أول بيت يُعاد إعمارُه في المنطقة الحدودية بعد الدمار شبه الكامل (المدن)
الضيعة متل الأم، بهذه الكلمات تختصر السيدة الجنوبية رسمية جابر، ابنة بلدة محيبيب في قضاء بنت جبيل، علاقة أهل الجنوب بأرضه. وتضيف بابتسامة ممزوجة بالتحدي: "حدا بيقبل يبدّل أمّه؟"، في إشارة منها إلى أنّهم ولو نزحوا قسراً، فسيعودون حتماً إلى قراهم مهما كلّف الأمر.
مقاومة التهجير والترحيل
تقع بلدة محيبيب على تلة عالية جنوب لبنان، وتشرف على مساحات واسعة من القرى والبلدات الحدودية. خلال الحرب الأخيرة، تعرّضت البلدة لمسح شبه كلي، إذ لم يبقَ من أصل حوالي 90 منزلاً سوى ثلاثة فقط صامدة بين الركام. برغم ذلك، أصرت جابر على إعادة بناء منزل عائلتها الذي دمّره الجيش الإسرائيلي. تقول: "لازم حدا ياخد خطوة تشجيعية، رغم إنو الظروف كلها مش مشجعة. تديّنّا وبلشنا بالعمار بتاريخ 15 أيار، وبعد ثلاثة أشهر، بــ15 آب، سكنّا بالبيت".
وما يميز هذه الخطوة أنّ منزل عائلة جابر هو أول بيت يُعاد إعمارُه في بلدة محيبيب بعد الدمار شبه الكامل الذي لحق بها، وهذا ما جعله أشبه بإشارة انطلاق لبقية الأهالي. "والدي عمره 95 سنة، ومصرّ يضل هون مهما صار"، تقول جابر. بالنسبة إليها، قرار العودة ليس مجرد خيار عاطفي؛ بل هو فعل مقاومة بوجه من أراد تهجيرهم من أرضهم: "البيت عطانا شعور بالأمان والاستقرار، حتى لو حوالينا خراب".
لكنها تدرك أن معظم أهالي البلدة عاجزون عن إعادة إعمار بيوتهم بسبب الأوضاع الاقتصادية: "نحنا بلدة فلاحين. اللي معه قرش ما بيجازف، بيفضّل يضل محتفظ فيه بدل ما يحطه بإعمار بيت ممكن العدو يهدمه بلمح البصر".
القلق من المنطقة العازلة
إعادة الإعمار في محيبيب والقرى المحيطة لا ينفصل عن الواقع الأمني المتوتر جنوباً. فالمنطقة ما زالت تشهد خروقاً جوية إسرائيلية شبه يومية، إلى جانب القصف المتقطع الذي يستهدف الأراضي الزراعية والأطراف السكنية. ومع كل إعلان إسرائيلي عن مشروع "منطقة عازلة"، يتصاعد القلق من أن تتحول العودة إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر.
من جهة أخرى، يوضح رئيس بلدية ميس الجبل، عبد المنعم شقير، في حديثه إلى "المدن"، أنّه من أصل حوالي 4800 بيت في البلدة، دمّرت إسرائيل ما يقارب 3000 بيت على نحوٍ كلي أو شبه كلي. وبرغم حجم الدمار، لا تُسجّل أية حركة جدّية لإعادة الإعمار، "لأنّ الأمر ببساطة مرتبط بالإمكانات المادية لكل عائلة فقدت بيتها"، على حد قوله. ويشير شقير إلى أنّ ما جرى حتى الآن يقتصر على ترميم المنازل التي لم تُقصف بالكامل، موضحاً: "أصحاب البيت لي معهن قرشين، صلّحوا بيتهن، أفضل من دفع إيجارات".
الصورة لا تقتصر على البيوت فحسب. أحد أصحاب المعامل في البلدة أعاد بناء معمله المخصص لصناعة الأغطية بعد تدميره، لكن إسرائيل استهدفته مجدداً فور الانتهاء من إعماره، وهو ما دفعه – ومعه كثيرون من أبناء المنطقة – إلى التراجع عن فكرة إعادة البناء خشية الخسارة المضاعفة.
ويختم شقير بالإشارة إلى أنّ البعد العاطفي وارتباط السكان بأرضهم "تحصيل حاصل لا نقاش فيه"، غير أنّ الواقع المادي أقسى بكثير، وهو ما يحدد عملياً إمكانيات العودة والإعمار، بعيداً من الشعارات أو الرغبات.
المشي على خيط رفيع
إلى جانب ذلك، فإنّ آليات البناء والورش الهندسية التي تحاول دخول القرى الحدودية تعرّضت مراراً للاستهداف، في الناقورة وزبقين وحتى محيبيب نفسها. وهو ما جعل عملية الإعمار في حد ذاتها مخاطرة كبيرة. ويقول الأهالي إنّ "العودة اليوم تشبه المشي على خيط رفيع"؛ إذ قد ينهار كل شيء مع أي تصعيد جديد.
وعلى الأرض، لا يزال الانتشار العسكري للعدو الإسرائيلي كثيفاً على الحدود، ويواصل تعزيز مواقعه وتحركاته. لكن أهالي المنطقة يصرّون على العودة والبقاء في أرضهم. ولا يبدو أن محاولات فرض وقائع جديدة على الأرض ستنتزع الأهالي من قراهم. فبالنسبة إلى السيدة جابر وأبناء بلدتها، العودة ليست مجرد قرار فردي؛ بل هي رسالة جماعية بأنّ الجنوب لا يفرغ من ناسه، حتى ولو بقي بيت واحد واقفاً بين الركام.
بين محيبيب وميس الجبل، تتجلى معادلة الجنوب اليوم: ارتباط لا ينكسر بالأرض والبيوت من جهة، وواقع اقتصادي وأمني خانق من جهة أخرى. ففي الوقت الذي تمكنت فيه عائلة جابر من إعادة بناء أول بيت في محيبيب، يقف آلاف غيرها عاجزين أمام الدمار وضيق الحال.
ومع ذلك، تبقى عودة الأهالي، ولو بخطوات خجولة، رسالة واضحة بأنّ الجنوب لا يفرغ من ناسه. فالإعمار هنا ليس مجرد بناء حجر فوق حجر؛ بل فعل مقاومة بوجه من أراد أن تتحول الضيعة إلى ذكرى.
تعليقات: