عامٌ مرّ على أم عفيف التي سلبها العدوان 11 حبيباً غالياً

بتول في منزل جدتها في عيناثا
بتول في منزل جدتها في عيناثا


إنها السادسة من بعد ظهر يوم الخميس. ترى، كم من خميس مر منذ يوم الرابع عشر من آب ,2006 تاريخ وقف الأعمال الحربية وفتح الأرض قلبها لاستقبال شهداء انتظروا طويلاً تحت ركام العدوان؟

السادسة من بعد ظهر الخميس، تتكئ أم عفيف، صاحبة المصاب «الشبيه بمصاب أهل البيت» كما تسميه، على عصاها وتنده على تغريد، ابنتها: «صار وقت نروح على الجبانة».

تحمل تغريد رزمة الورود التي قطفتها من أحواض الدار بيد، وتمسك بيدها الأخرى الطفلة بتول، ابنة مريم الشهيدة، ويسرن في موكب روتيني حزين إلى مقبرة عيناتا.

من كل مظاهر الحياة، أصرّت أم عفيف على الاستمرار بريّ ورودها: «كان الأولاد يحبونهم، ولازم يضلوا يشموهم».

على الطريق، تتخلّف أم وجدّة الشهداء الأحد عشر الذين قتلتهم إسرائيل في كل من عيناثا وعيترون ويارون، عن خطى تغريد وبتول قليلاً، لأنها فعلا، وكما يقال عنها في قريتها: «المصيبة كسرت لها ظهرها».

تبدو أم عفيف مكسورة الظهر. مكسورة القلب أساسا. تقطف تغريد في طريقها باقة غار وعيزقان (المعروفة بالمريمية) وتضيفها إلى زهورها، وتعطي زهرة وحيدة إلى بتول، ابنة السنتين والنصف، زهرة وحيدة مخصصة لقبر أمها.

عند مدخل المقبرة، تخرج أم عفيف من «عبّها» حزمة كبيرة من البخور، تعطيها لتغريد التي توزعها، موقدةً، على شواهد القبور، فتعبق الرائحة.

عندما تبدأ طقوس مجالس العزاء، تذوب خصوصية النساء الثلاث وأحزانهن بين الجموع المتلاقية، عند غروب كل خميس للقاء روحي وديني بالأحباب الشهداء.

عام على المجازر وعلى الدم الذي سفكته إسرائيل على امتداد الجنوب كان كفيلاً بإخراج بعض الأطفال من هول ما عانوه، وبتول واحدة من هؤلاء الأطفال. تضع الزهرة على قبر أمها وتبدأ بإيعاز من خالتها تغريد ـ وقد باتت تناديها «ماما» ـ بتلاوة الفاتحة عن روح «مريم»، مثلما تنادي الطفلة أمها بعد عام على استشهادها.

تنهي بتول الصغيرة فاتحتها، وتبدأ بـ«النطنطة» بين القبور. قبل عام، أمضت الطفلة مع أم عفيف وتغريد عشرة أيام إلى جانب جثة أمها مريم الشهيدة، وكان عمرها آنذاك سنة وستة أشهر.

عند السابعة من صباح كل يوم، تبدأ جلسة أم عفيف الصباحية عند عتبة الدار حيث «السطيحة» في فيء شجرة كبيرة كان أفراد العائلة يلتمون في ظلالها حول كبيرتهم. أضافت أم عفيف على «طقوس» الجلسة منديلاً أبيض تمسح به دموعها. غالباً ما تجلس بتول بالقرب من جدتها: «بتونس بريحة مريم فيها». بتول التي لا تنسى في كل جلسة أن تذكّر تغريد: «ماما، عيّطي لمريم على القهوة».

وتغريد دائمة الذهاب والإياب نحو مطبخ الدار، تحضر ركوة قهوة تلو الأخرى لنساء الضيعة وشبابها الذين ما انفكوا يمرون بأم عفيف في كل صباحية، يجالسونها ويواسون قلبها المتعب، ويسألون خاطرها: «كلنا أولادك يا أم عفيف».

«الله يخليكم لأهلكم يا ماما»، تجيب الأم التي أقفلت ثمانينيات العمر وهي ترد التراب على عفيف بكرها وعلى فايز ثاني أبنائها وزوجته ريما وأربعة أطفال، وعلى ابنتها زينب التي استشهدت بعيداً عنها في يارون مع طفلتيها، وطبعاً على مريم التي قتلوها بين يديها في صحن الدار، فسحبتها منذ عام إلى الداخل، وأبقتها جثةً إلى جانيها لعشرة أيام.

صعب أن تخرج صبيحة أم عفيف من إطار جلسة تتحول يومياً إلى ما يشبه مجلس العزاء. أضحت المنكوبات من نساء الضيعة يأتينها للتفريج عن حزنهن. تبدأ النسوة بالبكاء وتبدأ أم عفيف بالندب الخافت وبقصّ الذكريات.

كثيرة هي المرات التي تسأل فيها أم عفيف ابنتها تغريد عن هوية هذه الزائرة أو تلك. بالأمس، سألت عمن تكون جارتها التي تسكن في مقابل دارها: «عم حس إنه أمي مش عم تعرف حتى الجيران أحيانا»، تقول تغريد ، معبرة عن خشيتها على ذاكرة والدتها ووعيها.

لكن أم عفيف تعرف، ومن دون جهد كبير، أن فايز كان مفضلها والعزيز على قلبها. وحدها ذكراه و«المقالب» التي كان يفتعلها لتسليتها ولدفعها إلى مده بالمال، تعيد ابتسامة مكسورة إلى شفتيها. ابتسامة متبوعة دوما بنوبة نشيج حاد. لم يعد لبكاء المرأة الثمانينية صوت، أضحى قلبها عاجزاً عن تفريغ أحزانه. تختنق أم عفيف بنحيبها وتعود لتحمد الله الذي «لا يحمد على مكروه سواه».

بعد عودتها إلى القرية من نزوح ابتدأ في يوم الهدنة، بات صوت بائع المثلجات الوافد إلى القرية قاسياً على صدرها: «كان أولاد فايز يركضون من بيتهم لعندي ويقولوا يللا يا تيتا على البوظة». اليوم، تشتري تغريد بوظة لمريم من دون أن تدع أم عفيف تراها: «كتير بتحزن لمن بتشوف ولد عم ياكل بوظة». هي لا تنسى وجه علي وحمودي «ممرغين» بالمثلجات التي كانت تشتريها لهما: «كانوا يجوا يبوسوني ويلوتوا لي تيابي بوظة».

كما أبناؤه، كان فايز: «بس يطل الصبح ويعبطني ويبوسني، كنت اسأله خير إن شاء الله؟ شو بدك؟». وكان فايز دائماً يريد شيئاً. في موسم تسليم الدخان والقبض، كان يأتيها بمشروع. في موسم القمح، يأتيها بمشروع آخر. وفي كل أسبوع، هناك طلب مستعجل. في إحدى المرات، جاءها يريد 150 ألف ليرة: «قال ريما الصالح يا أمي عم تقول البراد فاضي، أنت بتقبلي هيك؟». ريما هي زوجته التي استشهدت معه.. «كنت أعطيه من كل قلبي، يا ريتني عطيته عمري ومتت بداله»، تقول وهي تستأنف بكاءها.

تبكي على أولاد فايز، على حمودي الذي كانت عيناه كعينيها. وكانت ريما، زوجة فايز، التي كانت تقول لتغريد في أيام خالية: «بكرا بس تموت مراة عمي، بتضلوا تشوفوها بعيني حمودي الزرق».

كانت أم عفيف، ككل الجنوبيين، تشمّر عن سواعدها مع أبنائها ما أن يطل الربيع، ويبدأون بشتل الدخان، مروراً بقطافه وصولاً إلى كروم الزيتون. من مواسم القطاف، تستعيد الكثير من الذكريات ومشهد علي ابن فايز وهو يطلب منها تشكيلته المفضلة من المناقيش. وتتذكر زينب «المحتالة» التي كانت تهرب من الموسم: «لأنها تكره الشغل بالدخان»، ولا تزورهم إلا «بين القطفة والثانية».

اليوم، تمتد حقول أم عفيف «حفرا نفرا». لم تعد المرأة الثكلى تطيق رؤية أرضها، وليس حراثتها فقط: «راحوا الغاليين يا بنتي، شو بيبقى لي من الأرض؟ كنت ازرع حتى هنّيهم، شو بدي بالزراعة بعد؟».

خرجت من مصــــابها بتمييل في القلب وإقفال في شريانه الأساسي ونشـــاف في شرايين البدن، وبـ«لسان مربوط» على مدى شهر تلى دفن الأحبة. قال الطبيب لأم عفيف حينها: «إبكِ يا حاجة وما تخبي بقلبك، ما تحصري».

تبكي وتأخذ بتول بين ذراعيها وتسألها: «وين مريم يا بتول؟».

«مريم صارت بالجنة»، تجيب الطفلة.

«إن شاء الله كلهم بالجنة يا تيتا»، تقول أم عفيف وهي تشدّ أكثر على حفيدتها.. التي تخوض دعاوى قضائية مع والدها، طليق مريم، من أجل الاحتفاظ بحضانتها.

تعليقات: