أسمهان


كتاب جديد عن حياة المطربة التي عبرت عصرها كنيزك، إنما بقلم أنثى هذه المرّة! بعيداً عن نظريات المؤامرة، تتبّعت شريفة زهور صاحبة الصوت الملائكي الذي هزّ عرش أم كلثوم في الثلاثينيات، لتخترق «أسرار» الأيقونة والجسد والصوت

سيرة أسمهان مرة أخرى. المرأة الغامضة التي أحاطتها ألغاز وأسرار وشائعات خلال حياتها، وبعد موتها المفجع والمباغت في حادث سيارة: هل كان الحادث مدبّراً لصاحبة الصوت الملائكي الذي هزّ عرش أم كلثوم في ثلاثينيات القرن العشرين، كما أُشيع حينذاك؟ أم أنّه محصلة أكيدة لعلاقاتها الملتبسة مع أكثر من معسكر خلال الحرب العالمية الثانية؟ أم لعلّه قدرها حسب نبوءة عراّفة أخبرتها بأنّها ستموت باكراً؟ علاقاتها المتشابكة مع الألمان والفرنسيين والبريطانيين، ألصقت بها صفة «الجاسوسة» في المقام الأول، لكن ماذا عن حياتها كمغنية استثنائية أو أيقونة وجسد وصوت؟

الباحثة شريفة زهور اقتفت أثر أسمهان من قريتها عرى في الجنوب السوري إلى دمشق، فالقدس، فالقاهرة، بهدف لملمة خيوط حياتها المبعثرة وإعادة تدوينها على نحوٍ آخر، بعيداً من الشائعات التي روّجت لها كتب السيرة، إذ رصدت حياتها من موقع الفضيحة الصحافية أكثر منها توثيقاً لتاريخ مغنية وأميرة.

تشير الباحثة الأميركية من أصل عربي في كتابها «أسرار أسمهان: المرأة، الحرب، الغناء» (دار المدى) الذي عرّبه عارف حديفة، إلى أنّها سعت إلى ترميم الانقطاع بين التاريخ المدوّن، والغموض الذي يكتنف حياة أسمهان، انطلاقاً مما تقترحه دراسات الجنوسة في الدرجة الأولى. وهي بذلك تستأنس بكتابات فاطمة المرنيسي عن أسمهان وقدرتها على تجاوز حدود الجنوسة في مجتمع بطريركي. إذ إنها في نهاية المطاف، رمز حسي لا يقل تأثيراً عمّا أحدثته مارلين مونرو في الذاكرة الأميركية، بل تتشابه حياتهما في محاولات الانتحار. ألم تحاول أسمهان الانتحار ثلاث مرات؟

لا تتوقف شريفة زهور عند حدود الحياة العاصفة التي عاشتها أسمهان ( 1912 ــــ 1944)، بل تشتبك مع الحياة الاجتماعية والسياسية في ثلاثينيات القرن المنصرم وأربعينياته. وتتوقف الباحثة عند السيرة المزدوجة لصاحبة «يا طيور» بوصفها أميرة أولاً، تنتسب إلى أسرة درزية مرموقة في الجنوب السوري، ومغنية ناشئة وفقيرة في شارع محمد علي في القاهرة، برفقة أمها علياء التي استقرت في القاهرة بعد طلاقها من زوجها فهد الأطرش.

الطفلة التي ولدت في باخرة آتية من أزمير إلى بيروت، بعينين خضراوين وصوت استثنائي، بدأت الغناء في السابعة من عمرها. وقد أذهل صوتها الملحن مدحت عاصم ــــ أو لعله داوود حسني في رواية ثانية ــــ لتدخل عالم الغناء من أوسع أبوابه كصوتٍ أوبرالي لافت، تجد فيه شريفة زهور رمزاً لحداثة موسيقية مبكرة. ثم أتى فيلمها «انتصار الشباب» (1941)، ليتوّجها صوتاً وصورة. هكذا تفرد الباحثة الصور الفوتوغرافية والسينمائية النادرة للمغنية الراحلة، لاستكشاف أبعاد شخصيتها، وقوة سطوتها. هناك صورة تجمعها بالرئيس الفرنسي شارل ديغول، وأخرى وهي تتقلّد وسام اللورين (رمز فرنسا الحرة)، وثالثة على حصان في نادي الجزيرة في القاهرة.

أما ظهورها الأخير في فيلم «غرام وانتقام» (1944)، الشريط الذي ماتت قبل أن تكمل تصويره، فقد رسخ الأيقونة في ذاكرة الناس. إذ إنها تمثّل على نحوٍ ما صورةً للجدل المضطرب حول دخول النساء الحياة العامة، ومجال الغناء في حال أسمهان، إضافةً إلى مغامراتها المعلنة في أوساط الطبقات الراقية، لاعتزازها بأصولها كأميرة تحمل اسم «آمال الأطرش» قبل أن تكون «أسمهان» التي عاشت مطلع حياتها مكابدات محزنة ومؤلمة.

لا تحبّذ شريفة زهور، في سياق بحثها عن حياة أسمهان، إلحاق سيرتها بحوادث جاسوسية وعلاقات استخبارية. إنما تعزو اختلاطها في هذا المناخ السياسي الغامض إلى حس المغامرة لديها، وسعيها إلى الحصول على المال، بسبب طبيعتها التي تميل إلى الترف والبذخ والبوهيمية. في مجتمع شرقي وذكوري كالذي خبرته أسمهان، كان لا بد من إثارة زوابع من حولها، وخصوصاً بعد طلاقها من ابن عمها حسن الأطرش، وزواجها بالمخرج أحمد بدرخان، ثم طلاقها منه واستئجار شقة لتسكن بمفردها.

أسمهان امرأة تعيسة في نهاية الأمر، وهذا ما جعلها تغرق في الملذات، و«تعيش حياة الإسراف على كل الجبهات معاً»، لتنجذب إلى رجال عديدين في حياتها القصيرة العاصفة. وتنفي الباحثة فكرة الجنوسة من أساسها، استناداً إلى سلوك الفنانة الطائش الذي لم يمنعها من اختراق الحواجز الاجتماعية كلها، سواء في محيط بيئتها الأولى في الجنوب السوري، أو في القاهرة.... أو في رحلاتها الترفيهيّة إلى القدس.

هذا الالتباس في سيرتها المروية، سواء لدى محمد التابعي «أسمهان تروي قصتها»، أو فيوميل لبيب «قصة أسمهان»، تعزوه شريفة زهور إلى أنّ الذين كتبوا سيرة أسمهان كتابةًً هم في الواقع رجال، و«تفسيراتهم لأعمالها ترشّحت من خلال تحيزاتهم الاجتماعية»، وتالياً إلى حال التزمت الشرقي في النظرة إلى امرأة تحطّم القيود وتتجاوز أسوار المحرّمات البيئية. وهو ما ألصق بها اتهامات متناقضة، بات يصعب التحقّق منها، وخصوصاً أنها بقيت كصورة «أيقونة للحب الرومانسي التي تعلّل بالأماني النساء اللواتي يستطعن التماهي معها، والرجال الذين يصبون إليها». وهو ما جعلها تستجيب إلى أنوثتها بدلاً من نكرانها، وإبراز فتنتها علانيةً.

لم تجد الكاتبة، طوال بحثها، تفسيراً مقنعاً لحادثة الترعة التي أودت بحياة أسمهان. لكنها أبدت استغرابها من تجاهل أهميتها كمغنية وصاحبة صوت نادر، وإن وضعها بعض النقاد بين السبعة الكبار في تاريخ الأغنية العربية. ألهذا السبب حفظت شريفة زهور أغانيها وظلت ترددها طوال 16 عاماً في النادي الليلي الذي كانت تعمل به في كاليفورنيا لتأمين كلفة دراستها الجامعية، وإنجاز أطروحتها عن أسمهان؟

كانت الكاتبة قد اكتشفت بالمصادفة أُسطوانة لأسمهان في حانوت للموسيقى العربية في أحد شوارع كاليفورنيا (1975)، ومنذ اللحظة التي استمعت فيها إلى أغنية «ياحبيبي تعالَ الحقني»، شغفت بالمغنية المجهولة. وفكرت في أنها ذات يوم ربّما، ستكتب قصّة حياتها...

تعليقات: