التضخم العقاري في لبنان: ضرب الاقتصاد والديموغرافيا

يسعى مصرف لبنان إلى الحفاظ على استقرار الأسعار من أجل التحكم بمستوى السيولة (هيثم الموسوي)
يسعى مصرف لبنان إلى الحفاظ على استقرار الأسعار من أجل التحكم بمستوى السيولة (هيثم الموسوي)


لطالما أظهر القطاع العقاري في لبنان، الذي يعدّ أحد أبرز الأسواق المفتوحة في الشرق الأوسط، مرونة عالية وقدرة كبيرة على الثبات في وجه الظروف السياسية والتحديات الأمنية على الساحة المحلية، وتخطي التبعات السلبية المترتبة عن العوامل الخارجية والتغيّرات المتلاحقة على الصعيدين الإقليمي والعالمي. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، شهدت مبيعات العقارات وتراخيص الإنشاء نمواً سنوياً ملحوظاً بمعدل 17,6% و12,6% على التوالي.

ويواصل الطلب على العقارات ارتفاعه بالتزامن مع نمو أعداد المقيمين والمغتربين العائدين إلى لبنان، فضلاً عن الأجانب وبالأخص من الجنسيات العربية الذين يتطلعون بنحو متزايد إلى الاستثمار ضمن السوق العقارية المحلية.

يمكن القول إنّ القطاع العقاري اللبناني كان نسبياً بمنأى عن التبعات غير المباشرة للأزمة المالية العالمية التي أثّرت سلباً على الأسواق العقارية الأخرى في العالم العربي. وتعود المرونة العالية التي أظهرها القطاع العقاري المحلي في مواجهة الأزمة الاقتصادية بصفة أساسية إلى الحفاظ على العوامل الدافعة للطلب على العقارات، وبالأخص خلال مرحلة ما بعد الأزمة، ما نتج منه تزايد الحاجة إلى المزيد من الاستثمارات العقارية. كذلك هناك القوانين والسياسات الصارمة المتبعة لدى المصارف اللبنانية، والمتعلقة بالإقراض للقطاع العقاري التي ساهمت إلى حد كبير في التخفيف من تأثير المضاربات على نشاط القطاع، في ظل غياب الفقاعة العقارية كتلك التي شهدتها الأسواق الخليجية الرئيسية. ويتوقع أن يشهد لبنان اتجاهاً تصاعدياً على مستوى الطلب على العقارات، وازدياداً ملحوظاً في جاذبية الفرص الاستثمارية المتاحة ضمن القطاع المحلي، خلال المرحلة المقبلة.

عند النظر إلى لبنان من منظور اقتصادي، نجد أنّه يتميز بموقع جغرافي واستراتيجي يعوّض افتقاره إلى الموارد الطبيعية. ومن جهة أخرى، يقوم المغتربون اللبنانيون في مختلف أنحاء العالم بدور إيجابي في هذا الإطار، من خلال تحويلاتهم المالية الهائلة التي تدعم الاقتصاد المحلي. ولعلّ أبرز ما يميز الاقتصاد اللبناني كونه قائماً على الخدمات، لا سيّما في ما يتعلق بالقطاع المصرفي والتسهيلات المالية وحلول التداول. وساهمت سوق العملات الحرّة في تعزيز مكانة الدولة مركزاً رائداً للتجارة والسياحة في المنطقة، خلال مرحلة ما قبل الحرب. وتمكن لبنان من استعادة هذا الدور الحيوي مرة أخرى في فترة ما بعد الحرب. وتعد الزراعة عاملاً هاماً في تعزيز الاقتصاد اللبناني، إذ تمثل نحو 38% من حجم الاقتصاد الوطني. ولطالما أدت الحكومة اللبنانية دوراً هاماً في دفع عجلة النمو الاقتصادي، عبر اتخاذ سلسلة من الاجراءات، مثل بدء تطبيق جدول زمني لمشروع ضريبة الدخل المنخفضة، بهدف توفير المزيد من الحوافز المشجعة على الاستثمار وزيادة الدخل المتاح وتوسيع القاعدة الضريبية.

عانت السوق العقارية المحلية في الآونة الأخيرة سلسلة من الأحداث الداخلية المؤلمة والمشاحنات السياسية المتواصلة والانتهاكات الأمنية، بين 2003 و2007، فضلاً عن حرب دامت على مدى خمسة أسابيع. ومع تسوية الأوضاع الأمنية والسياسية في لبنان، عقب اتفاق الدوحة في أيار/ مايو 2008، تزايد النشاط العقاري ووصل إلى أعلى مستوياته، وارتفعت مؤشرات العرض والطلب لتعكس بذلك مرونة القطاع في مواجهة التحديات المختلفة. وعلى مستوى الطلب، سجلت القيمة الإجمالية لمعاملات بيع العقارات نمواً سنوياً بنسبة 17,6%، خلال الفترة الممتدة بين 2003 و2008. ومن ناحية العرض، شهد القطاع العقاري ارتفاعاً ملحوظاً على صعيد استصادر تراخيص البناء بمعدل 12,6% سنوياً، خلال هذه الأعوام الخمسة، فيما ازداد عدد شحنات الإسمنت، التي تعد مؤشراً ثابتاً على نشاط البناء والإنشاء، بمعدل وسطي بلغ 9,2% سنوياً بين 2003 و2008. ويظهر التراجع الإقليمي في قيمة مبيعات العقارات أنّ العاصمة بيروت، والمناطق المحيطة بها، استحوذت على ما يزيد على 52,4% من إجمالي المبيعات العقارية في لبنان.

حقائق وقوانين، إحصاءات وتحليلات

كان لمصرف لبنان المركزي في الماضي دور حيوي في سن قوانين وتشريعات تضمن استقرار السوق اللبنانية وبالأخص العقارية. ومثّل عام 2009 مرحلة هامة بالنسبة إلى القطاعين العقاري والمالي. وعلى الرغم من التوقعات المسبقة بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنحو 4% في العام ذاته، نتيجة الركود الاقتصادي العالمي، تمكن الاقتصاد اللبناني من تحقيق نمو حقيقي بلغ 9%، مترافقاً مع تسجيل معدلات التضخم نحو 3% مقارنةً بـ11% في 2008.

في 20 آذار/ مارس 2001، أقر مجلس النواب اللبناني تعديلات على القانون المتعلق بتملك الأجانب للعقارات في لبنان، الذي اقترحه في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2000 مجلس الوزراء. ويضم القانون الأصلي بعض القيود، إذ حدد حق الأجانب بشراء 5% فقط من الأراضي في كلّ محافظة، فيما يسمح لهم القانون الجديد بتملك 3% من المساحة الإجمالية في لبنان، بغض النظر عن الموقع الجغرافي، بشرط عدم الحصول على أكثر من 3% من المساحة الإجمالية للقضاء. وحدد القانون استثناءً واحداً يتمثل في بيروت، حيث يمكن الأجانب تملك ما يصل إلى 10% من إجمالي مساحة العاصمة كلها.

ويحظى الأجانب حالياً بفرصة تملك 3,000 متر مربع، دون الحاجة إلى صدور مرسوم بهذا الشأن عن مجلس الوزراء. وفي حال الحصول على تصريح بتملك أرض لتنفيذ مشروع معين، لا بدّ عندئذٍ من تنفيذه خلال خمس سنوات، مع إمكانية تمديد هذه الفترة لمرة واحدة فقط، ولمدة خمس سنوات إضافية عند الطلب. ويسمح القانون للأجانب بشراء أكثر من 3,000 متر مربع بموجب مرسوم صادر عن مجلس الوزراء.

وفي السياق ذاته، اقترحت الحكومة اللبنانية خفض رسوم تسجيل العقارات إلى 5,8% للمستثمرين اللبنانيين والأجانب على السواء. وتشمل رسوم التسجيل رسم البلدية البالغ 0,25%، ورسم الطوابع البالغ 0,3%، ورسم نقابة المحامين 0.1%، ورسماً إضافياً بقيمة 0.1% إذا جرت عملية التسجيل في أحد مكاتب كتاب العدل، وليس في السجل العقاري (تضيف هذه الرسوم ما يصل إلى 0,75% من رسوم التسجيل البالغة 5,8% التي بقيت ثابتة دون أي تغيير). وبالتالي، خُفضت رسوم التسجيل، الصافية من الرسوم الإضافية، بنسبة 1% للمستثمرين اللبنانيين، و11% للمستثمرين الأجانب.

يتمتع لبنان بالعديد من نقاط القوّة بوصفه سوقاً حرة ومنفتحة، تتخللها سلسلة من النشاطات التي تحكمها الاحتياجات الحقيقية أكثر من المضاربات، فضلاً عن الغياب النسبي للاتجاه التنازلي في أسعار العقارات. لكن بالتأكيد هذا لا يعني عدم وجود بعض نقاط الضعف المتعلقة بالمناخ السياسي المتقلب، وتذبذب أسعار مواد البناء الأولية والوحدات العقارية. وفي الوقت ذاته، يوجد العديد من الآفاق الاستثمارية والفرص الواعدة في ظل نمو الطلب مع عودة المغتربين، ومواصلة توافر التمويل المصرفي، والانخفاض النسبي في الأسعار على نطاق الأسواق الإقليمية والناشئة. وتبقى هناك بعض التهديدات التي تعوق مسيرة تنمية القطاع العقاري، والمتمثلة بالدرجة الأولى في الجمود السياسي الداخلي، والاضطرابات الأمنية المتفرقة.

السوق العقارية ومحركات نموها

هناك ثلاثة روافد رئيسية للطلب ضمن السوق العقارية في لبنان. فهناك الطلب الأجنبي الناجم عن غير اللبنانيين، وبالأخص الجنسيات العربية، والطلب المحلي اللبناني من المواطنين، والطلب النابع من المغتربين اللبنانيين. شهد الطلب العقاري من ذوي الجنسيات العربية تحوّلاً ملحوظاً نظراً للعديد من العوامل، بما فيها أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، في الولايات المتحدة الأميركية. ومن جهة أخرى، توجّه كلّ من المغتربين اللبنانيين والسكان المحليين نحو طلب المزيد من العقارات في الوطن الأم.

تضم السوق العقارية اللبنانية قطاعين رئيسيين، هما القطاع السكني أو ما يعرف بسوق الإسكان، والقطاع التجاري الذي يشتمل على المكاتب والمساحات المخصصة لتجارة التجزئة.

حقق القطاع العقاري في لبنان أداءً إيجابياً على مدى السنوات القليلة الماضية. وشهد القطاع موجات متتالية من ارتفاع قيمة العقارات في العاصمة بيروت والضواحي التابعة لها، التي نتجت بصورة رئيسية من الطلب القوي عقب عودة الاستقرار السياسي والأمني إلى الساحة اللبنانية في 2008. والجدير بالذكر أنّ الطلب المتزايد في خضم الأزمة المالية العالمية ساهم في زيادة المخزون الحالي من العرض.

النتائج

شهد لبنان في 2008 مرحلة من الاستقرار الأمني والسياسي في أعقاب اتفاق الدوحة. وفي ذلك الحين، كشف رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المركزي، عن توقعاته بوصول مستويات التضخم إلى 10 إلى 13%، ما قد يساعد في خفض معدلات الفائدة. وأشار سلامة إلى أنّ المصرف المركزي أصدر التعميم الوسيط الرقم 177 الذي يُلزم البنوك اللبنانية بالحد من معدلات الإقراض إلى 60% من قيمة العقار، أو تكلفة المشروع العقاري لتجنب حدوث فقاعة أسعار العقارات.

استناداً إلى توقعات حاكم المصرف المركزي وبالنظر إلى كل المعلومات المتاحة في الوقت الراهن، يمكننا القول إنّ التضخم العقاري في لبنان ينطوي على تأثير سلبي على الودائع ومعدلات الفائدة المصرفية، والأهم من ذلك على كفاية رأس المال، نظراً لحالة الإشباع المالي في البنوك المحلية، الأمر الذي يدفعهم إلى بيع بعض الديون أو الأسهم للبنوك الأجنبية، ما يعد سيئاً للغاية.

ومن ناحية أخرى، يسعى مصرف لبنان المركزي إلى الحفاظ على استقرار الأسعار، وذلك في إطار جهوده الرامية إلى التحكم بمستوى السيولة في السوق للحيلولة دون ارتفاع معدلات التضخم المحلية التي قد تُضاف إلى التضخم المستورد.

توصيات

سنعرض في هذا القسم بعض التوصيات العامة التي من شأنها الحد من التضخم العقاري، أو ما يعرف باسم «فقاعة أسعار العقارات»، في لبنان. وسنتناول في القسم التالي، مناقشة معمقة حول السياسة العامة وأبرز المبادرات الحكومية الفاعلة في الحفاظ على استدامة نمو السوق العقارية المحلية.

يوجد الكثير من المبادرات والخطوات التي يمكن أن تتخذها الحكومة اللبنانية للحد من التضخم العقاري. لكن في البداية لا بدّ لها من اتخاذ إجراءات صارمة دون النظر إلى اعتراض أو رضا المضاربين العقاريين أو المشترين غير المسؤولين عن هذه التدابير. وفي ما يلي بعض الإجراءات المقترحة.

* توّجه مصرف لبنان المركزي نحو اعتماد سياسة نقدية تركز مباشرة على أسواق العقارات. إذ في الوقت الذي شهدت فيه العقارات زيادة كبيرة تجاوزت المعدل السنوي المحدد عقب التعديلات الناتجة من التضخم، ارتفعت أسعار الفائدة على التمويل العقاري، ما تسبب في زيادة المعوقات المرتبطة بالحصول على قروض الرهن العقاري. ونتيجة لذلك، سيتباطأ الطلب على الوحدات العقارات وتنخفض الأسعار قبل إحداث فقاعة عقارية. ومن جهة أخرى، عندما تنخفض أو ترتفع أسعار العقارات في المنطقة بأقل من المعدل السنوي المحدد، عقب التعديلات المرتبطة بالتضخم، ستنخفض أسعار الفائدة الحقيقية للتمويل العقاري لتصبح بذلك قروض الرهن العقاري أكثر واقعية، مما يخلق بيئة مشجعة على الشراء لتعزيز نمو القطاع العقاري المحلي.

* فرض الضرائب العقارية وفق القيمة السوقية العادلة المحددة وفق سعر البيع الأخير، بدلاً من القيمة المقدرة. إنّ الاستناد إلى أسعار البيع أساساً للضرائب العقارية سيخفض الطلب السائد في النموذج الراهن. ويعود ذلك إلى حقيقة أنّ القيم المقدرة غالباً ما تكون أقل بكثير من معظم أسعار البيع الحالية، خصوصاً أنّ الحكومة لم تقم بإعادة تقييم قيمة العقارات على مدى السنوات العشر الماضية، نظراً لمحدودية الموارد وانعدام الرواج. ويترتب على هذه الظروف تباطؤ النمو السنوي في قيم العقارات الإقليمية، لأنّ المشترين المحتملين سيصبحون أقل استعداداً لدفع التكاليف الباهظة بعد أن يدركوا أنّ مثل هذه التكاليف لن تكون لمرة واحدة فقط في ظل ارتفاع ضرائب عقاراتهم استناداً إلى القيمة السوقية العادلة الجديدة.

* تنظيم الأسعار الجديدة. لا بد من إلزام المقاولين الجدد بتضمين سعر المبيعات المتوقعة وتكلفة الإنشاء لكلّ وحدة عقارية في طلبات الإقراض الخاصة بهم، ويمكن تعديل كل منهما حسب الحاجة عندما تتوفر المزيد من البيانات المتعلقة بتكاليف البناء غير المتوقعة وغيرها. ومن ثمّ ستصبح الفائدة على صلة مباشرة بهامش الربح بمعدل يتجاوز 15%. ويمكن القول بأنّ زيادة هامش الربح عن نسبة مئوية محددة ستترافق مع ارتفاع معدل الفائدة، مما سيسهم بدوره في تأجيل ارتفاع هوامش الربح إلى الحد الأعلى التي تتسبب في حدوث الفقاعة العقارية.

* القضاء على «التقليب» (Flipping) الذي يعد السمة الأخطر للفقاعة العقارية، إذ يتسبب في تذبذبات كبيرة وعشوائية بقيم العقارات، ما يؤكد ضرورة مواجهة هذه الممارسة السلبية. لذا يجب تطبيق قانون التملك لمدة سنتين حداً أدنى على كافة مشتري العقارات السكنية. كذلك ينبغي فرض ضرائب تصحيحية على المضاربين الذين يعمدون إلى شراء العقارات بهدف التقليب العقاري فقط، الذي ينطوي على تملك العقارات لفترة زمنية وجيزة جداً، قبل بيعها مجدداً بغرض الربح السريع. وبهدف التأكد أنّ هذه الحقائق ليست مكافأة للمضاربين على جهودهم الرامية إلى خلق فقاعة عقارية، يجب العمل على إخضاعهم لضريبة بنسبة 100% على كل الأرباح الناتجة من سعر المبيعات المخصومة من سعر الشراء. ويمكننا القول بأنّنا في حال وصولنا إلى مرحلة تكون فيها التكاليف متناسبة مع الفوائد المترتبة عن الفقاعة العقارية عبر التقليب، نستطيع عندئذٍ القضاء على هذه الممارسات السلبية.

* اعتماد الائتمان المسؤول بمعدلات ثابتة. يجب أن تستند الموافقة على الائتمان إلى قدرة الشخص على الدفع، على أن يكون لهذا الائتمان معدلات ثابتة. إذ لا يمكن منح قروض الرهن العقاري بناءً على منهجية التصنيف الائتماني المنخفض، لا سيما أنّ مثل هذه الممارسات الحالية تعطي انطباعات خاطئة تدفع الناس إلى شراء العقارات بأسعار عالية لا يمكنهم تحملها لاحقاً، ما يتسبب في زيادة الطلب وارتفاع قيم العقارات دون داعٍ. وجاءت النتائج المترتبة عن ارتفاع معدلات الائتمان سلبية للغاية، وأدت إلى عدد لا يحصى من حالات حبس الرهن العقاري، لتصبح بذلك المصارف الجهة المالكة للعقارات. وبالتالي نصل في نهاية المطاف إلى حالة من الأزمة الائتمانية والمصرفية التي تنطوي على مخاطر عدة على الاقتصاد اللبناني.

خلاصة القول أنّ هذه الإجراءات في الواقع ضرورية للغاية. إذ إنّنا في حال استقرار السوق العقارية وانخفاض المخاطر المرتبطة بفقاعات أسعار العقارات في المستقبل، سنتمكن من بناء اقتصاد متين وخلق بيئة استثمارية صحية تلبي متطلبات المستثمرين والسوق المحلية على السواء.

دوافع التدخّل الحكومي الفوري والسريع

رأينا آنفاً أنّ العاصمة اللبنانية بيروت تستحوذ على ما يزيد على نصف إجمالي المبيعات العقارية في لبنان، بمعدل 52,4%. لكن هذه الحقيقة للأسف لا تعد ظاهرة صحية على الإطلاق في ما يتعلق بالاقتصاد الوطني ككل. ومن هنا ينبغي للحكومة اتباع مجموعة من الخطوات لإعادة التوازن وتوزيع النشاط ضمن السوق العقارية بالتساوي بين مختلف المناطق اللبنانية، ونذكر منها زيادة الضريبة العقارية في العاصمة بيروت لتصل إلى 30% على كل من الإيجار والتملك. وبالتالي، سينخفض الطلب تلقائياً في بيروت ويرتفع في المناطق الأخرى. ومن خلال هذه الخطوة، ستتمكن الحكومة اللبنانية من حماية العاصمة من فقدان هويتها الأصلية، نظراً لحقيقة كونها مشبعة من الناحية العقارية في الوقت الراهن.

التدخل الحكومي يتيح إعادة النظر فوراً بالمساواة بين المواطنين اللبنانيين والأجانب على مستوى دفع الضرائب. إذ لا يمكن قبول حقيقة أنّ تكون الضريبة المفروضة على المواطن والمغترب اللبناني مساوية لتلك المفروضة على غير اللبنانيين من عرب وأجانب. فإذا كان اللبناني يدفع 30% ضريبة في العاصمة بيروت، يجب على غير اللبناني دفع 40% أو 50%. وفي المناطق الأخرى التي تصل فيها الضريبة العقارية المفروضة على اللبناني إلى 5,8%، ينبغي لغير اللبناني دفع ضعف هذا المعدل على الأقل أي نحو 12%.

كذلك يجب مراجعة القانون الرقم (360) بشأن تملك الأجانب للعقارات في لبنان من البداية، إذ لا توجد أية حصة نسبية للسماح لأي عربي أو أجنبي بالتملك. وهنا ندعو الحكومة اللبنانية إلى إعادة دراسة القانون وكل مادة وكل بند متعلق بأي أجنبي راغب بشراء عقارات في لبنان. يجب عدم التمييز بين «وسط بيروت التجاري» (BCD)، المعروف باسم «السوليدير» (Solidere)، والمناطق الأخرى، وبالتالي ينبغي ألّا يكون لها قوانين وتشريعات خاصة بها فقط. تقع منطقة «وسط بيروت التجاري» في قلب العاصمة، لذا لا بد من أن تكون خاضعة للقوانين والتشريعات المطبقة على كل المناطق التابعة لبيروت. ومن هنا، يقع على عاتق الحكومة اللبنانية اتخاذ إجراءات صارمة في هذا الصدد.

هناك تعديل هام على الدستور الجديد الصادر عن اتفاق الطائف في 1989، يتمثل في اللامركزية الإدارية. واستناداً إليه، يجب تقسيم قيمة العقارات وفق المنطقة بالتساوي بين مختلف المناطق اللبنانية. وبالتالي، بدلاً من تقسيم الحصص بناءً على المعدلات الحالية البالغة 52,4% للعاصمة بيروت، و19,2% للمتن، و12,3% لكسروان، و6,8% لشمال لبنان، و5,8% لجنوب لبنان، و2,9% للبقاع و0,6% للمناطق الأخرى، وإذا أردنا بناء اقتصاد صحي، فلا بدّ من العمل على إعادة توزيع هذه القيم العقارية بنحو أفضل في مختلف أنحاء لبنان. ولكي نكون قادرين على تطبيق هذا الاقتراح، يجب على الحكومة اللبنانية التنسيق مع مصرف لبنان المركزي لزيادة الضريبة العقارية المفروضة في منطقة بيروت، وخفضها في المناطق الأخرى. ويمكن القول إنّ الضريبة العقارية النسبية التصاعدية أصبحت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى.

تمثل هذه الشروط الخمسة من وجهة نظري الشخصية الركيزة الرئيسية لحماية السوق العقارية اللبنانية والاقتصاد الوطني بصفة عامة من التذبذب والتخريب الذي بات واضحاً، وبالأخص خلال السنوات الخمس الأخيرة. وفي حال مواصلة الاتجاه السائد منذ خمس سنوات إلى الآن، سيتحوّل المواطنون اللبنانيون إلى أجانب، ليصبح الأجانب من مختلف الجنسيات مالكي العقارات في لبنان.

خاتمة

على الرغم من الأداء الإيجابي الذي حققه الاقتصاد اللبناني منذ 2008 على مستوى النشاط السياحي والمصرفي والعقاري، لا تزال هذه القطاعات الثلاثة، وبالأخص القطاع العقاري، بحاجة إلى التكيّف بطريقة علمية وواقعية مع المتغيرات الإقليمية والدولية. ويجب تمكين كلّ من المواطنين والمقيمين والمغتربين اللبنانيين من الإقامة في بلدهم، ومعاملتهم بطريقة لائقة، وتزويدهم بأفضل الخدمات والتسهيلات، لا سيّما في ما يتعلق بتسديد الضرائب على العقارات وغيرها من القضايا ذات الصلة بالسوق العقارية.

ولا بد من إعادة النظر بالقوانين والتشريعات، وبالأخص القانون الرقم (360) بشأن تملك الأجانب، ودراستها بطريقة معمقة فضلاً عن التعلم من تجارب الدول المجاورة لتجنب ارتكاب أخطاء مماثلة قد تؤدي إلى نتائج سلبية على الاقتصاد والمجتمع اللبناني على السواء.

ومن جهة أخرى، يجب تزويد المواطنين اللبنانيين بفرص متساوية لتملك أو استئجار العقارات في مختلف المناطق اللبنانية. والأهم من ذلك، لا بدّ من تمييز اللبنانيين عن الأجانب ومنحهم الأولوية من قبل الحكومة المحلية التي يجب عليها التدخل والقيام بدور فاعل في سن التشريعات، ووضع خطط وسياسات عامة جديدة تلبي احتياجات مختلف شرائح المجتمع ومتطلباتها.

* باحث ومستشار في السياسات العامة، مؤسس «المبادرة المدنية للإصلاح العام في لبنان» (CIPRIL)

تعليقات: