
منذ نشأة الولايات المتحدة على أنقاض شعوبها الأصلية، قامت فلسفتها على التوسع والسيطرة وبناء نفوذ عالمي يرتكز على الاقتصاد والسلاح والتحالفات الاستراتيجية. وبالتوازي، كانت الصهيونية العالمية تخطّط لمشروعها القائم على اغتصاب فلسطين وتوسيع دائرة النفوذ في المنطقة. ومع الزمن، تلاقت المصالح بين واشنطن وتل أبيب، فشكّل هذا اللقاء محورًا جيوسياسيًا مركزيًا أعاد رسم خرائط الشرق الأوسط، وحوّل لبنان إلى ساحة تتقاطع عليها مشاريع الهيمنة من كل اتجاه.
تشكّلت الولايات المتحدة من مزيج من المستوطنين والباحثين عن الثروة، واستطاعت خلال عقود أن تتحول إلى القوة الاقتصادية الأولى. اعتمدت أميركا في سياستها الخارجية على:
- خلق أنظمة أمنية تجعل الدول بحاجة دائمة لحمايتها، بيع السلاح وإدارة التوترات السياسية، التحكم بالثروات الطبيعية، خصوصًا النفط والغاز، ربط اقتصاد الدول بمركزية القرار الأميركي.
بهذا النهج، تحوّلت مناطق عديدة، خصوصًا في الشرق الأوسط، إلى أسواق مفتوحة للمنتجات الأميركية وإلى ساحات نفوذ سياسي تضمن بقاء واشنطن على القمة.
الصهيونية: مشروع توسّعي يبدأ بفلسطين ولا ينتهي عند حدود في المقابل، بنت الصهيونية العالمية مشروعها على رؤية توسعية تعتمد على:
احتلال فلسطين وتهجير شعبها، إضعاف الدول المجاورة وضرب استقرارها، التأثير في القرارات الدولية، اختراق المؤسسات المالية والإعلامية والسياسية الكبرى حول العالم.
وبينما سعت إسرائيل إلى فرض نفسها قوة أساسية في الشرق الأوسط، عملت على تحويل أزمات المنطقة إلى فرص توسع ونفوذ.
التقاطع الأميركي–الصهيوني: مصالح تكمل بعضها البعض لم يكن التقارب الأميركي–الإسرائيلي مجرد تحالف سياسي، بل أصبح ارتباطًا عضويًا.
صحيح أنّ الكيان الصهيوني ما كان ليقوم أو يستمرّ يومًا واحدًا لولا المظلّة الأميركية—هذه حقيقة يعرفها الجميع. لكن هذا لا يعني أنّ كل شيء يحدث بإرادة أميركية خالصة، فبين المشروعين تقاطعات واختلافات في الوقت نفسه.
أميركا ليست جمعية خيرية؛ تدعم إسرائيل لأنها جزء من مشروعها في المنطقة، لكنها في النهاية دولة مصالح، وعندما تتغيّر المصالح تتغيّر السياسات. وهذا ما رأيناه مرارًا في ملفات عديدة حول العالم.
بمعنى آخر: هناك تكامل كامل عندما تتوافق المصالح، وعندما تنتفي… يبدأ الكلام الآخر، وهو ما يفسّر كل التحولات التي نشهدها اليوم في الشرق الأوسط.
في الوقت نفسه، تمتلك الصهيونية تأثيرًا مباشرًا في الكونغرس ومراكز القرار الأميركية، بينما تمتلك الولايات المتحدة القوة العسكرية والاقتصادية اللازمة لتنفيذ المشاريع الكبرى في المنطقة. ومن خلال اللوبي الصهيوني، أصبح دعم إسرائيل جزءًا ثابتًا من السياسة الأميركية، إلى حد أن المتنافسين في الانتخابات الرئاسية يسعون دائمًا إلى تقديم الضمانات لإسرائيل قبل طرح برامجهم الداخلية.
لبنان: بلد صغير بموقع كبير
يمتاز لبنان بتنوعه الثقافي والطائفي وطاقاته البشرية، وبموقعه الجغرافي الذي جعله محطة تلاقي بين الشرق والغرب. وقد كان يومًا مركزًا مصرفيًا وجامعيًا وسياحيًا أساسيًا في المنطقة، خصوصًا بالنسبة لدول الخليج.
لكن هذا التميز الذي شكّل مصدر قوة للبنان، جعله أيضًا مصدر قلق لإسرائيل:
موقع استراتيجي يتوسط خطوط التجارة والحضارات، كفاءات بشرية لافتة، إمكانات سياحية ومالية ضخمة، ثروات غازية محتملة قد تفوق ثروات دول محيطة.
وجود لبنان قوي ومستقر يشكل عقبة أمام مشروع إسرائيل التوسعي، ولذلك كان البلد عرضة لحروب متكررة ومحاولات زعزعة مستمرة.
حروب الآخرين على أرض لبنان
لم تكن الحروب الأهلية اللبنانية مجرد نزاعات داخلية، بل كانت انعكاسًا لصراعات خارجية كبرى تداخلت فيها: الأنظمة العربية، إيران وتركيا، الولايات المتحدة وفرنسا، والاحتلال الإسرائيلي.
النسيج اللبناني المتنوع سمح لهذه القوى بالتغلغل في الداخل، وأدى إلى تحويل البلد إلى ساحة صراعات إقليمية، تكفلت مع الزمن بتمزيق الدولة وإضعاف مؤسساتها.
من تفجير المرفأ إلى اغتيال الحريري: رسائل تُعيد رسم القرارشكّل تفجير مرفأ بيروت واحدة من أعظم الكوارث في تاريخ لبنان، ولا تزال الملابسات الغامضة حوله تطرح أسئلة عن دور خارجي محتمل، خصوصًا في ظل استهداف ممنهج لمقدّرات البلد.
أما اغتيال رفيق الحريري، فكان زلزالًا سياسيًا قلب موازين القوى وأطلق سلسلة أحداث غيّرت وجه لبنان. وبالنظر إلى حجم تأثيره، يصعب استبعاد تورط جهات عالمية مستفيدة من تغيّر المسار السياسي في لبنان.
هذه الأحداث ليست معزولة، بل تقع ضمن سياق إضعاف الدولة وتفريغها من قوتها.
ثروات الغاز: من فرصة إلى نقمة
مع اكتشاف الثروات الغازية الهائلة في شرق المتوسط، دخل لبنان مرحلة جديدة من الصراع. فهذه الثروات:
قد تمنح لبنان القدرة على النهوض، تجعل منه منافسًا إقليميًا، وتضعه في موقع اقتصادي مهم.
لكن القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، ليست مستعدة للسماح للبنان باستثمار هذه الموارد بمعزل عنها. ولهذا أصبحت السيطرة على القرار اللبناني ضرورة لضمان التحكم بالثروات.
حتى البناء الضخم للسفارة الأميركية الجديدة في عوكر ليس تفصيلًا عاديًا؛ فهو إشارة إلى تمركز استراتيجي طويل المدى.
الشرق الأوسط بعد “الربيع العربي”: إعادة تشكيل المنطقة
شهدت المنطقة منذ 2011 انهيار دول كبرى وتفكك مجتمعات كانت تمتاز بثقل حضاري. عمليات التفكيك هذه، مهما كانت عناوينها، صبّت في نهاية المطاف في خدمة القوى الكبرى التي استفادت من:
إضعاف الجيوش، تهجير السكان، خلق أسواق جديدة، السيطرة على الموارد.
والنتيجة كانت إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط وفق مصالح الخارج.
لبنان اليوم: مرحلة الانهيار والخيارات الضيقة
وصل لبنان إلى وضع لم يعد فيه يمتلك هامش مناورة كبيرًا:
اقتصاد منهار، دولة عاجزة، منظومة سياسية مترهّلة، صراعات إقليمية تضغط من كل جانب، ومجتمع فقد الثقة بكل شيء.
أصبح اللبنانيون يشعرون بأن بلدهم واقع بين فكي كماشة: مشروع صهيوني توسعي، ومصالح أميركية تريد التحكم بالثروات، وقوى إقليمية تتصارع على النفوذ.
ورغم ذلك، يبقى السؤال: هل يستطيع لبنان النهوض مجددًا إذا ما اتفقت إرادة أبنائه على مشروع دولة حقيقية؟
لبنان ليس بلدًا صغيرًا كما يُقال، بل بلد يمتلك قيمة جيوسياسية وثقافية لا تضاهى. لكن هذه القيمة جعلته مطمعًا للقوى الكبرى وأداة في صراعات الآخرين.
التحدي اليوم أمام اللبنانيين هو استعادة قرارهم الوطني وإعادة بناء مؤسساتهم قبل أن يُعاد رسم مستقبلهم بالكامل على يد الآخرين. لقد دفع لبنان أثمانًا هائلة من الدم والاقتصاد والهوية. ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل يملك اللبنانيون القدرة على استعادة وطنهم قبل أن يُكتب فصله الأخير؟
المصدر : Transparency News
الخيام | khiyam.com
تعليقات: