بريتال بعد غياب شهداء آل مظلوم الستة: «العيــش فــي غــربــة كبيــرة»

في بريتال (حسن عبد الله)
في بريتال (حسن عبد الله)


كانت الساعة هي الحادية عشرة وعشر دقائق من مساء اليوم الأخير للحرب، قبل إعلان وقف العمليات الحربية: يتلقى عدنان مظلوم اتصالا من أحد الأقارب، يمسك الهاتف، ويجيب وهو يتمشى خارج دار العائلة في بريتال.

عند الحادية عشرة واثنتي عشرة دقيقة، لا يصل الى مسامع عدنان شيء من كلام المتحدث عند الطرف الثاني من الهاتف، صوت أقوى بكثير يفرغ أذنيه من الهواء ويفرغ أفكاره من تخيل مشهد كالذي رآه وهو يستدير للخلف: صاروخ ينزل على بعد متر ونصف المتر من المنزل الذي يتهدم جزء كبير منه على من فيه من أفراد العائلة. تشتعل النار في كل السيارات المركونة في مدخل الدار، يتبعه هدوء عميق. «لا شيء، لا حركة ولا صوت، لم أسمع همسا أو نفسا لأي من أفراد عائلته. كانوا اثنين وثلاثين فردا مجتمعين في المنزل بالإضافة إلى عمار عثمان، الصديق الزائر».

يستفيق عدنان من الصدمة، هو لا يملك ترف أن يغرق فيها طويلا. يركض باتجاه المنزل، يحاول أن يتذكر كيف توزع قاطنوه بين الحديقة والغرف ومن من بينهم هو بأمسّ حاجة للمساعدة. خمس دقائق على سقوط الصاروخ: ترتفع أصوات أنين من اتجاهات مختلفة.

يدخل هو الدار وكأنه يخترق كابوسه سائرا على قدميه، «أخذ أفراد العائلة يظهرون واحدا تلو الآخر.. مشوهين أو مصابين».

يسمع عدنان صوت صديقه عمار من غرفة النوم، يرزح تحت ثقل سقف هبط على الجزء الأسفل من جسده ويمنعه من الحراك. قدمه تنزف و«هو غارق في صمت بعيد». يجتمع عدد كبير من الجيران محاولين جذبه من تحت الأنقاض، تفشل محاولتهم. يطلب الصليب الأحمر، والدفاع المدني، «يصلان بعد نصف ساعة.. ومن دون الرافعة».

يصمد عمار هادئا، ويجيب على اتصال أمه اللاجئة في زغرتا، يطمئنها أنه بخير، ويعود الى صمته. ينزف الجريح لساعة كاملة، ويقول عدنان انه «صُفيّ دمه وهو يردد، ساعدوا غيري.. ساعدوا غيري..». كانت تلك هي الجملة الوحيدة التي ذكرها قبل أن يرفع إصبع التشهد ويقول جملة أخيرة «أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله». بعد ذلك بساعة، تصل رافعة خاصة وتنقل عمار شهيدا.

النكبة الثانية كانت عندما اكتشف عدنان استشهاد والدته فاطمة (56 عاما) ووالده علي (68 عاما)، وزوجة أخيه حسين، زينب شميس (37 عاما) وابنتهما البكر آلاء (17 عاما)، وابنتها الصغرى فاطمة (6 سنوات) التي ظل والدها حسين يصرخ يناديها على امتداد يوم كامل.

ليلتها، لم يجدوا إلا دميتها. في اليوم التالي وجد صديق العائلة ربيع الشل فاطمة تحت الركام.

وصلت الحصيلة النهائية للمجزرة الى ستة شهداء، و24 جريحا بينهم زوجة الدكتور عباس مظلوم (شقيق عدنان) وكانت حاملا في شهرها الخامس وأنجبت محمداً. وأصيبت أيضا هدى (21 عاما) شقيقة عدنان المتزوجة من عباس اسماعيل والتي كانت حاملا في شهرها السادس وأنجبت طفلة أسمتها آلاء، تيمنا بابنة أخيها آلاء وهي صديقتها المقربة. وجرح أيضا علي اسماعيل (19 عاما)، ابن شقيقته سامية (وهي زوجة رئيس البلدية عباس زكي اسماعيل).

الحياة هي الأقوى

تقول هدى، التي تحضر لامتحانات سنة رابعة «بيولوجي» في الجامعة اللبنانية، انه عقب إصابتها في ظهرها ورأسها في المجزرة، لم تر إلا السيارات مشتعلة، ولكنها كانت متأكدة أن المنزل لم يدمر، لهذا اطمأنت أن الكل بخير.

نقلت الى المستشفى وهناك ادعت أنها جارة آل مظلوم فسألت الطبيب من أصيب منهم، ليأتيَ الجواب أنه «تأكد حتى الآن استشهاد الأب والأم». تقول هدى وصوتها بالكاد يسعفها «فجأة لم يعد لدي أب وأم، صرت أشعر روحي تطلع بالليل، وأحس أني أختنق، وأفكر باستشهادهم».

تشتاق هدى لأمها ولتدليلها، وتفتقد وقوفها الى جانبها قبل امتحاناتها، واهتمامها بالصغيرة آلاء. وتشتاق لساعات الدراسة مع صديقتها آلاء التي كانت طالبة سنة أولى في كلية الهندسة.

تسعى هدى لمنح طفلتها حنانا إضافيا «حتى اذا افتقدتني يوما، تذكرتني بقوة كما أتذكر أمي فاطمة اليوم».

لا يمكن للحياة أن تستمر مثل قبل الرابع من آب .2006

لم تستلم العائلة أي تعويض عن البيت المهدم، حصلت فقط على عشرة آلاف دولار كبدل إيواء من حزب الله وتعويضات عن الجرحى والشهداء من هيئة الاغاثة، ولكن لا شيء يمكن أن يعوض الفراغ الذي يصفه عدنان بالفراغ الدائم والغربة.

أعيد إعمار منزل العائلة وقُسم الى شقق انتقل اليها الاخوة جميعا، ليعيشوا جانب بعضهم بعضا. ولم يعد في منزل بيت الاخ الأكبر حسين همس ولا صوت. اختفت ابتسامات آلاء وصوت مذاكرتها، وابتعدت ضحكات فاطمة مع والدتها زينب.. ولم تعد تسمع إلا في ذاكرة الوالد ـ الزوج وولديه علي (19 عاما) وحسن (13 عاما).

لاحقا نقل الكاتب عباس مظلوم مأساة فاطمة الى مدرسة المصطفى وتجسدت في مسرحية معبرة تكريما لاستشهادها. «لقد اختلفت الحياة وسلخت الفرحة من قلوبنا.. نعيش غربة كبيرة. هذه هي حقيقة حياتنا اليوم»، يقول عدنان، ثم يستدرك «ولكن ايماننا بالله كبير».

تعليقات: