من البحر المتوسط إلى المحيط الهادي.. مناوشة بين المعجنات الإيطالية والبهارات المكسيكية

من البحر المتوسط إلى المحيط الهادي.. مناوشة بين المعجنات الإيطالية والبهارات المكسيكية
من البحر المتوسط إلى المحيط الهادي.. مناوشة بين المعجنات الإيطالية والبهارات المكسيكية


سان دييغو (كاليفورنيا):

حين افتتح جورجيو أرماني، أغنى مصمم للأزياء في العالم، مخزنه الجديد في نيويورك منذ عامين، ذهب ذات ليلة إلى مطعم إيطالي مع ابنة أخته وبعض الأصدقاء، فأعجبه الديكور والأكل، لكنه لاحظ أن الطريقة المقبولة في أميركا لطهي المعجنات لا تتبع المواصفات الإيطالية الصحيحة، فقال «تناولت طبقا بسيطا من السباغيتي مع الطماطم والريحان (الحبق) وأنصح الأميركان بما يلي: لا تطبخوا المعجنات أكثر من اللازم ولا تسرفوا في كمية الصلصة.. كل شيء عندكم فيه الكثير، فالرجاء أن تضبطوا أنفسكم ولا تكثروا من المرق والصلصة ولا تطيلوا مدة الطهي».

هل تنطبق هذه القاعدة على الساحل الغربي للولايات المتحدة في كاليفورنيا الشبيهة بجو البحر الأبيض المتوسط وشمسه الساطعة؟

وصلت إلى مدينة سان دييغو الساحلية في جنوب غربي الولايات المتحدة بعد 15 ساعة طيرانا متواصلا عن العاصمة الإيطالية، لكنني أصبت بعد أيام بالحنين لمذاق المعجنات والسباغيتي والمعكرونة القادمة من وسط البحر الأبيض المتوسط وتساءلت إن كنت سأجدها في هذه المدينة الجميلة المتراخية على ضفاف المحيط الهادي كما يتم طهوها في نابولي أو باليرمو بجزيرة صقلية مع الفرق أن الطاهي قدم من المكسيك المجاورة أو ربما البيرو البعيدة في أميركا الجنوبية.

يكتشف الزائر أن أكثر المطاعم شعبية هي المطاعم المكسيكية الرخيصة وفيها لفائف الذرة والطماطم التي اكتشفت في المكسيك لأول مرة قبل 500 عام وكميات من البهارات المكسيكية الحريفة كالفلفل الأحمر الحار والكمون ثم مطاعم السوشي الياباني بأسماكه الطازجة النيئة وتأتي بعدها المطاعم الإيطالية حتى لو كان أصحابها من العراقيين. يفوق عدد المطاعم في سان دييغو على سبعة آلاف مطعم أي ما يقارب روما، رغم أن عدد سكانها يبلغ نصف سكان العاصمة الإيطالية، وأهم منطقة للمطاعم موجودة في وسط البلد وفي القسم المسمى «إيطاليا الصغيرة»، وكذلك في ضاحية لا هويا الراقية وشواطئها الخلابة الحافلة برياضة الأمواج المتكسرة.

تقول مارسيلا هزان، أشهر كاتبة باللغة الإنجليزية عن الطبخ الإيطالي «لا نجد شيئا في إيطاليا لم يتعرض لتأثير الفن حتى الطعام فقد جمع فن الطهي وفن تناول الأكل، فالأول يشمل تحضير الأطباق والثاني يحولها إلى وجبة ممتعة». في إيطاليا يلاحظ الزائر تحول فن التهام الطعام إلى حدث هام، فالإيطاليون يأخذون تناول الوجبة على محمل الجد مثل جيرانهم الفرنسيين، وأول المتطلبات استحضار المكونات الموسمية الطازجة، وثانيهما تقاليد المكان الغذائية، وثالثهما براعة الطاهي في خلط المكونات وحدسه الفني، ورابعهما الاستمتاع بتناول الوجبة في مدة زمنية مريحة دون تحديد موعد دقيق لانتهاء المناسبة.

* مطعم الأطباق

* أول ما يلفت النظر في مطعم «بياتي» Piatti (أو الأطباق بالإيطالية) على شاطئ لا هويا أنه مطعم في دار بسيطة لها حديقة دائرية وجوه ودي ومريح دون مبالغة في الديكور أو الزينة. تذخر لائحة الطعام بالأطباق الإيطالية التقليدية وأغلب أنواع المعجنات بما فيها الوسائد المحشية بالسبانخ وجبن الريكوتا والبيتزا على الحجر ولحم العجل وحتى بيض الغنم المقلي مع الفطر والثوم. إنه المكان المفضل لأهل الحي وللسياح الذين يستمتعون بالسباحة على الشاطئ القريب، وتملكه شركة استثمارية من شمال كاليفورنيا أسسها أميركي من أصل إيطالي يدعى جيوفاني سكالا ويدير المطعم حاليا توم سبانو وهو من أصل إيطالي أيضا. أما الطاهي الأساسي (الشيف) فهو بيبي كاباتينتا (48 سنة) وأصله من كوسكو في جنوب البيرو (العاصمة القديمة لهنود ألانكا) واسمه يعني بلغة سكان البيرو الأصليين: الرجل الروحي القوي لكنه تربى منذ صغره في مسقط رأسه على تناول وطبخ المعجنات الإيطالية لكثرة المهاجرين الإيطاليين إلى أميركا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية ورخص أسعار المعجنات الذي ناسب عائلته الكبيرة المكونة من 12 شخصا، وتخصص في إدارة الأعمال والفنادق ثم درس فن الطهي الإيطالي في إيطاليا في فلورنسا ونابولي وتورينو وبولونيا وبارما قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1995 وينتقل إلى مطعم بياتي قبل عشرين سنة. قال خلال مقابلة مع «الشرق الأوسط» بأسلوبه الهادئ المهذب «بدأت حياتي العملية في غسل الصحون في مطعم فرنسي وإثر جولتي المطولة في إيطاليا عملت كطباخ بعد أن أتقنت طهو الأسماك والأكل البحري على الطريقة الإيطالية، وتعلمت من الإيطاليين كيفية انتقاء المكونات البسيطة وأهمية استخدام زيت الزيتون». ويتابع قائلا «التقاليد الطعامية في البيرو تجعله في مقدمة البلدان لامتزاج الحضارات والأذواق، فهناك التأثير الأوروبي والآسيوي والأفريقي وسكان البلاد الأصليين ألانكا الذين اكتشفوا 230 نوعا من البطاطا مما يجعل مطبخ البيرو مميزا وفريدا من نوعه، والدليل أن أحد أشهر الطهاة من البيرو غاستون أكوريو افتتح مؤخرا مطعما في نيويورك نال فيه مطبخ البيرو شعبية واسعة».

الأكل في مطعم بياتي متعة خالصة خاصة في الحديقة والخدمة ممتازة وأهم ما يذكر لذة الأطباق وقربها الشديد من الأصل الإيطالي خاصة حين تطلب طهي المعجنات لمدة أقل بدقيقة أو دقيقتين مما يحبه الأميركان حتى لا يزيد طبخها أكثر مما ينبغي.

Piatti – 2182 Avenida de la Playa، La Jolla، CA – Tel. 858 4541589

* حي المصابيح

* «بيشه» Bice هو اسم المطعم الإيطالي الفاخر في حي المصابيح بوسط سان دييغو المسمى على اسم «بياتريشه روجيري» وهي سيدة معروفة بكرمها وذوقها الرفيع بمدينة ميلانو في شمال إيطاليا، لذا افتتحت مطعما شهيرا باسمها المختصر عام 1926 في ميلانو، وتملك المطعم الحالي شركة من ميلانو لها سلسلة من المطاعم في إيطاليا وكندا ونيويورك وشيكاغو وفلوريدا بنفس الاسم. يقدم المطعم الأطباق الإيطالية التقليدية والحديثة حسب موضة المآكل في إيطاليا حاليا تحت إشراف الشيف البارع ماريو كاسينيري ترافقه في صنع الحلويات المختصة فرانشسكا بينونتشيللي. سر نجاح المطعم هو اتباعه مبادئ الطبخ الإيطالي الحقيقية وكأنك تتناول وجبتك في ميلانو واستخدام الخضار والمواد الطازجة وتبديل لائحة الطعام أسبوعيا واستيراد الجبن الإيطالية الأصلية الجيدة شهريا، أما الديكور فيتبع ذوق شمال إيطاليا الحديث باستعمال اللونين الأسود والأبيض كما أضافت إدارة المطعم سجادة سميكة على الأرض تمتص الضوضاء وعمدت إلى الضوء الخافت لتعطي الجو المريح العاطفي.

حين زرنا المطعم تصادف وصول شحنة من الكمأة البيضاء النادرة والباهظة الثمن (مثل الكافيار) من مقاطعة بيمونته الشمالية في إيطاليا، وكانت تضاف إلى الأرز المطبوخ بعد أن يقوم مختص في الموضوع بقص قطعة الكمأة ذات الرائحة القوية المميزة بطريقة يسمونها «الحلاقة». من أشهر أطباق الشيف كاسينيري فيليه لسمك القد مع صلصة البستو (أي الحبق والثوم والجبن والصنوبر وزيت الزيتون) وجذور الكرفس، أما الحلويات فتتصدرها الكريمة المطبوخة مع اللوز وصلصة الخل البلسمي. الخدمة راقية وسريعة وكأن الجميع يستمتعون بخدمة الزبائن في أي لحظة وتتبع الأصول الأوروبية في عدم إعطاء فاتورة الحساب قبل أن يطلبها الزبون.

هناك عشرات المطاعم الإيطالية الأخرى التي تستحق الزيارة والاهتمام.

شعبية الطعام الإيطالي في سان دييغو تعود إلى الصورة الباهية للمطبخ الإيطالي، فالأميركان يعرفون أن الجميع لا يتقنون الطبخ في إيطاليا، لكن كافة الإيطاليين يعرفون كيف يتذوقون الطعام ويستمتعون بأطايب المأكل ويقدسون طقوس تناول الوجبة الرئيسية بتزيين المائدة وتقديم عدة أطباق من المقبلات والصحن الأول ثم الثاني بمصاحبة الخضار أو السلطات ويختتمون الوجبة بالفواكه أو الحلويات والقهوة. لذا أصبحت الوجبة الإيطالية أو الفرنسية من معالم التراث الثقافي العالمي باعتراف منظمة اليونيسكو الدولية لكن هذا الخبر لم يصل إلى سان دييغو حتى الآن.

تعليقات: