المعجنات الإيطالية.. قصة حب عبر التاريخ

المعجنات الإيطالية.. قصة حب عبر التاريخ
المعجنات الإيطالية.. قصة حب عبر التاريخ


المعكرونة الغاضبة والسباغيتي «الشقية»

روما:

من «نهفات الحماصنة» نكتة قديمة يتداولها أهل مدينة حمص السورية عن الزوج الذي يسأل زوجته: هل لدينا الحليب؟ فترد الزوجة بالإيجاب، ثم يسألها: عندنا عسل؟ فترد بنعم وعندها يقول الزوج: إذن حضري لنا المعكرونة. أما في إيطاليا فالأزواج يتوقعون من زوجاتهم طهي المعجنات يوميا، فالطبق الأول على مائدة الغذاء يجب أن يحتوي على المعكرونة أو السباغيتي أو الريغاتوني أو البوكاتيني أو الفتوتشيني أو اللازانيا وغيرها من أطباق المعجنات التي تفوق 270 صنفا.

تصنع المعجنات الإيطالية من دقيق القمح القاسي أو السميد بعد مزجه بالماء، وهي طريقة معروفة منذ عام 1154 حين وصفها الرحالة المغربي المعروف الإدريسي أثناء دراساته الجغرافية لجنوب إيطاليا، حيث استقر العرب في جزيرة صقلية لمدة تقارب 250 عاما. تعتمد نوعية المعجنات وجودتها على أصناف القمح القاسي وحجم الحبة ونوعية الماء وكميته أثناء الغلي وكذلك معدن وعاء الطهي. وهناك نوعان رئيسيان من المعجنات: الطازجة (باستا فريسكا) خاصة تلك التي تحضرها ربات البيوت، والتي اختفت تقريبا ما عدا بعض الأنواع كالتورتيليني والرافيولي، والنوع الثاني هو المعجنات الناشفة (باستا سيكا) الصناعية، وتحتاج لغليها بالماء لمدة عشر دقائق. أهل إيطاليا مولعون بتناول المعجنات ويبدلون أشكالها وحجمها لتتناسب مع الصلصة المضافة إليها؛ فهناك السباغيتي الرفيعة والعادية والسمينة (لينغويني) والمعكرونة السميكة بما فيها النوع القصير (بيني) والطويل (ريغاتوني) والشكل الأسطواني الدقيق والعريض بما فيه النوع الأملس والنوع المجرح والفتوتشيني المسطح بسمك 2 سم والتاياتيلي بعرض 4 سم، والمعجنات بشكل فراشة (فارفالي) أو بشكل لولبي (فوسيلي).

لا يمكن لأي طباخ في إيطاليا أن يتخرج من دراسته ويحمل إجازة الطهي ويلقب بالشيف إلا إذا أتقن طهي المعجنات، لذا لجأت لاستشارة أحد الطهاة المعروفين في روما للتنور برأيه حول هذا العالم المتسع من المعجنات وكأننا نتحدث عن أنواع السجاد العجمي. سألت أنطوني جينوفيزي الشيف المعروف في مطعم راق «باليتشاو» (المهرج) بوسط العاصمة الإيطالية الذي لا يفارق عرينه أي المطبخ: ماذا تفضل من وصفات الباستا؟ فأجاب: الرافيولي (الوسائد المحشوة) المحشوة بسمك الحبار (سيبيا أو cuttlefish بالإنجليزية) مع حبره الأسود في الصلصة. وحين استفسرت منه عن طريقة الطهي أجاب بغموض مازحا: «وهل تريد أن تعرف سر المهنة؟ المهم أن الباستا المحشوة تستعمل عادة في الاحتفالات والمناسبات المهمة وتحافظ على الصفة المميزة للسمك وهي كونه طازجا». ثم ذهبت إلى مطعم آخر «كينابي»، وفضلت سؤال النادل الشاب فرانشسكو سكيوسكو من جنوب إيطاليا: ما هي نصيحتك لي في اختيار صحن المعجنات؟ فقال بحماس ظاهر: «أنصحك بصحن من مدينتي باري في الساحل الجنوبي ففيه الثوم والفلفل الأحمر الحار والقرنبيط وشكل الباستا الناشفة اللولبي المتعرج (فوسيلي) بطول 4 سم وعرض نصف سم يسمح بامتصاص أكبر للصلصة، مما سيجعلك تحس بحسن مذاق الخليط النباتي وطعم خضار الجنوب المميز». أما الشيف كلاوديو دارجولي في مطعم أرماندو قرب نصب البانتيون الأثري في روما فهو ابن صاحب المطعم المحبب للكاتب، جان بول سارتر، أثناء زياراته لروما، وقد اختار صنع الباستا الطازجة بيده من مزيج من الماء والدقيق والبيض، ويعرف في شمال إيطاليا باسم تاليوليني وهو نوع من المعجنات العريضة التي تشبه السباغيتي لكن عرضها يبلغ 2 سم وسمكها لا يتعدى 2 ملم، وصحنه المفضل هو التاليوليني مع الهليون والصنوبر والرمان، أما الجبن المرافق بيكورينو فيجب أن يأتي من حليب الغنم في مقاطعة باسيليكاتا في أقصى جنوب البلاد، وسبب اختيار هذا النوع من المعجنات أن الطازج منها يسمح بأكبر قدر من الامتصاص ويفوق امتصاص الباستا الناشفة الصناعية، كما أن إضافة البيض ضروري أحيانا لتحسين تماسك العجينة.

أما إذا أردت أن تتذوق المعجنات كما تطهيها سيدات المنزل فهناك مطعم صغير قرب ساحة نافونا في روما يعرف باسمه الغريب، وهو «الساحرات»، لأنه مملوك من قبل ثلاثة أخوات: باولا ولينا ومانويلا، فالأولى تختص بالأطباق التقليدية لمطبخ روما، وأكلتها المفضلة هي «المعكرونة الغاضبة» من نوع بيني، وهي معجنات أسطوانية فارغة مجرحة penne all’arrabbiata وتسمى بالغاضبة لوفرة الفلفل الأحمر الحريف مع الطماطم والثوم، أما الثانية فاختصاصها الأطباق المبتكرة الحديثة لكن أكلتها المفضلة هي «السباغيتي الشقية» وتسمى بالإيطالية spaghetti alla puttanesca فهي تحوي بالإضافة إلى السباغيتي العادية صلصة الطماطم الناضجة وسمك الأنشوفة الصغير (الشبيه بالسردين) وحبات من الزيتون الأسود الصغير من بلدة غايتا القريبة والقبار (أو الكبر) والثوم والبقدونس والفلفل الأحمر الحار، والوصفة معروفة في روما ونابولي لكنهم لا يستخدمون سمكة الأنشوفة هناك، ويشاع أن اسم الوصفة سببه أنها كانت تقدم في البيوت المشبوهة في نابولي لزبائن العاهرات، بينما يعتقد البعض أنها وصفة لا يعرف منشؤها؛ فهي محتارة بين روما ونابولي ولا أحد يعترف بأبوتها.

* الباستا تعني إيطاليا

* المعجنات والباستا هي رمز حي لإيطاليا ولمطبخها اللذيذ، وقد اعترفت منظمة اليونيسكو الدولية منذ شهرين بأن السباغيتي مع الطماطم تراث إنساني يصنع في إيطاليا، كما أن اجتماع المنظمة في نيروبي في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وافق على اعتبار المأكل المتوسطي تراثا للإنسانية جمعاء؛ باعتباره صحيا ومتوازنا، لكن تبني هذا القرار لم يكن سهلا؛ فبينما أيدته إيطاليا واليونان وإسبانيا والمغرب عارضته ألبانيا، وبعد مناقشات طويلة تم تبنيه، ورحب وزير الزراعة الإيطالي جان كارلو غالان بهذه الخطوة التي وصفها خبير التغذية ميكيله كاروبا من جامعة ميلانو بأنها «تجمع الرأي السليم بين الذوق والصحة، لأن المأكل المتوسطي الذي تعتمد مكوناته الأساسية على زيت الزيتون والخضراوات والأسماك والفواكه أثبت بالتجربة خلال العقود الأخيرة أنه ملائم للحمية وللتغذية الصحية ويطيل أمد الحياة ويحمي المرء من أمراض السرطان والقلب».

أظهرت نتائج الاستفتاء الأوروبي في الشهر الماضي، الذي أجرته مؤسسة «زوفر» بين عشرة آلاف مشارك، أن المطبخ الإيطالي هو الأكثر شعبية في أوروبا، وأن المطبخ البريطاني يصنف في أسفل القائمة، وأبدى ربع المشاركين أن سبب اختيارهم لإيطاليا يعود إلى لذة الأطباق وتنوع المكونات، فالتنوع هو سر نجاح المعجنات، أي تعدد أشكالها وأصنافها وتبني كل منطقة لنوع من الباستا المحببة لديها. المطبخ الإيطالي يشمل في الواقع عشرين مطبخا جهويا أو إقليميا، وشكل المعجنات مرتبط بالروح الإقليمية والتنافس بين المدن، ويتناسب مع الأطباق المحلية. الرافيولي أو الوسائد المحشية والانيولوتي من اختصاص إقليم بيمونته وعاصمته تورينو في الشمال الغربي المحاذي لفرنسا، والبنسوتي هي الباستا المفضلة في إقليم ليغوريا وعاصمته جنوه في الشمال الغربي المطل على البحر، والتورتيليني المحشو باللحم يبرع فيه أهل مدينة بولونيا في وسط البلاد والكولوجيونيس معروف في جزيرة سردينيا ومعجنات زيتي في نابولي وجزيرة صقلية، وشكل المالفالده مستوحى من شعر الأميرة مافالده المجعد سليلة أسرة سافويا الملكية، وهو النوع الأفضل للباستا في الفرن. والمعكرونة الأسطوانية الشكل لها أنواع كثيرة فمنها الريغاتوني الملساء والمجرحة والقصيرة و«نصف كم»، وهناك رقائق الكانيلوني ورقائق الكاناروني، وهناك الفوسيلي اللولبية والفوسيلي المثقوبة والجميليني الملفوفة على بعضها، والبيني الصغيرة والكبيرة والضخمة والرويته على شكل دولاب السيارة من إقليم ابروتزو الجبلي القريب من روما.

لا شك أن ربات المنزل والجدات والقرويات في الأرياف أسهمن عبر التاريخ في ابتكار مئات الأشكال طوال القرون؛ حين كن يمزجن الدقيق بالماء ويطلقون عليه الكلمة الإغريقية «باستا»، أما الآن فإن شركات الإنتاج الصناعي الضخمة، مثل «دي تشيكو» و«باريلا» والشركات الصغيرة للباستا من القمح القاسي على الطريقة التقليدية المنتشرة في إقليم كامبانيا وعاصمته نابولي تتولى توريد المعجنات الناشفة بكل أنواعها للحوانيت والسوبر ماركت، وهناك شركة مختصة بالمعجنات الطازجة الطرية، مثل «فيني»، التي تبيع الوسائد الصغيرة المحشوة بالقرع أو الخرشوف، التي تصلح للاستعمال خلال شهر واحد، لذا اختفت من الدكاكين المتواضعة في الأحياء التي كانت تبيع المعجنات الطازجة يوميا، مثل الخبز، واقتصرت على عدد من الأفراد الذين يفضلون صنع المعجنات بأيديهم في منازلهم، وعلى الهواة والذواقة وبعض المطاعم أو السيدات اللواتي يشعرن بالحنين إلى أيام زمان.

من هو الخبير الذي يعرف أسماء المعجنات الرئيسية التي تبلغ 270 صنفا مسجلا فضلا عن الأشكال الغريبة والأسماء العجيبة التي لم يسمع بها أحد؟ ومن يعرف المناطق التي جاءت منها تلك الأنواع من طول إيطاليا وعرضها؟ لا شك أنه سيربح جائزة المليون، لكن لماذا كل هذا الاهتمام في بلد مدمن على عشق المعجنات، لا يهمه سوى التهامها يوميا، أو كما يقول الممثل الهزلي الراحل، ألبرتو سوردي، في أحد أفلامه الفكاهية، وهو ينظر إلى زبدية مليئة بالسباغيتي: لقد سال لعابي، وسأنتقم منك بأن ألتهمك لأنك تنظرين إلي بعين التحدي!

* سباغيتي مع صلصة الخضار: وصفة سهلة لا يستغرق إعدادها أكثر من 20 دقيقة، وطهيها أكثر من 15 دقيقة.

* المقادير لـ4 أشخاص: 320 غرام سباغيتي - قطعة كراث (براصيا) - نصف قطعة باذنجان - 3 قطع خرشوف - حبات من الطماطم الصغيرة المدورة - 4 ملاعق زيت زيتون بكر - فصا ثوم - قطعة فلفل أحمر حار - قليل من عصير الليمون - مرق الخضار - بقدونس - ملح وفلفل.

طريقة التحضير اغسل الباذنجان واقسمه إلى قطع صغيرة ورش الملح فوقه لكي يصفى منه الماء، وقسم قلوب الخرشوف بعد إزالة الأوراق الخارجية وانقعه في الماء مع عصير الليمون. ضع زيت الزيتون في مقلاة ويحمر على حرارة معتدلة، ثم يحمر الثوم والكراث المقطع بشكل ناعم على نار خفيفة لمدة 5 دقائق. أضف قطع الباذنجان بعد تنشيفه وإزالة البذور منه إذا لزم الأمر، ثم أضف الخرشوف المقطع والفلفل الحار الطازج المقطع إلى دوائر، واطبخ المزيج لمدة 7 دقائق، ويسقى مرق الخضار تدريجيا مع تحريك المزيج، ثم أضف الطماطم وقليلا من البقدونس والملح والفلفل.

في وعاء آخر سخن الماء وأضف إليه الملح، وحين يصل إلى درجة الغليان اسلق السباغيتي حتى تنضج، ثم اسحبها قبل دقيقة من النضوج وارمها في المقلاة مع الصلصة الجاهزة وحركها قليلا لتمتزج ببعضها، وتقدم الوجبة ساخنة بعد تزيينها بمزيد من البقدونس. ويمكن إضافة قليل من جبن البارميزان المبشور أو جبن الغنم (بيكورينو) حسب الطلب.

تعليقات: