عصام العبدالله... عاد أخيراً إلى «الخيام»


بعد الموت بقليل…



بيار أبي صعب

إنّهم حفنة من الشعراء. حرّاس المدينة التي كان إسمها بيروت. صنعوا نهضتها، واحتضنت تجاربهم وأفكارهم وأحلامهم بتغيير العالم: من خلال الابداع، وأيضاً عبر النضال الفعلي. اليوم صاروا أيتام بيروت، آخر الشهود على عزّها الضائع، آخر الباحثين عن زمنها المفقود. عصام العبدالله كان أحد هؤلاء الفرسان المطاردين.

يقفل مقهى، فيهاجرون إلى آخر... حتى انطفأت المصابيح، واقفلت المقاهي والصحف والمسارح، فلم يعد لهم إلا وطن من الذكريات. هؤلاء الفرسان، من شعراء وكتاب ومبدعين ومثقفين، أسسوا وجودهم على مقاسات المقهى، وفصّلوا على أساسه حياتهم وانتاجهم ونقاشاتهم وقصص الصداقة والحب، والسياسة وخناقاتها. كتبوا تاريخ المدينة. كان المقهى جمهوريتهم الفاضلة، وشرفتهم المطلة على العالم، الأغورا وفضاء الإلفة والخصام، والتفاعل والتضامن. ثمّ أخذ يضيق العالم، فأين عساهم يذهبون الآن؟ من «الهورس شو» إلى «الإكسبرس»، ومن «المودكا» و«الويمبي» إلى «الكافيه دو باري»... لم يبقَ أثر. شارع الحمرا يبدّل جلده، والشعراء يغادرون. أين ذهبت كل هذه الأحاديث والثرثرات، النقاشات الخالدة، والهذيانات الزائلة؟ الحمرا باتت شارع الأطياف، نقطة ارتكاز العالم المنهار. كان لا بدّ من الهجرة إلى البحر، حيث بدت «الروضة» ملاذاً أخيراً.

عصام العبدالله تحدّث مراراً عن المقهى، فضاء الحريّة والوحي، والأحداث العاديّة أيضاً. في أيّامه الأخيرة كان يجلس في مقهى مستحدث في الحمرا، قرب «مسرح المدينة»، لست متأكّداً من إسمه. من غير المجدي بعد اليوم أن نحفظ الأسماء. من غير المناسب أن نعترف بشرعية الأماكن الطارئة، أن نعطيها إسماً فنخاطر بمحو الأسماء القديمة. كان يجلس أحياناً على آخر طاولة قبل الرصيف. وهناك تلتقيه غالباً، أنت العابر وهو المقيم. يقف بقامته المديدة، يستقبلك بالحرارة والحيويّة المعهودتين، يطلب إليك أن تكون «أكثر هدوءاً» في «معاركك». تبتسم بحرج وتمضي، بعدما تواعدتما على جلسة قريبة هنا. الموعد سيبقى معلّقاً الآن، لقد تأخّرت. صار عصام شبحاً من أشباح بيروت.

«ما في مدينة اسمها بيروت/ بيروت عنقود الضيع». وفي هذه المدينة نسج خيوط حكايته، في منطقة وسطى بين مكان الولادة في انطلياس بحكم وظيفة الوالد، ومنبت الجذور في بلدة الخيام الجنوبيّة التي يعود إلى سهلها اليوم ليستريح. في «ثانويّة رمل الظريف»، حيث كان عصام مشاكساً ومحرّكاً للحشود، سيلتقط «السوسة» بفضل أستاذ اللغة الفرنسية وآدابها. هذا الأستاذ لم يكن سوى نزيه خاطر الذي عرّف تلميذه على مجلّة «شعر»، وشجّعه على ارتياد المسارح وصالات العرض، وكانت تزخر بها بيروت. مرّت السنوات على التلميذ ومعلّمه الناقد المعروف، ليصبحا صديقين، وزميلين في صناعة الحياة الثقافيّة للمدينة. بالنسبة إليه كانت بيروت خياراً. مكان الولادة الفعليّة: في السياسة قبل أن يبتعد عنها، وفي الشعر العمودي الفصيح قبل أن يعتزل الكتابة عشرين عاماً، وأخيراً في القصيدة «العامية الفصيحة» التي جاءها منحدراً من ميشال طراد، ثم طلال حيدر. وتغذّى لخوضها من المدرسة الرحبانيّة، كما غرف من الأدب العربي، وآداب العالم عبر اللغة الفرنسيّة.

كل «شعراء الجنوب» ـــ إذا جازت التسمية الاختزاليّة التي تحاول أن تحصر في قمقمها بعض أهمّ شعراء السبعينيات في لبنان ـــ كان الجنوب مخزونهم الروحي، وموضوعهم ربّما، فيما كانت بيروت مختبرهم الوجودي والثقافي، وغالباً مكان العيش والكتابة الذي بلور تجاربهم ومنحهم الشرعيّة والتكريس. «بيروت بيت بقوضتين/ وتتخيتة وقبو/ وولاد مهما يلعبوا ما بيتعبوا/ أربع خمس درجات بالنازل/ في بير/ قاعد متل ختيار/ وقِع الوقت ع شواربو…». عصام وحده منح نفسه للشعر العامي (مع محمد العبدالله في جزء من شعره)، إنّه «المديني» الذي لم يقطع مع براءته الريفيّة. «الفصحى هي ابنة الملك، المحكية هي ابنة البواب»، كان يردّد، ويضيف أنّه اصطحب ابنة البوّاب إلى الحفلة وكانت الأكثر تألّقاً. «الرجل - الحصان» كما كان يلقبه الأصدقاء، بسبب طاقته وزخمه وجموحه، يشبه بيروت، في تعددها وفوضاها، في صخبها وهدوئها. إنها حلم الحداثة الذي راود جيله، وكل ما بقي من تركتهم هو هذا المشروع غير المنجز. القرى تراجعت، أو ذابت الآن في أدغال مدينة عشوائيّة التهمت نفسها عمرانيّاً واجتماعيّاً… مدينة أحكمت الخناق على «دائرة الشعراء المفقودين»، ولم تعد تحمل لهم إلا الغربة. لم يبقَ للشاعر المعروف بسخريته وفكاهته، إلا أن يستأذن من بيروت الآن. دعوه يعود إلى المكان الأصلي الذي بقي ينتظر، دعوه ينسحب إلى أحضان قصيدته في «جبل عامل».

اليوم «باب الحكي مغلوق… من برا»، كما كتب الراحل في قصيدة عن الحرب. مضى عصام وترك للباقين أن يخبروا القصّة. لقد كتب كثيراً على «الرمل»، حتى امحت سطور «النمل»، و«صار الحكي تلميح». رحل وترك دواوينه الثلاثة التي كان يردد متندراً أن حجمها الإجمالي لا يتجاوز الألف كلمة. ألف كلمة مقطّرة، مصفّاة، منحوتة، قادرة على تكثيف الملحمة. من قال أساساً إن الشعر بعدد الكلمات؟ الشعر بعدد الأوهام والآهات، ولحظات النشوة، ونوبات الغضب، وجولات الصراع مع الوجع الخبيث. الشعر بعدد الندوب التي توازي السنوات الضائعة. مضى عصام تاركاً صوته الجهوري، القوي، الدافئ، الجامح، التراجيدي، الذي يختصر كل الحكاية. مع كل ديوان، كان يصرّ على تسجيل قصائده بصوته (مع بيانو زياد الرحباني، وسكسوفون توفيق فرّوخ…)، كي يَهدينا إلى المعنى. إنّه الشاعر ـــ الصوت، كان يكفي أن يتكلّم، كي يصل المعنى. الآن، بعد الموت بقليل، بالإذن من صديقه محمد العبدالله الذي ذهب ليشرب معه الأنخاب، سيصمت عصام العبدالله، فيصلنا الصدى.


..

عنقود الشعر الذي لا يموت

«سطر الرمل/ أول كتابة عالرمل/ ما طولت/ مارق حدا/ اسمو الهوا/ مرات اسمو الريح/ شافو النمل/ خاف ومشي من مطرحو عالزيح/ وتخربط المعنى/ وصار النمل/ تحت الرمل/ صار الحكي تلميح»

محمد ناصر الدين

شغفت الحياة عصام العبدالله (1941 ـ 2017) بأقانيم ثلاثة: الشعر والحرية والحب. الشاعر الذي ولد في أنطلياس عام 1941 من أب عسكري تنقلت خدمته ما بين أنطلياس وصيدا وغيرهما، يقفز اسمه مباشرة الى الواجهة حين نذكر شعراء الجنوب.

انتمى الى تلك الكوكبة من الشعراء التي كان عليها أن تترك شموس آبائها في القرى الجنوبية البعيدة في الستينيات والسبعينيات، لتدخل بيروت كتلك الأنهار التي تصب في البحر، من محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، وعباس بيضون وجودت فخر الدين وحمزة عبود وشعراء الخيام الثلاثة: محمد وحسن العبدالله وعصام العبدالله وغيرهم. مدينة غاوية، أشبه بالكنز الذي تمتد إليه الأيدي وترسم من أجله الخرائط. كانت بيروت قبلة هؤلاء الشعراء لصنع مدنية مستعصية تكبر بتجاور المتشابهين أكثر من تشابه المختلفين، وهو الشرط الأساسي لصنع مدينة... هي التي وصفها عصام العبدالله بعنقود الضِيع في قصيدته الشهيرة (نقٍّط قلم الله حبر/ صارت السما وتجمّعت/ وتجمعت صارت بحر/ وصل البحر عالشط وتمشى/ ونسم هوا رملي/ وقع الرمل بالمي صارت أرض/ طلع السمك عالبر يتشمس/ كتروا بيوت الناس/ كتروا الشجر/ شايف كأنها بديت الحفلة/ وسميتها بيروت/ طلعت من رموش الزبد كأنها كحلة/ ما في مدينة اسمها بيروت/ بيروت عنقود الضيع).

لم يقف عصام العبدالله كثيراً عند مسألة صياغة قصائده بالمحكية التي يفتقر تاريخنا الثقافي الى تقاليد قراءتها وكتابتها. قصيدة في مقابل الفصحى المؤبدة بجمالها وحضورها ونظامها، تتشكل كل يوم من تجارب الناس، وتتبدى خطورتها أنها تصير كل يوم على شاكلتهم وصيرورتهم، ليستشهد عصام دائماً بالشعرية وقوة تركيب المشهد التي لا تميز بين عامية وفصحى: الشاعر المقلّ في إنتاجه الشعري («قهوة مرة» ١٩٨٢ ــ «سطر النمل»١٩٩٣ ــ «مقام الصوت» ٢٠٠٩) قال مرة عن الشعر إنه حذف وصمت، أكثر منه إضافة وكلاماً. شغفته السياسة مبكراً، متأثراً بأشعار البعثيين مثل سليمان العيسى وهارون هاشم رشيد، ولم يلبث أن بدّل حزبين: حين انهار النص القومي الذي بنيت عليه الأحزاب القومية عام ١٩٦٧، انتقل الى النص الماركسي في «منظمة العمل الشيوعي». رأى فيه مع الكثير من أترابه نزعة مثالية ومحاولة يوتوبية لمساواة غير المتساويَيْن.

وصَف القصيدة المحكية بأنّها خُلقت لتُسمَع في سيارات الأجرة وحوانيت الشعب

الخيبات المتتالية جعلت الشاعر يرتد الى شرط الإنسان الأول، وغاية الغايات وهي الحرية التي يساويها بالوجود نفسه (مرقت حدي/ سألتن عنها/ قالوا هيدي بنت الحرية/ ماتت إمها هي وزغيرة/ وربّتها اللبوة البرية/ رضعت من لبن الحورية/ وصارت أحلى منها شوية) ليحدد دور الشعر والحرية في التخريب: التخريب على الاستبداد الذي «يصب الناس في قوالب كأحجار الباطون»، والتخريب على السلف بإضافة وردة مختلفة الى حديقة الإبداع التي زرعها هذا السلف.

«شاعر عالحطب»، بهذه الطريقة وصف علاقته بالتكنولوجيا الرقمية. وعن تسجيله لقصائد دواوينه على أشرطة كاسيت بمرافقة موسيقى زياد الرحباني، كان يجيب بأن الشعر المحكي خُلق ليسمع في سيارات الأجرة وحوانيت الشعب وأسواقه في نوع من أدب المشافهة ينطلق من الشعب ويعود إليه في مهمة تزيين اللسان اليومي.

كتب عن الخيام، جارة فلسطين، وعن جبل عامل، وأحضر الخيام بدردارتها وحكاياتها الى بيروت، مصرّاً على نقل ساحة الضيعة الى شارع الحمرا الذي هو ساحة بيروت. جابه طولاً وعرضاً وصعوداً ونزولاً من الـ«هورس شو»، الى «الكافيه دو باريه» ومقهى Lina's و«عليا»، وصولاً الى «الروضة» عند خاصرة البحر. «أنا رئيس بلدية الحرية»، يقول عصام العبدالله لندمائه في المقاهي الكثيرة، «انتخبني كل الجالسين هنا برضاهم ودونما ورقة، وشارع الحمرا هو هذا الهجوم باتجاه الغرب، الغرب البحري. أنا أعرف هذا الشارع قبل أن يصير شارع الحمرا، على أيام طفولتي كان فيه صبار وتين، وكنا نجلس هناك. أجلس في المقهى أحرس أمكنتي». من ذات المقهى، كانت تمر كل الأشياء وكل الثورات تحت نظر «أبي حازم» فيعالجها بنكتته الحاضرة، والسخرية التي تلازم الشعراء في معالجة الوجود بأسره ابتداءً من أنفسهم. حين عيّرته كنّته مرة بضرورة ترك المقهى والسفر لرؤية الدنيا، أجابها عصام بأنه سافر الى أبعد ما يتصوره خيالها. يكفي أن يجلس على «الزاوية الجوانية» التي يظنها الناس مجرد مظهر داخلي، لتبدأ رحلة الشعر الداخلية، وهي شرط أول وأساسي لكل شاعر. كتب عصام العبدالله للمقاومة: «ما بعرفن/ ما شايفن / لفّوا وجوههم بالقهر/ خبوا سلاحهم بالوعر/ خبوا أساميهم/ ما في حدا بيشوفهم/ إلا إذا ماتوا/ وتعلقوا متل التحف/ متل القمر». غريب هذا الموت كيف يتطاول على قلب رقيق كقلب عصام العبدالله الذي كتب مرة هذه الكلمات: «بحبّك متل نزل الشتي عليّي/ وما عاد فيّي لمّ/ بحبّك متل ولد فزع/ وفتَّش عريحة إم».

* يصلّى على جثمانه بعد صلاة ظهر اليوم الأربعاء في جبانة «روضة الشهيدين» في الغبيري. تقبل التعازي قبل الدفن في حسينية «روضة الشهيدين»، وبعد الدفن في قاعة الإمام موسى الصدر في «روضة الشهيدين»، ويوم الخميس في «فندق البريستول» من الساعة العاشرة لغاية 1:30 ظهراً، ومن 2:30 بعد الظهر حتى الثامنة مساء. تقام ذكرى أسبوع له يوم السبت في 23 كانون الأول (ديسمبر) عند الساعة الحادية عشرة لغاية 12 ظهراً في حسينية بلدته الخيام

جبل عامل

كان في جبل اسمو جبل عامل/ راجع عبيتو من الشغل تعبان/ وكان الوقت قبل العصر بشوي/ كتفو الشمال ارتاح على الجولان/ كتفو اليمين ارتاح على نيسان/ كفو الشمال بيفتحها بتلمع/ نحاس القمح غطى سهل حوران/ اسمو جبل عامل/ صدرو خزانة بقلبها جهاز العروس/ فيها عنب في تين في زيت/عم يرشح من عيون السنين/ جهاز العرس للبنت يلي اسمها زينب/ وسامع حدا بيقول انها فلسطين/ اسمو جبل عامل/ عيونو بُرَك/ والاولاد بدن يلعبو...


..

بين اسمين



إسكندر حبش

يفترض المقام بداية أخرى بالطبع. في مقام الموت، تصبح كلّ الأشياء لاحقة وتابعة، حتى الكلام يفقد الكثير من دهشته. إلا أنني سأتخطى هذا الفعل، كي أبدأ بواحدة من ضحكات عصام العبدالله في يوم رحيله، وهو مَن كان لا يتوقف عن تأجيج ابتسامات الحاضرين، كلّما اجتمعوا في حضرته. لا بدّ للنُكتة المقطوفة، من تلك اللحظة الآنية، أن تكون سيدة جلساته. كان يقطفها تماماً مثلما يستلّ من الغيم اللحظة الشعرية ليكتبها باللغة التي اختارها: العامية. كان يردد دوماً أن الكتابة بالعامية تحتاج فعل شجاعة في ظلّ هذا المحيط من الكتابة بالفصحى الذي يلفنا.

هذه الشجاعة لم يعرفها، بداية، سوى تلاميذ عصام العبد الله الذين مرّوا من أمامه ذات يوم، في إحدى ثانويات بيروت الرسمية. حركاته واندفاعه وجسمه الطويل وصوته العالي النبرة وتصفيفة شعره المقلوب إلى الوراء، جعلت التلامذة يلقبونه بـ «طرزان». كانت الثانوية أشبه بغابة زمن الحرب الأهلية، وهو كان على استعداد ليصارع الجميع، لدرجة أنهم نسوا اسمه الحقيقي ليتحول اللقب الذي أطلق عليه، إلى كلمة سرّ بين الطلاب. تبدلت كلمة السرّ هذه إلى «أبو حازم»، حين شبّ بعض تلامذته وبدأوا يكتبون بدورهم، وحين بدأوا يلتقون به في المقهى أو في بعض النشاطات الثقافية التي تعرفها المدينة. كأن طرزان لم يكن سوى تهويم من تهويمات الطفولة والمراهقة. أما الانخراط في «الثقافة»، فيحتاج إلى «متانة» أخرى مختلفة.

لكن «طرزان» الغابة، لا يجيد كتابة الشعر. الكلام بحاجة إلى رقة قلب. وقلب عصام رقيق إلى أقصى الدرجات، حتى إنه توقف عن النبض، تاركاً أصدقاءه في المقهى، وفي الحياة، ليشعروا بكثير يُتمّ. القصيدة العامية اللبنانية تشعر بالفقدان بدورها، إذ كان من هذا الجيل الذي متّن شكل القصيدة (العامية) الجديدة، بعيداً عن الزجل. كان مرجعه الشعري الأوحد والأكبر المتنبي الذي لا يتخطاه أحد. لهذا بحث طويلاً قبل أن ينشر. لم ينشر كتباً كثيرة.

كان مرجعه الأوحد والأكبر المتنبي الذي

لا يتخطاه أحد

بين ديوانه الأول والثاني، عشر سنوات، وبين الثاني والثالث ما يزيد عن هذه الفترة. كان يردد أن الشعر صعب، وأنه يظن نفسه مسرعاً ومتسرعاً إذا استطاع أن يقدم كتاباً كلّ عشر سنوات. صعوبة الشعر برأيه، جعلته يجد أن الذين «يندلعون» بسرعة، نار عارضة. لأنه كان يبحث في الشعر عن نار سرّية لا تنطفئ. لهذا كان يعتبر أن فترة السنوات العشر، هي مسافة ضرورية لتمرين المخيلة على القفز.

القفز هنا، يحيل إلى صورة أخرى، غالباً ما كان يرددها «أبو حازم» عن الشعر. كان يشبّه شعراء النثر بأولئك الذين يقدمون الاستعراضات الرياضية الجميلة المليئة بالحركات المدهشة، لكن... على الأرض، أي على شيء ثابت؛ فيما كان ينحاز أكثر إلى من يجيد تقديم هذه الحركات المدهشة، على حبل معلق... في الفضاء. فكرة تختصر انحيازه إلى الشعر، إلى كيفية كتابة الشعر والتعاطي معه، مع العلم أنه لم يكن يميز ما بين الفصيح والدارج، إذ كان يجدهما حركتين للسان واحد. حركة اللسان هذه، جعلته يرتئي في كل مرة يصدر ديواناً جديداً، أن يصاحبه «شريط كاسيت» أو «سي دي»، فالإلقاء، جزء أساسي من طريقة الكتابة حتى لأخال أنه كان يلغي كلمات إن لم تتناسب مع طريقة اللفظ التي يريدها. طريقته هذه، كانت تفرد مساحة إضافية للشعر. لم يميز بينهما يوماً. هما صنوان لا يفترقان. أيضاً وأيضاً سأنحو هنا إلى مقام الصوت، (فيما لو استعرت عنوان كتابه الثالث) بدلاً من مقام الرحيل. في إحدى أمسياته، ألقى قصيدة له بطريقة مدهشة. قصيدة كانت تحولت إلى أغنية. أجاد أبو حازم في القراءة، كأنه أراد أن يذكر الحضور بأن الأغنية ليست شيئاً من دون النص. بعدما انتهى، اقترب منه الصديق ناصر عجمي قائلاً: «إلقاؤك يساوي مليون أغنية»، فصرخ عصام طالباً من الجميع الإنصات لما يقال.

بين اسمين، امتدت حياتنا مع عصام العبدالله. ليس هو من يغادرنا اليوم، بل ربما نحن الذين نرحل، كي نقرأ القصيدة جيداً.


..

في صحبة عصام العبدالله



عباس بيضون

شهادات | أمضيت السنوات الأخيرة في صحبة عصام العبدالله، وأقول في رعايته. كنت ألتقيه مرتين في اليوم، وإذا غبت لطارئ أو غاب أحد غيري، سأل عنه وسأله عن سبب غيبته، فعصام هو مرجع الشلّة وهو مسؤول اللقاء، الذي يبدو في أحيان كأنّه من تأليفه أو نسقه. فهو بالتأكيد عائلته الثانية وجماعته إذا جاز التعبير. ذلك أني لم أعرف شخصاً كعصام أقام من الرفقة حياة كاملة، ومن الصداقة حياة يوميّة بل لا أعرف شخصاً مثله جعل من الحياة نفسها فنّاً.

عصام العبدالله يعطي الحياة حقّها، فكل ما وجد وما حدث سبب لمتعة وسبب لتسلية. كانت الحياة بالنسبة لعصام لعباً فذّاً، تمضي يوماً بيوم من متعة إلى متعة. الرفقة متعة والوحدة متعة والسهرة متعة كما النوم. هكذا كان عصام يدلّل الأشياء وتدلله الأشياء، فهو أبداً مدلل الكون وهو الذي جعل من الكلام والرواية والحديث والإصغاء لذّة. لقد جعل لكل ّيوم برنامجاً وصيغة يمضيهما خليّ البال، عارياً من الهموم. في كون منذور للشقاء، استطاع عصام أن يجعل منه إجازة أو نزهة، فكان على نحو أو آخر سعيداً وأليفاً ولا تستفزّه الحياة أو تملؤه رعباً وفظاعة. كانت الحياة عادته التي تربّى عليها وألفها وألفته، فلم يكن للموت مكان لكنّه، مع ذلك، كان محسوباً، على الدوام، ومؤجّلاً بالقدر ذاته.

لا نستطيع أن نتكلّم على عصام العبدالله من دون أن نتكلّم على شعره الذي كانت تلاوته في بعض تضاعيف السهرة عندما يخطر لشاعره الذي بحسب روايته نظمه من الذاكرة، وبقي من ذلك الحين في ذاكرته. كان محل تقاطع بين الفصحى والعاميّة وكانت تلاوته في بعض فسحات السهرة إحدى متعه ومتعنا معه. كان هذا الشعر بالمحكيّة اللبنانيّة، لكني لا أظنّ أنّ عربياً، مهما يكن مصدره، يفوته أن يفهمه أو يتعثّر بمعانيه ومفرداته. كان انتقال عصام العبدالله إلى الشعر المحكي أحد إشراقاته، بل أحد تجلّياته. لقد انتقل الى المحكيّة عن طريق الشعر نفسه، الشعر الذي يسبق اللغة، وفيما هو يصنع ذلك، يؤلّف لنفسه لغة. كان شعره على هذا النحو محل تقاطع بين الفصحى والمحكيّة، كأنّه هكذا قبل اللغة أو بعدها. هذا ما جعل الشعر عند عصام العبدالله، لا يكتب فقط بلغة وسطى، بل إن هذه اللغة المقتلعة من اللغة هي وبدرجة أو أخرى محكومة بعيار الشعر. وهي هكذا موقوفة على الشعر نفسه. هكذا كان عصام ينظم قصائده من كلام وجد للشعر أو جعله هو كذلك. ربّما من هنا سلاسة هذا الشعر وطلاوته وقابليته لأن يلامس الأسماع، خاصّة إذا تذّكرنا إلقاء عصام الذي يقرأ شعره كأنّه يتذوّقه أو كأنّه يتحسّسه. يقرأه بشهوانيّة لا تلبث أن تنتقل إلى سامعيه، فيتلذّذ هؤلاء ويتذوقون الكلام والإيقاعات والقوافي.

شعر عصام على هذا النحو يندرج في المحاولة اللبنانيّة لتوليد شعر من المحكيّة لا يصدر عن التراث الزجلي. كانت هذه المحاولة تقوم عند ميشال طراد مثلاً على توليد موسيقى خاصّة بالعاميّة. محاولة عصام كانت تقوم بموازاة الفصحى وتماثل تجربتها في تجديد الشعر وخاصّة في قصيدة التفعيلة.

توقف عصام العبدالله عن الشعر في سنواته الأخيرة. لقد ألّف الشعر في رأسه وهو يقود السيّارة أو يتمشّى. كان الشعر آنذاك طريقة للعيش، وحين لم يعد كذلك انصرف عنه.

الآن غادرنا الّذي كان عمود اللقاء ولا ينعقد اللقاء بدونه. انفرط اللقاء أياماً لكنه عاد على مهل. غياب عصام جعلنا نكتشف أننا نشكلّ شيئاً، لنسمه لقاء. سنجتمع على وداع عصام، وكنّا من أسبوع التقينا على وداع الشاعر الزجلي خليل شحرور الذي لم يكن فقط من أهل اللقاء، بل كان إلى جانب ذلك مثلاً للدماثة والشهامة. إلى أين ستنتهي بنا الوداعات، أم أنّنا كلّ مرّة نودّع أنفسنا؟


..

المدينةُ أقلّ، الضحكةُ أقلّ



زاهي وهبي

شهادات | الصديق حتى آخر رمق، الضاحك حتى انهمار الدمع، المتثاقل على أوجاعه في أيامه الأخيرة حاملاً طرائفه إلى المقهى كي لا يختل ميزان الإمتاع والمؤانسة، أو يكفهرّ وجه المدينة، وقبل ذلك وكل ذلك الشاعر سلوكاً وممارسة ونمط حياة، ثم الشاعر كلمةً وقصيدةً وأغنيةً وقهقهةً مجلجلة صاعدة من مقاهي الحمرا إلى فضاء العاصمة التي أسماها «عنقود الضيع».

وَمَن مِنّا يخال بيروت لعقود خلت بلا عصام العبدالله، وبلا جيل من شعراء الأرياف اللبنانية ساهم (مع آخرين) في صناعة عصبها الإبداعي إلى جانب المفتونين بها من مبدعي العرب أجمعين، وجلّهم يعرفون أن في زواية ما من مقاهيها الكثيرة ثمة شاعر يروي القصص والحكايات وينثر الكثير من القصائد والضحك والصداقات المفتوحة حتى للمارة وعابري السبيل.

كأن هتافاته في تظاهراتها العتيقة لا تزال مسموعة حتى الآن، من زمن الستينات والسبعينات والأحلام المستحيلة التي أكل الآباء حصرمها فضرسوا والأبناء معاً. كأن قصيدته ما هي سوى امتداد لتلك الهتافات الحماسية ولكن بنبرة خافتة وأحلام أقل، وبصور شعرية مقطوفة من خياله الواسع وجموحه الدائم كحصان غير مروَّض، وببراعة في توظيف العادي من الكلام ورفعه إلى مرتبة القصيدة يصوغها ذهباً في مملكة المحكية التي كان يأسفه أن البعض منا يعاملها مثل بنت الجارية في حضرة بنت الست: الفصحى. «نأتي إلى المقهى لنلعب بالكلام»، والكلام له. حكواتي هو، مسرحه المقهى البيروتي في أزمنته المختلفة وتحولاته «المأسوية». فكم شهد فارس الكلام ذبولَ أمكنة، وإقفالَ مقاهٍ عرفته نديماً يومياً، لا يكلّ ولا يملّ من الحكي والضحك، تتحلق حوله جوقة من الأصدقاء والمريدين، ينتقلون معه من «خشبة» مقهى إلى أخرى، بحثاً عن مكان يتسع لكل هذا الضحك، لكل هؤلاء الحواريين. وكأني به كان يخسر بعضاً من عمره وشغفه بالحياة كلما أقفل أو أقفر حيّز من فضاء بيروت التي ما فقد إيمانه بها لحظة وفي أحلك الأوقات وأحرجها. فإذا سألته عن حالها في عزّ الأزمة يجيب بعزم وثقة: قمر، بلدنا مثل القمر.

قمر القصيدة أقلّ بلا عصام، المدينة أقلّ، والضحكة أقلّ. ولئن أوصانا بالضحك حتى الثمالة، فإن الدمع يليق به أيضاً، مثلما يليق به الحُبّ الكثير.

يحزنني أكثر أن يحزم عصام ضحكاته وحكاياه، وأن يطفئ قمرَ أمسياته ويترك بيروت التي جمعتنا وعمدت صداقتنا بالشدائد والمِحن، بالقصائد والشجن، بالطرائف والمسرّات الصغيرة، فيما أنا بعيدٌ على سفر، ويعزيني أن دمعتي تصير كلمة ترفرف في وداعِهِ شاعرَ لمعةٍ وضّاءةٍ كالبرق وصديقَ عمرٍ بنكهةٍ أبوية دافئة حنونة. ففي قلب صخرة العمر الصلدة القاسية ينابيع حُبّ ومياه رقراقة عذبة تنبجس من قلب رجل ما أراد من دنياه سوى ملاعبتها... بالشِّعر وبالضحكات.

كلمتي دامعة أبا حازم وقلبي بئر أسى.

(من مسقط)


..

من اللغة اخترع مدينته



حسن م. عبدالله

شهادات | قبل أيام قليلة من دخوله المشفى، التقيته في مقهى «كاريبو» في شارع الحمرا. كان يبدو عليه التعب، فسألته إن كان يريد فنجان قهوة، فأجابني بلهجته الجنوبية المكحلة ببيروتية ساخرة: «أكيد مش رز بحليب».

كان، خلافاً لتوجيهات الأطباء، يدخن ولا يأبه لنذر الخطر القادم، كعادته أن لا ينظر لأهوال الحياة التي لجمها بالشعر والسخرية والهزل واللعب بين الشوارع والمقاهي..

كان عصام يقول إنه يجب الصعود إلى القصيدة. الشعر طلوع برأيه، وهكذا صعد إلى العتبة الأخيرة من الحياة، ناثراً القصيدة المحكية عقداً من لؤلؤ الكلام وأصفاه.

الشاعر الذي هتف في شبابه لبيروت عاصمة عربية الهوية والانتماء، أسكنها قصيدته، وفتح روحه لبحرها وأحيائها وناسها، وكان البعض يشاهده فجراً، نازلاً من مكان سكنه في الطريق الجديدة إلى مقهى «الروضة» البحري، كأنه حارس الصبح والبحر.

راح عصام يقلب في هندسة المحكي ناسجاً شخصية متميزة في معبد الشعر إلى جانب الكبار، حتى نال لفتة احترام من الكبار وأولهم الشاعر الراحل سعيد عقل.

لم يكن شاعر سوق ولا منبر ولا مناسبات، لكنه لم يخيّب متذوقي الشعر، فالقصيدة عنده تتفتح كلما أيقن أن السامع يرتوي، فيزيد من مشاغلة الفكرة بلغة أليفة يلمع فيها الإيقاع الداخلي كالأرجوان.

عصام شاعر اخترع للمدينة لغة، ومن اللغة اخترع مدينته ولاعبها غزلاً وعتباً من حيث لا يتوقعه «جن الحكي»، ومن لحمه كسى شوارع بيروت ومقاهيها ولم يخن عهده لها رغم الخيانات الكثيرة.


..

غياب الحكوجي في البياض



أحمد هاتف

لا أحد يرشّ الماء خلفك حين يعلن أنّه سيضمك الى رمادي أكوانه. هو فقط "يمسح ما تبقى من الحكاية عن زجاج الغد"، ويكتب "توقاً لا يشبه التوق لأن باب الرجاءات هنا مغلقة".

أقف الآن أمام المفردة: "غياب" كأني أخبئ القلب بحرش شوكي في عاصف ريح. كم تبدو المفردة حادة ومسننة. جارحة كما صمت ميت لسؤال يلح.

غد بارد وأمس حافل، ولا شيء سوى باب مطر يقف صامتاً خارج زجاج المقهى. يتأمل كرسياً لا يتلون. لا شيء سوى "خلص الحكي". أرصفة ستنتظر طويلاً خطوة صلدة لشاعر لا يمرّ لأن أرملة الغيمة فكرت بإنجاب مطر، فسرقته الريح من سريره، لتقر به عصافير السموات الزرق، وحدائقها الفضية اللينة.

"الخرز اللي متل نسوان

يتخبا

جاي العقيق معتق وحليان

من كتر ما تربى"

لكن هل ستدون الريح قصائده! هل سيكتب القمر ضحكته الهائجة كرائحة عرق بلدي؟ هل ستوقظه نجمة في صباح الجمعة لتصحبه لحوار وثرثرات وسجال وضحكة؟ هذا الذي يطل على النهار من شبابيك الصحف والكتب وبن فيروز في غنج الفنجان. كيف سيقود حدائق الكلمة في الهناك! كيف سيحمل عصاته الخضراء حالماً بأن ينجو من "السلف الصالح للقصيدة" ليكتب حريته دون أن تتمزق ثيابه وهو يحاول المرور الى فرادته.

غاب هذا "الحكوجي" سليل المفتي وساحات الضيعة الذي كان "يربي الوقت مع رفقاته في المقاهي"، هذا الذي "حوّل المقهى الى ساحة ضيعه" وأطلق ضحكته اليانعة خارج أحكام الذوق العام. هذا "المكسور الخاطر" لأن المتنبي لم يشاركه فنجان البن، ولأن الرحابنة أقلعوا قبله الى سماء الفراديس.

مضى عصام العبد الله الى ما كان يحلم به "البياض الكامل". ذهب مسرعاً خوفاً من أن يذبل كما قبائل قصيدته: "شايف قبايل نطروها بالشمس... ذبلت".

مضى حاملاً الشعر لأنه كما يعتقد "خشبة الخلاص الوحيدة". الحرية هي اعتناق العصا الخضراء. صقلها بمهل نجار عجوز، لتكون جاهزة للسفر الأخير. الرحيل بكرامة. ذاك هو حلم الشعراء.

"يا وجود كريم يا بلا" هكذا كان يضحك بوجه الذل ويجلجل صوته مشاغباً الفذلكة والعناوين الفارغة، وأخشاب الشعر الزائدة. إنه لم يرحل. أدرك تماماً أنّ عصام العبدالله لم يفعلها. هو فقط لبس "البياض الكامل" حتى صار لامرئياً.

لذا لن استغرب إن سمعنا صوته يوقظ جملة من عثراته، ويعنف قصيدة لأن كعبها العالي لا يليق بالفقر. ولن استغرب إن جاءت الجمعة لتضع فنجانه أمامنا "بالضحكة السادة" وبالنزاع البلاغي. وبالسخرية من جملة عبثية قفزت بغتة الى فم سياسي. لا توقظوا عصام العبدالله. هو يتأمل أفق الحكي ليسقي اعوجاج الزمن بمطر الشعر.

"بحبك مثل نزل الشتي عليي". يا للغياب... أيها الغد لا تتحدث بصوت عال إنّ عصام سيأتي.


تعليقات: