طريق البر، ومن خلال الطريق السريع الدولي الذي يربط المدينتين بطول 350 كلم، يمكنه ركوب سيارة أجرة والطلب من السائق التوجه لهذه الأسواق من جهة قلعة المدينة أو البوابات، فالأسواق تقع في وسط المدينة، وتحديداً بين قلعتها الشاهقة الضخمة وبين البوابات التي كانت تغلق مساء كل يوم لحماية محلات تجار هذه الأسواق، وهي بوابات الفرج وأنطاكيا وقنسرين والجنان والنصر، وتصل مع الجامع الأموي الكبير في حلب، وما إن يدخل السائح أول سوق منها، حتى يشعر أنه في حلم جميل، فهو يسير في متاحف شعبية حية، تقدم له الحياة كما كانت في القرون الوسطى، وسيحلق خياله بين حوانيتها، وخاصة محلات عطاريها المميزة وأعمدتها وجدرانها، وليتخيل نفسه وكأنه يعيش ساعات تعود به لأكثر من 500 سنة خلت، وكأنه إنسان القرون الوسطى يتجول في الأسواق ويشتري مستلزماته، يدخلها البائع بلباسه القديم الذي تميز به بائعو المدينة منذ وجود هذه الأسواق بأكياس من الورق الأصفر، وسيندهش السائح وهو يعبر السوق الأول من أنه لم يشعر بالوقت، حيث يمر الزمن سريعاً حالماً، ولينتقل بعدها إلى الأسواق الأخرى، وما إن ينهي زيارته بعد ساعات سيعرف أنه جال في (39) سوقاً، هي عدد أسواق حلب القديمة، وأنه شاهد كل بضائع العالم التراثية والحديثة في هذه الأسواق، فهناك الزجاجيات المصنعة بطريقة النفخ اليدوية الملونة والعادية وبجوارها تعرض الزجاجيات القادمة من الصين أو إيطاليا أو السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهناك الزعتر الحلبي المحضر في ورش حلبية داخل مستودعات الخانات داخل الأسواق، وبجواره أيضاً الزعتر المعبأ بالأكياس وبشكل آلي، وسيشاهد السائح أيضاً أجمل الأقمشة الحريرية المعروضة في سوق القماش والدراع، ومنها المقصبة والمطرزة والأطالس والقطنيات والصايا والآغباني والعباءات والعقل (الشماغات) وهناك السجاد اليدوي والبسط والصابون بمختلف أشكاله وأنواعه، والمصوغات الذهبية والفضية بأشكال تأسر العين ونماذج استلهمها صياغ حلب من التراث القديم، فتأتي معروضة في سوق الصاغة، وكأنها قطع فنية جميلة ونادرة. وإذا ما سأل السائح عن أسماء هذه الأسواق المدهشة والمتخصصة كل واحد منها ببضاعة معينة، فسيأتي الجواب مدهشاً أيضاً لأسماء ذات ماركات مسجلة محلياً فهناك: سوق الدهشة، والزرب، والبلستان، والخيش، والقطن، والسراجين، والحبالين، والعطارين، والنحاسين، وسوق الصابون، والجمرك وغيرها من التسميات لهذه الأسواق.

مراحل وقرون عبرتها الأسواق: يقسم الباحثون أسواق حلب القديمة إلى مجموعتين، الأولى على شكل خطوط متوازية مع جدار الجامع الأموي الكبير الجنوبي، ويعود تاريخها إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، والمجموعة الثانية مكونة من سوق وخان قيسرية فيها مجموعة من الدكاكين، وتعود أصول أسواق حلب القديمة إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث أقيمت المحال التجارية على طرفي الشارع الممتد من قلعة حلب وباب أنطاكيا حالياً، وأخذت الأسواق شكلها الحالي في مطلع العصر العثماني، وهي في وضعها الراهن تحمل طابع القرن السابع عشر، كما أن سقوفها كانت مغطاة بالحصى والقصب، ولكن في عام 1868م احترقت، فأمر الوالي العثماني آنذاك ببنائها على طريقة الجملون مع النوافذ السقفية.

حلم رومانسي في زيارة خانات الأسواق وحكاياتها خيال لا بد للسائح المتجول في أسواق حلب القديمة أن تجذبه تلك المنشآت المعمارية القابعة داخل الأسواق، وهي الخانات التي أنشئت معها لتوفر الراحة والمنامة للتجار القادمين لمدينة حلب والمتعاملين مع تجارها في مبادلات تجارية اشتهرت بها حلب منذ مئات السنين، فكانت الخانات مكاناً لراحة زوار حلب ونُزُلاً وفنادق لمنامتهم، وتشتهر أكثر هذه الخانات بواجهاتها المزينة بالزخارف ومداخلها ذات الأقواس العالية وأبوابها الخشبية المصفحة بالحديد والنحاس التي كانت تغلق عند هبوط الليل، ويبلغ عدد الخانات 70 خاناً، من أبرزها خان الوزير الذي أصبح سوقاً للمهن اليدوية الحلبية وخان قرتباي والعلبية وغيرها. وقد ازدهرت هذه الخانات تبعاً لازدهار المبادلات التجارية في حلب وخاصة في العهدين المملوكي والعثماني، وتقول حكاية هذه الخانات الحالمة إنها كانت مركزاً لإقامة الجاليات الأجنبية فأقام فيها تجار البندقية والإنجليز والهولنديين والفرنسيين، وكانت الجالية تتألف من قنصل وعشرة تجار وقس ومستشار وطبيب وضابط يسمى (جاويش) يسير أمام القنصل وهو يحمل عصا ذات قبضة من الفضة، ويعمل تحت إمرته مجموعة من الجنود الانكشارية، وكان القنصل أيضاً يعمل في التجارة، وقد كان الأوروبيون يمارسون التجارة بشكل واسع في حلب، وكانوا يستأجرون عدداً كبيراً من الجمال لجلب البضائع من الإسكندرونة وإليها، كما كانت الخانات أماكن لصرافي العملات وبورصات أيام زمان ومراكز للبعثات القنصلية والسفارات، حتى إن بعضها أخذ اسمه من القنصلية التي كانت تقيم فيه مثل «خان الفرنسيين»، والفرنسيون أعادوا قنصليتهم في حلب قبل سنوات قليلة إلى خان النحاسين، متخلّين عن مبنى حديث في حي العزيزية الراقي بحلب ليعودوا إلى منطقة الأسواق القديمة، حيث الحلم والخيال يحلق في طقس تراثي تاريخي جميل ورائع.

دخلت موسوعة «غينيس» لطولها المميز
دخلت موسوعة «غينيس» لطولها المميز


تعليقات: