كامل مهنّا: من الانتساب للبؤر الثورية إلى الانضمام لمسيرة المجتمع المدني

الدكتور كامل مهنا
الدكتور كامل مهنا


يروي كتاب "ملحمة الخيارات الصعبة (من يوميات الدكتور كامل مهنا)" السيرة الذاتية لطبيب لبناني تميزت مسيرة حياته النضالية بأدواره الإنسانية المؤثرة من خلال خوضه غمار التجارب الحيّة، العميقة والغنية، تلك التي بذل ولا يزال يبذل، في سبيلها، كل طاقاته وبتسخير إمكانياته وأقصى جهوده، عاملاً على أن "تكون السياسة في خدمة الإنسانية وليس العكس". من هنا، جاء هذا الكتاب سجلاً يوثق لسيرة تقدم الكثير للمتلقي في جوانبها النفسية والسياسية والاجتماعية كافة.

وعلى حد قول المؤرخ الدكتور ابراهيم بيضون في مقدمته لهذا الكتاب، فإن هذه السيرة الفريدة هي لمناضل فريد، بصفته محارباً قديماً، قد نيّف على الستين من عمره، وما انفك يُراكم تراثاً من التحدي، دونما تهيّب من الخطر الذي عاشه بكل ألوانه وصنوفه وشروره".

كما أن محرر هذا الكتاب الصحافي شوقي رافع يُوضح في نصه التمهيدي له قائلاً: "إن هذه السيرة تكشف عن محطات في حياة كامل مهنا، انتقل فيها صاحبها من محاولة صنع البؤر الثورية الى المشاركة في مسيرة المجتمع المدني، هذه المسيرة التي كان كامل مهنا ولا يزال رائداً من روادها في لبنان".

تنهض هذه السيرة على الأضلاع المحكمة الترابط لثالوث القيم (المبدأ والموقف والممارسة) الذي حرّك كل حياة كامل مهنا، والتي ما زالت مراحلها مستمرة، بالطبع، خارج هذا الكتاب. إذ إن ترابط ثالوث القيم هذا استطاع أن يُماهى، في هذه السيرة ما بين العام والخاص، مماهاة تامة، في الأغلب الأعم، فقد أدى تفاعله الى إضاءة دروب العمل السياسي والاجتماعي لمهنا الذي يوضح في هذا الشأن: "إن هناك بيننا من يتبنى مبدأ معيناً، وهو حق لكل إنسان، إلا أن موقفه لا ينسجم مع مبدئه، ولكن من حقنا أن نحاسبه، وهناك بيننا من يتبنى مبدأ ويدعمه بموقف يتناسب معه، ولكن الممارسة العملية أحياناً تكاد تُطيح المبدأ والموقف معاً، وهناك بيننا العديد من الناس العاديين لا تنقصهم الممارسة الجيدة في سلوكهم وأفعالهم ولكن هذه الممارسة لا تخدم مبدأ ولا تصب في موقف، وأعتقد أن جميع أمراضنا الاجتماعية والسياسية هي حصيلة هذا التناقض الفاضح بين المبدأ والموقف والممارسة". وهذه هي بالضبط رسالة هذه السيرة التي يريد مهنا توجيهها الى الرأي العام اللبناني والعربي، والذي يتجلى مفادها مجتمعة، وعلى مدار النص السيري هنا العامر بالوقائع المترجمة عملياً، في سلوكات صاحب هذا النص، كما هي عامرة أيضاً ومن وجوه عدة، بالمقابل، بالضعف الإنساني النبيل.

ولد كامل أسعد مهنا في العام 1943، في بلدة الخيام، احدى قرى الجنوب اللبناني.

كان قد بلغ الخامسة من عمره عندما احتلت فلسطين، فترك هذا الحدث التاريخي الفاجع أثراً دافعاً في كيانه الوجداني والنفسي.

أنهى علومه الابتدائية والتكميلية في مدرسة الخيام الرسمية.

ولإكمال تعليمه انتقل الى مدينة صيدا حيث نال شهادة البريفيه من مدرستها التكميلية الرسمية، وشهادة البكالوريا من الثانوية الرسمية في "عين الحلوة".

انتمى كامل، في صيدا، الى القوميين العرب، لم يدخل في التنظيم، بل كان يشارك في المظاهرات والمسيرات والاضرابات دعماً للقضايا العربية القومية والوطنية، مع حركة القوميين العرب والناصريين، مما عرّضه في احدى المرات، للملاحقة من قبل مخابرات الجيش اللبناني، حيث دُهم في مكان سكنه وهدد بالحبس، وتلك كانت أول "مواجهة" له مع السلطة.

ثم انتقل مهنا من صيدا الى بيروت وفيها اكتشف أن لبنان الرسمي هو "العاصمة" وكل ما عداها أرياف. وفي بيروت انتسب الى ثانوية رمل الظريف، فنال شهادة الرياضيات.

كان في التاسعة عشرة من عمره عندما ركب سفينة ايطالية مغادراً الى فرنسا للتخصص في الطب، حاملاً معه هموم تحرير فلسطين الى هناك، لأنه القومي العربي، قبل كل شيء، والناصري الذي يؤمن بوحدة الأمة العربية من الخليج الى المحيط، فهو يكره الاستعمار والامبريالية ويرى أن تحرير فلسطين يجب أن يكون أولوية، لأن ذلك هو الهدف النهائي لكل ما نُناضل في سبيله.

محطته للسنة الدراسية الأولى في فرنسا كانت في الجامعة العريقة في مدينة "غرينوبل"، وقد بدأ نشاطه السياسي هناك على جبهة التنظيم الطلاب للطلاب اللبنانيين.

أحب فتاة فرنسية كانت زميلته في الجامعة، فحرضته على أن يقرأ لألبير كامو وسارتر وسان اكزوبيري، وفي نهاية ذلك العام، انتقل كامل الى مدينة "تور" لمتابعة التخصص في الطب، حيث فعّل نشاطه على جبهة العمل الطلابي، وقد شكل وزملاؤه لجاناً للتعريف بالقضية الفلسطينية وأنشأوا أول رابطة للطلبة اللبنانيين في "تور" وتم انتخاب كامل أميناً عاماً لشؤونها الثقافية. وفي تلك الأثناء كان كامل قد أصبح يسارياً راديكالياً، منتقلاً من القومية الى الأممية، مستأنفاً نشاطه الطلابي من "بوابة الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين"، كما عمل، وفي الوقت نفسه في دائرة "اتحاد الطلاب العرب" في "تور"، ذلك الاتحاد الذي قام كامل بإنشائه ورفاقه، وقد كان التنسيق بين "الرابطة" و"الاتحاد" أحد همومه الدائمة.

وانطلاقاً من قناعاته كان مع انطلاقة "ثورة الطلاب" في أيار/مايو من العام 1968 من جامعة "نانتير" بقيادة "كوهين باندت" وشارك كامل في أكثر من ندوة ولقاء فيها.

كما عمل على تحقيق قيام "اتحاد عام للطلبة اللبنانيين" في فرنسا وقد ضم جميع الروابط الطلابية اللبنانية هناك، وبما أن هذا الاتحاد كان نشاطه السياسي واضحاً ولافتاً فقد تعرض أعضاؤه ـ وخصوصاً كامل مهنا ـ للملاحقة من قبل رجال الأمن الفرنسيين.

وبسبب نشاطه السياسي البارز على الأرض الفرنسية، وصل الأمر الى حد طرده من الجامعة، وذلك عندما كان منهمكاً في التحضير لامتحاناته في السنة الخامسة لتخصصه الطبي.

فقد أصدر وزير الداخلية الفرنسية مرسيلان قراراً بطرد كامل مهنا من فرنسا باعتباره يشكل خطراً على أمنها، لذا أخطروه بأن "عليك مغادرة الأراضي الفرنسية نهائياً خلال 48 ساعة"، لكن قرار الطرد هذا، وما رافقه من حملات وتوقيع عرائض واعتصامات وضغوطات ديبلوماسية وسواها وخصوصاً ذلك الموقف الذي اتخذه عميد كلية الطب الذي كان كامل يدرس فيها، وهو البروفسور "ديبيكوا" الذي لم يُستشر أصلاً في إصدار هذا القرار.

أمضى كامل صيف ذلك العام في لبنان، ثم عاد الى فرنسا حيث وجد عملاً في مستشفى "لامان" لتأمين نفقات متابعة تخصصه.

كان الطلاب اللبنانيون في فرنسا وفي معظم ندواتهم التي يعقدونها يقدمون الدعم المعنوي للثورة المسلحة في اقليم ظفار (محافظة في سلطنة عُمان) ضد الاحتلال البريطاني، وعندما أرادوا دعم تلك الثورة مادياً كان لا بد لهم من إرسال أطباء وإعلاميين متطوعين الى المخيمات الفلسطينية وجمهورية اليمن الديموقراطية، وقد كانت الأحوال الصحية في ظفار سيئة جداً.

في صيف العام 1971، وبعد اجتماع عقدته في فرنسا لجنة "دعم الخليج"، قرر الطبيب كامل مهنا الالتحاق بالثوار في اقليم ظفار والعمل هناك لمدة ستة أشهر.

والتحق بقسم طب الأطفال مع متابعته العمل في مستشفى "لامان" ثم قدم أطروحته وتخرج طبيباً.

يوم 29 كانون الثاني/يناير لعام 1973، قصد لبنان، ثم غادر بيروت الى اقليم ظفار حيث تصدى لمعالجة قائمة طويلة من الأمراض التي كانت منتشرة هناك في تلك الفترة، ومن بينها: السل وحمّى التيفوئيد والملاريا وفقر الدم والجرب والرمد والطفيليات في الإمعاء وأمراض سوء التغذية والجُذام.

وذلك من ضمن تجربته التي اتصفت بـ"التنمية المدنية" في تلك البلاد.

عاد الدكتور مهنا الى بيروت وقد "كانت العيادة الخاصة أحد أحلامه، لكن ليس في منطقة راقية، بل في منطقة شعبية، فالفقراء هم قضيته، يمنحون حياته المعنى والهدف، ويمنحهم العلاج والدواء".

وانطلاقاً من ذلك فلقد كانت ساحات عمل كامل مهنا: بلدة الخيام، والمخيمات الفلسطينية والمناطق الشعبية اللبنانية، وكان في عمله في هذه المناطق يفيض بالسعادة، وفي الواقع كانت هذه كلها ساحة عمل واحدة لا تفصل بين الواحدة والأخرى سوى الجغرافيا.

ومن الخيام الى كفرشوبا الى كفرحمام الى راشيا الفخار جنوباً وصولاً الى حارة حريك ومخيم برج البراجة ومنطقة بئر حسن الى حي الفاكهاني في بيروت وضاحيتها الجنوبية ومن ثم الى برج حمود والنبعة وتل الزعتر في المتن الشمالي.

وفي ذلك الوقت تقدم الطبيب كامل مهنا الى امتحان التخصص في طب الأطفال في جامعة "غرينوبل" وفاز بالمرتبة الأولى.

وعندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، دخل مهنا هذه الحرب من موقعه كطبيب وترجم قناعاته السياسية من خلال المبضع، ومثل أي طبيب كان هذا المبضع هو سلاحه الميداني، ينتقل به بين المتاريس، متاريس المقاومة، ومتاريس الفقراء والمهجرين.

بعد سقوط منطقة النبعة وقبلها مخيم جسر الباشا وتل الزعتر انتقل مهنا الى منطقة الدامور التي كانت أرضاً شبه محروقة أيضاً بفعل الحرب وهناك واصل مهمته الطبية والاجتماعية.

وبعد أن اجتاحت القوات الإسرائيلية الجنوب اللبناني في العام 1978، وفي ظل ما خلفه هذا الاجتياح من مآسٍ، قرر مهنا إنشاء مؤسسة للرعاية الصحية للفقراء والمهجرين في كل أنحاء لبنان. وفي بداية العام 1979 أنشأ "مؤسسة عامل" لتعمل في إطار "الحركة الوطنية اللبنانية" وكانت هذه المؤسسة بمثابة التتويج لكل المؤسسات السابقة التي أنشأها أو ساهم في تأسيسها في لبنان. وهو يعتبر أن "عامل" هي أسرته الكبيرة "فهي الوطن كما يحلم به الأطفال"، الى جانب أسرته الصغيرة المكوّنة منه ومن زوجته وأولاده: زينة وأسعد ومريم ونور. وكان قد استشهد ابنه البكر بشار في حادث مفجع في العام 1992.

"ملحمة الخيارات الصعبة" هي كذلك فعلاً إذ "عانق" فيها مهنا الموت أكثر من مرة في تأدية واجبه الإنساني خصوصا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. ويقول عن رحلة حياته العامرة بالمشقات والعطاءات: "لقد رفضت، دائماً، الانتماء الى أي حزب أو تنظيم سياسي، مع العلم أنني واجهت إلحاحاً، بل ضغوطاً، ولكنني لم أفعل، كنت في فرنسا قريباً من الخط السياسي للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، ومن منظمة العمل الشيوعي في لبنان، ولكنني لم أنتسب الى أي من المنظمتين، لقد عملت مع الجبهة الديموقراطية ولكن في إطار مهني، كنت مستقلاً الى حد التطرّف، خشية من أن يفرض عليّ قرار يخالف قناعاتي وأقوم بتنفيذه مضطراً، وهذا الخوف على الاستقلال الفردي، كان يعزز لدي الإقدام على المبادرة، وأحياناً الى حد المغامرة، فلم أكن مسؤولاً إلا تجاه نفسي، أُحاسبها أو أُعاقبها، بعيداً عن أي رقابة غير رقابتي الذاتية".

ملحمة الخيارات الصعبة (من يوميات الدكتور كامل مهنا)

[ تحرير شوقي رافع

[مراجعة وتقديم د.ابراهيم بيضون

[455 صفحة من القطع الوسط

[دار الفارابي ـ بيروت ط.أولى 2010

---------------------------

السبت 16 تموز 2011: الحفل السنوي لمؤسسة عامل

الدكتور كامل مهنا مع بعض أفراد عائله عند تكريمه في السفارة الفرنسية
الدكتور كامل مهنا مع بعض أفراد عائله عند تكريمه في السفارة الفرنسية


بطاقة الحفل السنوي لمؤسسة عامل
بطاقة الحفل السنوي لمؤسسة عامل


تعليقات: