عام زراعي ثالث من هجران المواسم للقرى الجنوبيّة الحدوديّة


منذ تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 تاريخ انطلاق حرب الإسناد، لم تعد تعرف المواسم الزراعيّة في القرى الحدوديّة دربها نحو الحقول، فموسم الزيتون الذي تزامن قطافه آنذاك، ويُعتبر أساسيًّا في المنطقة ضاع تحت وطأة القصف والنزوح، فتُرك من دون ”حْوَاش“، ليتوالى ضياع المواسم بشقّيها الشتويّ والصيفيّ، الأوّل بما يضمّ من مروحة واسعة من خضراوات وحبوب، والثاني الذي يرتكز على التبغ و“الصحاري“ والفاكهة وأنواع أخرى عديدة، كلّها ضاعت ولا تزال تحت وطأة وقف إطلاق النار الهشّ الذي يحاكي قرى مدمّرة ونزوح منها يقارب الـ 90 في المئة من أبناء تلك القرى.

الخسائر والأضرار الناتجة عن الحرب في القطاع الزراعيّ بلغت نحو 800 مليون دولار، بحسب ما صرّح به وزير الزراعة نزار هاني لإحدى المحطّات التلفزيونيّة. هذا الرقم تستحوذ قرى الشريط الحدوديّ على الحصّة الأكبر منه، حيث إنّ الزراعة هناك تحتلّ حيّزًا كبيرًا من الاقتصاد المحلّيّ إضافة إلى تربية الماشية والدواجن والنحل وتحضير المؤونة البيتيّة. وهذا ما يتبيّن من خلال شهادات المزارعين، إذ يبدو جليًّا مدى تأثير الحرب على قطاع الزراعة، فإسرائيل لم تكتفِ بتدمير المنازل والممتلكات، بل تُمعن في منع المزارعين من الوصول إلى معظم أراضيهم الواقعة قرب الشريط الحدوديّ والتي تعتبر مصدر دخلهم الأساس.

خطر الاقتراب

يروي المزارع ذيب مفلح، النازح من بلدته البستان الحدوديّة إلى محلّة مفرق معركة، في حديث لـ ”مناطق نت“، أنّه يملك تسعة دونمات في منطقة قريبة من الحدود ”ونحو 10 دونمات في داخل البلدة، وكانت تلك البساتين تنتج في بعض المواسم قرابة 50 تنكة زيت، وفي مواسم أخرى نحو 15 تنكة“. في نيسان الماضي، تمكّن مفلح من زيارة البلدة برفقة قوّة من الجيش اللبنانيّ و“اليونيفيل“، وفي حين استطاع الوصول إلى الكروم في داخل البلدة إلّا أنّه طُلب إليه عدم الاقتراب من تلك الواقعة قرب الحدود.

ويوضح مفلح أنّ ”ربع تلك البساتين تعرّضت للجرف والحرق، كذلك فإنّني زرت الكروم برفقة زوجتي منذ نحو شهر ونصف الشهر في محاولة لقطف ما أمكن من موسم الزيتون، إلّا أنّ الشجر كان خاليًا تمامًا من أيّ ثمار، وهذا أمر كان متوقّعًا إذ إنّه مُهمل منذ ثلاث سنوات من دون تشحيل أو حراثة“.

في السياق عينه، توضح تميمة داوود، من بلدة ”أمّ التوت“ الحدوديّة، في حديث لـ ”مناطق نت“، أنّها تملك ”نحو 20 دونمًا من الزيتون، وكنا نزرع تبغًا وقمحًا وبامية وعديدًا من أنواع خضار أخرى“. وتلفت داوود إلى أنّ ”جزءًا من بستان الزيتون محروق، ولم نتمكّن من قطف حبّة واحدة منذ بداية حرب الإسناد، ففي حين يمكننا زيارة البلدة إلّا أنّ الوصول إلى البستان غير ممكن، في ظلّ الأوضاع الراهنة حيث تتمركز القوّات الإسرائيليّة على مقربة منّا“.

غياب بديل للمزارعين

من ناحيته، يلفت مزارع التبغ عدنان السويد، من بلدة الظهيرة الحدوديّة، في اتّصال مع ”مناطق نت“، إلى أنّ أيّ مزارع أو مواطن لم يتمكّن من العودة إلى البلدة. ويُشير إلى أنّه كان يزرع مع أبنائه نحو 22 دونمًا من التبغ، وينتج محصولًا يراوح بين 500 كيلوغرام من التبغ إلى نحو ثلاثة آلاف كيلوغرام، فـ ”عادةً ما كنت أضمن عددًا كبيرًا من الرخص“، ويُضيف أنّه ”عند بداية حرب الإسناد وتوتّر الأوضاع الأمنيّة لم أتمكّن من تسليم سوى 130 كيلوغرامًا، وفي حين تقوم الريجي بتعويض المزارعين بدولارين اثنين عن كلّ كيلوغرام، فإنّها تقوم باحتسابها على أساس 130 كيلوغرامًا، وفي ذلك إجحاف في حقّي“.

ويوضح السويد أنّ ”وزارة الزراعة طلبت معرفة مساحات الأرض التي كنت أزرعها زيتونًا، وبعض المستندات الرسميّة مثل إخراجات قيد، وكلّ ذلك لإعطائنا 20 شتلة زيتون“. وعند سؤاله عن المكان الذي سيزرع فيه هذه الشتول إذ إنّ العودة إلى الظهيرة لا تبدو قريبة، يُجيب: ”لا أعلم، ينبغي توجيه السؤال إلى الوزارة، ففي منطقتنا كنّا نضمن الأراضي بأسعار معقولة تُقارب الـ 100 دولار للدونم الواحد، أمّا أسعار ضمان الأرض حيث ننزح في منطقة صور فتصل إلى نحو 500 دولار“.

تراجع كبير بإنتاج التبغ

يُشير رئيس ”اتّحاد نقابات مزارعي التبغ والتنباك في لبنان“، حسن فقيه، في حديث لـ ”مناطق نت“، إلى أنّ ”كلّ القطاع الزراعيّ في الجنوب، وبخاصّة القرى الحدوديّة بعمق ثلاث قرى، أصيب بأضرار فادحة بجميع أنواعه، منها الحمضيّات والزيتون وتربية الماشية والنحل“. ويلفت إلى أنّه ”بالنسبة إلى زراعة التبغ التي تُشكّل العمود الفقريّ للزراعات في القرى الحدوديّة من يارين وعيتا الشعب والظهيرة وأمّ التوت والزلّوطيّة وعيترون وياطر وميس الجبل ومرج الخيام وبليدا وغيرها من القرى، جميع المزارعين إمّا أنّهم لم يتمكّنوا من الزراعة أو زرعوا مساحات صغيرة جدًّا“. ويوضح أنّ ”الجنوب كان يُنتج نحو خمسة ملايين كيلوغرام تبغًا، أمّا هذا العام فلم يتجاوز الإنتاج المليوني كيلوغرام، أيّ أقلّ من النصف“.

يؤكّد فقيه أنّ ”الجيش الإسرائيليّ لا يتوانى عن ترهيب المزارعين، فقد شهدنا عديدًا من الحوادث التي قامت في خلالها القوّات الإسرائيليّة برمي قنابل حيث يتواجد مزارعون في القرى الحدوديّة بهدف تخويفهم وثنيهم عن الزراعة“. ويلفت فقيه إلى أنّ ”عددًا قليلًا من المزارعين تمكّن من الزراعة في مناطق خلفيّة“.

أسباب تدهور الزراعة في حولا

هذه الممارسات الإسرائيليّة كان لها تأثير سلبيّ كبير على القطاع الزراعيّ في قرى الشريط الحدوديّ. يشرح رئيس بلديّة حولا، علي ياسين، في حديث لـ ”مناطق نت“، أنّ ”البلدة تعتمد على زراعة التبغ والزيتون والقمح والمواشي بشكل أساس، إذ إنّها تفتقر إلى أيّ نشاط اقتصاديّ آخر على خلاف كثير من البلدات المحيطة بها“. ويلفت إلى أنّ ”عدد سكّان حولا يبلغ حوالي 12 ألف نسمة ويقطنها حوالي ستّة آلاف على مدار العام، وهؤلاء يعتمدون على الزراعة بشكل رئيس كمدخول“.

يوضح ياسين أنّه ”قبل انطلاق حرب الإسناد، كان نحو 90 في المئة من أراضي حولا مستغلّة من قبل الأهالي في نطاق الزراعة، في حين أن الـ 10 في المئة المتبقّية هي أملاك حكوميّة (مشاعات)“. ويلفت إلى أنّه ”قبل الحرب كان لدينا حرّيّة مطلقة في الوصول إلى أيّ مكان بما فيها الأراضي المحاذية للشريط الحدوديّ، أّما اليوم فعدد الأهالي العائدين نحو 275 أسرة بما يعادل حوالي 800 شخص، ونسبة الأراضي المزروعة التي تمكّن هؤلاء من إعادة زراعتها لا تتجاوز الـ 10 في المئة ممّا كان يزرعه أهالي البلدة“.

يعزو ياسين هذا التراجع الكبير إلى ثلاثة أسباب ”أوّلها أنّ جزءًا كبيرًا من الأراضي القريبة من الحدود لا يمكن الوصول إليها، والسبب الثاني أنّ جزءًا آخر من الأراضي تعرّض فيه الزيتون للحرق، أما السبب الأخير فيتمثّل في افتقار البلدة إلى الوسائل الزراعيّة، إذ لا يوجد فيها سوى جرّار (تراكتور) واحد بسبب المخاوف من اعتداءات اسرائيليّة عليها“ وفقًا لياسين.

ما أدلى به المزارعون لـ ”مناطق نت“ في بعض القرى، ينطبق على معظم المزارعين في مختلف القرى الحدوديّة، فظروفهم تكاد تكون واحدة. وما قاله رئيس بلدية حولا، ربّما يكرّره رؤساء بلديّات جميع قرى الشريط، فما تعيشه أيّ قرية حدوديّة لا يختلف كثيرًا عن الأخرى، والنتيجة واحدة: خسائر ضخمة في قطاع زراعي يشكّل العصب الأساس لمجتمع محلّيّ، يعاني الدمار والنزوح والفقد والوجع.

أضرار هائلة لحقت بالقطاع الزراعي في الجنوب بسبب الحرب
أضرار هائلة لحقت بالقطاع الزراعي في الجنوب بسبب الحرب


تعليقات: