حين تناولتُ الكبة النية لدى كامل حمادة في كابول!

كامل حمادة ومندوبة \
كامل حمادة ومندوبة \"النهار\" في كابول، أيلول 2005.


كان ذلك في أيلول 2005. كنت في كابول موفدةً من "النهار" لتغطية الانتخابات العامة ضمن وفد إعلامي عربي لبى دعوة وزارة الخارجية الأفغانية.

كانت مهمتي مُلهِمَة مهنياً وإنسانياً ومضنية جسدياً. ساعات قليلة من النوم، تنقلات دائمة بين العاصمة والمحافظات فجراً لدواع أمنية، مقابلات وجولات بين الحملات الانتخابية وزيارات لمدارس ومصانع في طقس حار وجاف، وسط انغماس كلي للحواس والعقل في هذه التجربة الفريدة. غير أنني وزميلاتي لم نستسغ من الطعام إلا الخبز، نكتفي به والفاكهة، بعدما مللنا تناول اللحوم في كل الوجبات، حتى الفطور.

كامل حمادة قَلَب المعادلة. أوشكت المهمة على الانقضاء. غطينا يوم الاقتراع وراسلنا صحفنا. ارتحنا قليلاً ثم خرجنا برفقة مضيفينا الذين قالوا إنهم أعدوا مفاجأة. انطلق موكبنا للعشاء.... إلى مطعم لبناني. عند مدخله وقف رجل أنيق مرحباً بابتسامة عريضة. سأل :"من سوسن؟". لوحتُ له بخجل. فقال بود :"أنا كامل حمادة. أملك المكان واتصلُ بكل لبناني يزور كابول وأدعوه إلى هنا. هاتفتُ الفندق مراراً للسؤال عنك بعدما سمعتُ عن مجيء صحافية لبنانية. وحين اتصل مرافقكم لحجز طاولة، علمتُ منه أنك ستكونين حاضرة".

لم أصدق ما أسمع وعجزتُ لبرهة عن الكلام. كان عمل اللبنانيين في قطاعي الاتصالات والعقارات في أفغانستان بدأ بُعيد سقوط نظام "طالبان" عام 2001، لكني لم أتوقع أن أجد لبنانياً يقيم هناك ولا يكتفي بالاستثمار عن بعد.

سأل كامل :"شو بدك تاكلي". أجبتُ كطفلة تنتظر هدية :"كل شي". عدَد لي الأصناف، كل ما يمكن تصوره من المازة والسلطات والمعجنات والمشاوي، وأوصاني بتجربة الفتة والكبة النية. وحين لمس ترددي أوضح أنه يستورد اللحوم طازجة من دبي وينتقي أجود الأصناف، ويعد الطعام طهاة لبنانيون في المطبخ الشديد النظافة، كما الطاولات المرتبة بأناقة والمزينة بالشموع الحمر والبيض، وقد أهداني إحداها.

أعادني كامل إلى بلادي، وقرَب زملائي العرب من أوطانهم، لأنهم انتقلوا مثلي من أفغانستان إلى لبنان، إلى بعقلين. وهو اهتم بكل التفاصيل، المزيد من الحامض للتبولة والزيت للفول وحبات الرمان على متبل الباذنجان. حتى أنه سأل إن كنا مستمتعين بأغاني نانسي عجرم تصدح في الحديقة أو نفضل مطرباً آخر. طلبتُ سماع فضل شاكر، حينها كان الرجل يغني بإحساس العاشق للحب ولا يحرض على القتل ويفاخر بالإرهاب.

عبق دخان النراجيل وارتفعت ضحكات الساهرين. وحولنا كان غربيون وأثرياء أفغان يلتهمون الطعام الشهي بنهم. وكامل يتنقل بين الزبائن كأنهم ضيوفه في منزله. وتوزع الرواد بحرية في الأرجاء، يلتقطون الصور قرب نافورة، أو مجسم لطاه وآخرَين لجرة ونرجيلة عملاقتين.

وحين ودعني كامل، قال لي إنه مرتاح ولا يفكر بالعودة لأن عمله ناجح. لقد اعتاد البلاد ويشعر بالأمان، وعلاقته جيدة بالأطراف الأفغان.

عام 2009، عدتُ إلى أفغانستان. سألتُ عنه فقيل لي إن طعامه لا يزال الأشهى على رغم افتتاح مطعمين لبنانيين آخرين. اتصل بي في الفندق إياه إذ لم يسمح ضيق الوقت بلقائنا، ولم أجد في المطاعم الغربية الفاخرة التي دُعيت إليها الحميمية التي يزرعها كامل وسط رواده. قال لي: "حاذري في تنقلاتك. تهديدات "طالبان" جدية، والأمن يتراجع". أجبته: "أنا هنا لأيام ثم أعود، انتبه أنت على نفسك"...

هاجمت "طالبان" المكان الذي صنعه كامل وأحبه، فقضى و20 شخصاً آخرين. رحل ابن بعقلين في كابول، لبناني آخر يحصده الإرهاب في الخارج كما يقتل كثيرين في الداخل.

موضوع ذات صلة: "الخيام تفقد إبنها الدكتور وابل عبدالله في التفجير الإرهابي في أفغانستان"

تعليقات: