في كفركلا الصوبا ضروري فالصقيع لا يرحم


يلف الابيض الناصع والبرد القارس ارجاء البلاد، من دون ان يتمكن من خفض درجة حرارة الازمة السياسية التي تعصف في البلاد. لكنه بالتأكيد يدفع الللبنانيين للسعي الى رفع درجة حرارة منازلهم طلبا للتدفئة والحفاظ على صحة اولادهم. لذا تتعدد الاساليب والطرق للوصول الى الدفء المنشود، وتتنوع فعاليتها بما يتلاءم مع الطبيعة الجغرافية للمناطق. فاذا كانت مدافئ الكهرباء والغاز تتناسب مع برد المناطق السياحية وتتناسب وميزانيات اهلها. فإن ثلوج الجبال تأبى ان يكون غير المازوت والحطب دواءا لصقيعها. ومع ارتفاع اسعار المحروقات والحطب يتفنن اهل الجبال في التحايل على الصقيع ورد شره، بتقنين ساعات التدفئة حينا او اضافة مواد كنشارة الخشب وجفت الزيتون لإطالة عمر الجمر المتوقد حينا آخر. وما بين الاسلوبين لا يوفر الجميع التمتع بالاجواء الحميمة والكنكنة التي تنشرها المدافئ مهما اختلفت انواعها، وان كان بعضها اكثر ايحاء واغواء.

تحين الساعة الثانية ظهرا، فتسرع إكرام سرحان في بلدة كفركلا الجنوبية الى إشعال "الصوبا" في مطبخها الذي يتحول في فصل الشتاء الى غرفة جلوس، واحيانا للنوم لولديها اللذين يفضلان جوه الدافئ على صقيع غرفة نومهم. فاقتصار قدرة زوجها الشرائية على تغطية نفقات "صوبا" واحدة في المنزل، بسبب سوء الاحوال الاقتصادية وارتفاع اسعار المازوت، حوّل مطبخها الى مقر دائم لافراد عائلتها وضيوفها على السواء. دفء مقنن يبدأ دوامه في ايام البرد الشديدة منذ رجوع ولديها من المدرسة ويمتد الى الساعة الحادية عشرة ليلا على الاكثر. بعدها تحل الاغطية الصوفية، بقايا الحرارة المنبعثة من حديد الصوبا لكسر سم النسمات المتغلغلة من تحت الابواب والنوافذ. اما في الايام الاقل برودة فدوام اشعال الصوبا يبدأ مع مغيب الشمس وحتى العاشرة ليلا.

تحرص اميرة قبيسي على اشعال "كانون" او وجاق الفحم كل ليلة، منذ بدأ فصل الشتاء. بالرغم من وجود مدفأتين واحدة على الغاز واخرى على الكهرباء، فضلا عن مكيفات الهواء المنتشرة في غرف منزلها، والتي يمكن استعمالها للتدفئة ايضا. لكن "سر كانون الفحم" بالنسبة الى اميرة يكمن في جمع شمل عائلتها، اذ يتجمع حوله اولادها تارة للتدفئة، وتارة اخرى لتحميص عرائس الجبنة والصعتر، فتجلس الى جانبهم وتستل من جمرة منه من حين إلى آخر لتذوب فيه رأس نرجيلتها.

مشهد محبب الى قلب اميرة يعيدها الى ذكريات طفولتها، حين كانت تجلس حول " الكانون مع اخوتها، فتدور المناكفات حول احقية كل منهم في مساحة اكبر حول الكانون. ذكريات تبدو الان عزيزة على قلبها، ساهم "الكانون" في صنعها، وتريده اليوم ان يساهم في صنع ذكريات اطفالها.

حلول الابيض ضيفا على معظم القرى والبلدات الجبلية اللبنانية، وموجات الصقيع التي لفت المناطق الساحلية، منذ بداية فصل الشتاء الحالي، دفعت سكان القرى الى جمع ما توفر من اغصان اشجار البساتين والكروم واخرجوا ما عندهم من مدافئ الحطب، ولملموا بقايا ورش النجارة وجفت الزيتون واستعان من استطاع منهم بوقود المازوت والحطب وانتظروا مواجهة العواصف كل حسب طبيعة منطقته. ففي الوقت الذي يداوي سكان الساحل من ذوي الدخل المحدود، بردهم بوسائل مختلفة منها الفحم والمدافئ العاملة على الغاز والكهرباء، يتجه سكان القرى المرتفعة لاستخدام الحطب والمازوت. وفي ظل الخيارات المتعددة والاجواء الحميمة التي تخلقها في مواجهة البرد القارس، تتعدد الحكايا عن اندثار وسائل للتدفئة وازدهار اخرى، مع ما يرافق ذلك من سعي دؤوب لدى المواطنين لتأمين ما ينشر الدفء في ارجاء المنازل من دون ان يرهق الجيوب.

الساحل... تدفئة كهربائية

غالبا ما يعتمد اهل الساحل على مدافئ الغاز والكهرباء ومكيفات الهواء لمواجهة البرد. وتلعب درجات الحرارة التي تبقى معتدلة نسبيا، دورا في هذا الخيار. وقد ازداد اللجوء اليه مع تساوي تشابه الكلفة بين هذين النوعين من التدفئة. اذ تقول ريما وهي ام لثلاثة اطفال وتقطن جبيل، ان استعمالها للمدفأة الكهربائية اقل كلفة، اذ تتراوح الفاتورة التي تدفعها ريما للكهرباء والغاز ما لا يزيد عن المئة دولار شهريا. ويوافقها الرأي احمد جمعة ( اب لخمسة اطفال) الذي بادر منذ بدء فصل الشتاء الى شراء مدفأة كهربائية لان " فاتورة الكهرباء ارحم" على حد قوله. اما حين ينقطع التيار الكهربائي فيكون كانون الفحم ملاذا مناسبا لمواجهة الصقيع. وتشير نسب اللوند الى ان المدفأة الكهربائية غالبا ما تكون اكثر سهولة في استعمالها وامكانية نقلها من غرفة لاخرى بشكل اسرع من مدافئ الغاز التي غالبا ما تكون ثقيلة الوزن.

الجولة على المنازل في المناطق الساحلية، تبين ان غالبية العائلات تقتني اكثر من مدفأة كهربائية، اضافة الى استعمال وسائل تدفئة اخرى. وبعدما كان استعمال المدفأة الكهربائية يقتصر على غرف نوم المنازل وداخل المكاتب والمحال التجارية، فانها باتت اليوم من الادوات الاساسية في كل منزل. اضافة الى اقدام المواطنين الميسورين على شراء مكيفات الهواء الساخن بعدما تبين لهم ان سعر الكيلو واط الواحد من الكهرباء اقل كلفة من استعمال وسائل التدفئة الاخرى، "ومن دون اوساخ الفحم، وثقل وزن الغاز" تقول رندة حبيب التي تقر ان لبعض وسائل التدفئة خصوصية حميمة ورومانسية تساعد على ادخال الحرارة الى العلاقات العائلية، "كالشامينيه"مثلا، لكنها تغمز من قناة اخرى فتقول انه حين تكون "نية الحب موجودة فهي وحدها من يضفي الاجواء الدافئة ولا يحتاج الامر الى دفء اصطناعي".

الحسابات التي يستند اليها المواطنون لتوفير كلفة التدفئة تعتمد على القاعدة التالية : اذا كانت قوة المدفأة الكهربائية 3000 واط، فان استهلاكها للطاقة لمدة ساعة هو 35 ليرة وترتفع النسبة الى 55 و85 و100 ليرة تصاعدا لغاية 200 ليرة لبنانية اذا تجاوز المصروف الشهري 400 كيلو واط. وبمعدل وسطي يحتاج المواطن الى نحو 16 ساعة تدفئة يوميا ما يعني ان الكلفة الاجمالية تصل الى نحو 220 الف ليرة شهريا. في المقابل فان وسائل التدفئة الاخرى وبالمعدل نفسه تزيد عن 250 الف ليرة.

المناطق الجبلية

حين يبدأ شهر تشرين الاول يصبح سكان القرى الجبلية في سباق مع الوقت قبل اول زخة مطر تشرينية، لتأمين مونتها من الحطب والمازوت. وقد اسهمت ايادي صانعي المدافئ بما تتفنن من لمسات تجميلية وفنية متطورة، في تعزيز دور مدافئ المازوت والحطب التي شهدت في السنوات الاخيرة رواجا كبيرا على حساب وجاق الحطب او "القاطرجي" كما يسميه بعض سكان القرى الذين لم يتخلوا عن رائحة الحطب الزكية والصحية في آن، ولا عن الجمر المتوقد الذي يطل من بين قضبان الحديد ليضفي جوا رومانسيا، خاصة في ليالي الظلمة.

في المقابل يشكل فصل الشتاء لسكان القرى هماً اضافياً يضاف الى هموم المواسم الاخرى التي تزداد فيها المتطلبات الحياتية بالتزامن مع غياب فرص العمل وتنامي ارتفاع كافة اسعار المواد الاستهلاكية. وتعدد وفاء بزيع من بلدة زبقين التي ترتفع اكثر من 450 مترا عن سطح البحر، الصعوبات التي يواجهها الاهالي خلال موجات الصقيع، "اذ تتوقف الاعمال في البلدة التي تعتمد على زراعة التبغ، فيصبح الشغل الشاغل للناس في كيفية الوقاية من البرد وحماية الاولاد من الامراض" وتضيف ان غالبية وسائل التدفئة في المنازل هي الحطب والمازوت، لان الفحم لا يفي بالغرض.

تبلغ كلفة التدفئة في المناطق الجبلية في موسم الشتاء ما يعادل الالف دولار. فالمنازل غالبا ما تحتاج للتدفئة اكثر من عشر ساعات يوميا، ويبلغ سعر "نقلة" الحطب سعة جرار زراعي نحو 200 و250 دولاراً. ناهيك عن كلفة المازوت والجفت (بقايا عصر الزيتون). يعتمد الحاج يوسف من بلدة مركبا على الحطب الذي جمعه طوال فصل الصيف الماضي من الكرم الذي يملكه بعد القيام بتشحيل الاشجار ونفض الاغصان اليابسة عن اشجار الزيتون، ويضيف "اصبحنا معتادين على القلة والعوز وتدبير امورنا بما يتوافر من امكانات لكي نستطيع اكمال ما تبقى من العمر، مؤكدا ان غالبية الناس تلجأ الى الحطب بسبب ارتفاع اسعار المازوت والغاز وكذلك فاتورة الكهرباء.

بالرغم من الاعباء الاضافية التي تضيفها فواتير كلفة التدفئة على جيوب المواطنين، الا انها تؤمن في المقابل متعة "الكنكنة" قرب النار واعداد ما لذ وطاب من فطائر السكر والصعتر والمعجنات على انواعها التي يحرص اهل القرى على اعدادها في جارور الصوبا. كما ان العديد من ربات البيوت يستخدمن الصوبا لطهي الطعام، وغالبا ما يكون ابريق الشاي الساخن المعلق دائما على موقدة الصوبا، مقصدا للضيوف الآتين لتمضية الوقت والسهر، في حين يختار العديد من سكان القرى النوم الى جانب الصوبا طلبا للدفء.

منعت القنابل العنقودية العديد من سكان الجنوب من النزول الى المشاع للتحطيب وتأمين مونتهم للتدفئة. وقد استعيض عن حطب هذه المناطق بحطب منطقة صور، حيث عمد اصحاب بساتين الحمضيات الى استبدال هذه الزراعة، بزراعات اخرى بديلة وحولوا الاشجار الى حطب يابس ما ساهم في سد الكثير من حاجة اهل القرى الى التدفئة. كما تجاول العديد من الجمعيات وصناديق المساعدات العربية تقديم مساعدات من مادة المازوت الى اصحاب هذه القرى.

الى جانب صوبا الحطب والمازوت، تنتشر في البيوت اللبنانية "الشامينية" للتدفئة، التي تحولت مؤخرا الى موضة تضفي رونقا ومسحة ديكور جميلة على المنزل. اما في قرى البقاع فقد درجت موضة اخرى وهي استخدام صوبا الفحم الحجري التي تلقى رواجا مضطردا، بسبب ارتفاع اسعار المازوت والفحم العادي. والتي استقدمها احد اهالي البقاع من سوريا مع مستلزماتها للاستعمال الشخصي، بعدها تعرف جيرانه عليها، واعجبوا بها خصوصا انها تبث دفئا كبيرا يتناسب وصقيع البقاع والقدرة الشرائية المحدودة لاهله. خصوصا ان شكل الصوبا الخارجي يشبه الى حد كبير صوبا المازوت ولكن من دون طاسة. لا يخفى على اهل البقاع الضرر الصحي الذي يسبب الفحم الحجري، لكنهم يحاولون الالتفاف على هذه المشكلة بتهوئة الغرفة التي تتواجد فيها الصوبا بشكل دائم.

تظهر الدراسات الى ان هناك خطر فعلي على الانسان والحيوان والبيئة الذي يسببه استعمال الفحم الحجري، اذ ان احتراقه يؤدي الى انبعاث ثاني اوكسيد الكربون بكميات كبيرة والتي تصل الى حدود 90 بالمئة. الا ان الاخطر هو انبعاث غاز ثاني اوكسيد الكبريت الذي يلوث الجو والبيئة والمياه ويؤثر تأثيرا فعالا على طبقة الاوزن. كما ان الفحم الحجري يفتقر الى الاوكسجين والهيدروجين، وبالتالي فهو يسحب الاوكسجين من الغرفة عند اشتعاله ويولد ثاني اوكسيد الكربون بكثرة ما يؤثر على صحة الانسان.

تعليقات: