الأحزاب تلتهم الحركة النقابية

الكاتب شوكت اشتي
الكاتب شوكت اشتي


بدأت بوادر العمل النقابي في لبنان مع تشكيل دولة لبنان الكبير. وكانت «النقابة العامة لعمال الدخان في لبنان» أول محاولة جدية ومستقلة، كما يقول جان كولاك، لتأطير هذا العمل وبلورته. فقد ساهمت هذه النقابة التي أسسها فؤاد شمالي ـ الشيوعي الأول في لبنان والقائد النقابي الأوضح والأكثر إقداما ـ في إقامة اول مهرجان بعيد العمال العام 1925، وتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني. من هنا اعتبر الحزب الأسبق في ولوج هذا المجال وتطويره.

انساقت الأحزاب السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية وأطرها التنظيمية لفكرة العمل النقابي والاهتمام بالجانب الاجتماعي في نضالاتها. لذلك لحظت غالبية الأحزاب في عمارتها التنظيمية حيزاً للعمال والقطاعات المهنية الاخرى، تحت مسميات مختلفة (مكتب، مصلحة، هيئة.....). كما عمد العديد من الأحزاب الى تشكيل نقابات خاصة بها، وسعت للهيمنة على قيادة بعض النقابات او الاتحادات العمالية والمهنية لتثبيت وجودها وإبراز قوتها وامتداداتها.

قد يعود مفهوم الأحزاب السياسية للعمل النقابي، من حيث المبدأ، ومساهمتها فيه، الى خلفية تأسيس الحزب بحد ذاته. بمعنى آخر، فقد كان المحرك الأساس لنشأة بعض الأحزاب يعود الى قضايا وطنية بالدرجة الأولى، او فوق وطنية، الأمر الذي جعل مفهومها للعمل النقابي ومتابعتها لقضايا الناس الحياتية وهمومها المعيشية خجولا جداً. ثم تطور هذا المفهوم لاحقاً مع تطور العمل الحزبي واتساع نطاق اهتماماته ونضالاته.

حققت الحركة النقابية العديد من الإنجازات الحياتية والمكاسب المطلبية بمساندة بعض الأحزاب. بمعنى آخر لم تكن غالبية الأحزاب والقوى السياسية بعيدة عن النضال النقابي. بل اعتبر العديد من الأحزاب، وفي الكثير من الأوقات، من أهم روافد النضال المطلبي وأحد أبرز مصادر الدعم للعمل النقابي وقضاياه.

غير ان العلاقة بين الأحزاب والحركة النقابية كانت، ولم تزل، ملتبسة في العديد من الأوقات وتخضع لتوترات حادة على اكثر من مستوى. لعل من أبرزها، مفهوم الحزب ـ الأحزاب للعمل النقابي، وما قد يتفرع عن هذا المفهوم من ارتدادات تطال جوانب العمل النقابي برمته..... كما تطال موقع النقابي الملتزم حزبياً ودوره ومرجعيته. خاصة في حال تضارب او تداخل القضايا النقابية المطروحة مع مواقف حزبه، ودوره (النقابي الملتزم حزبياً) في أطره التنظيمية بشكل أخص.

إلى أي مدى يمكن لحزب ما ان يقبل باستقلالية العمل النقابي؟ وبالتالي باستقلالية محازبيه ضمن هذا العمل؟ وما هو تصور الحزب ـ الأحزاب لمفهوم العمل النقابي وقضاياه؟ وإلى أي مستوى تحضر الهموم الحياتية والمعيشية في برامج الأحزاب وسياساتها؟.

تزداد هذه المسائل، وغيرها، حضوراً في ظل التحركات المطلبية التي تقودها «هيئة التنسيق النقابية». فأمام تردي الوضع المعيشي وانسداد الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، تبرز مواقف القوى السياسية بعامة والممسكة بالسلطة من بينها خاصة، مثيرة للاستغراب والاستهجان والتعجب، سواء لجهة خطاباتها المجردة، او وعودها الوهمية، او عجزها عن مواجهة التحديات التي تواجه الوطن، او فشلها في رسم السياسات وتحديد الأولويات.

إن مفهوم هذه الأحزاب يكاد يكون امتداداً للمفهوم التقليدي الذي حكم مفهوم الحزب للنقابة وعلاقته بها. قاعدة هذا المفهوم غلبة الحزبي على النقابي. وخضوع الأخير لقرارات الحزب وتوجهاته وأوامره وسلطة قياداته، الأمر الذي حول مفهوم النقابة من هيئة مدنية مستقلة الى أحد ملحقات الحزب وملكياته الحصرية.

لقد اخترقت القوى السياسية العمل النقابي بطريقة فجة. هدفها المكسب الآني والرخيص، ما أفقد الحركة النقابية استقلاليتها وكبل حركتها وساهم في محاصرتها. ولعل تجربة الاتحاد العمالي العام خير مثال على هذا التوجه ونتائجه.

من هنا تحول العمل النقابي ضمن هذا المفهوم من إطار تنظيمي مستقل يبلور وعي الناس اصحاب المطالب ذاتها، ويجمع جهودهم في عمل جماعي موحد للدفاع عن قضاياهم وتحسين أوضاعهم وتطويرها، الى وعي آخر ومختلف في الشكل والمضمون. قاعدة هذا الفهم المشوه ان النقابة ذراع الحزب وإحدى خلاياه في هذا القطاع او ذاك. أي تحول النقابي الى أداة لخدمة الحزب وسياسته. وبالتالي تغدو النقابة التي تتفلت من هذا المفهوم (نقابة اساتذة التعليم الثانوي نموذجها الأبرز الآن) «مرتدة» مارقة ومهددة «لوحدة» البلد واقتصاده، وتحتاج الى التأديب والقصاص. ولو جاءت هذه العقوبة على حساب الناس ومست بحقوقهم الأساسية.

إن غالبية الأحزاب والقوى السياسية في مواجهتها الحركة المطلبية اليوم مطمئنة الى ما هي عليه لأسباب عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: اولاً غياب المحاسبة في صفوفها. ثانياً، هيمنة التطييف والتمذهب في بنيتها، ثالثاً نجاحها في تطويع الاتحاد العمالي العام والعديد من النقابات. رابعاً، لمقدرتها في وضع المطلبي بوجه المصلحة العامة. خامساً لادعاءاتها بأن مصير الوطن مهدد لتجنب الغوص في الهموم الاجتماعية والمعيشية والتستر على الفساد. سادساً، لسياستها في تعميم الزبائنية.

من هنا يمكن القول إن غالبية الأحزاب تخشى العمل النقابي المستقل كإطار جامع يخترق الانتماءات الأولية وعصبياتها المرضية، لأن مثل هذا العمل النقابي يكشف اهتراءات العمل الحزبي ويعري عجره في متابعة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية، ويبين المهزلة الديموقراطية في هذه الأحزاب، ويعلن عن موات العصبيات القاتلة المستندة اليها هذه الأحزاب، ويحرر النقابي الملتزم حزبياً من «ايديولوجيته» التي تحجب الواقع وتحاول مصادرته وتطويعه.

إن بدايات العمل النقابي في لبنان لحظت الإطار العام لهذه الوضعية ودعت لتجاوزها. ففي أول مهرجان بمناسبة عيد العمال (1925) كان قد أقامه «حزب الشعب اللبناني» في سينما «كريستال» في بيروت، أهاب شكري بخاش في خطابه بالعمال «أن يطهروا الأحزاب من كل متاجرة، متمثلا بالمسيح الذي طرد التجار من الهيكل». واعتبر فؤاد الشمالي في المهرجان ذاته، ان صوت الشعب يتحقق من خلال العمل النقابي، أي «حين يتحد المجموع في سبيل مصلحة المجموع». واليوم وبعد حوالي تسعين سنة نجد أنفسنا أمام التحدي ذاته. فهل تمكن المواجهة؟

تعليقات: