صنوبر بكاسين... وعصر الصبّار


صنوبرة بكاسين... وعصر الصبّار

ما ان ارتاحت بكاسين، بلبل الجنوب وحسّونه القاطع، من مشكلات التهجير وأحوال التعتير، حتى نشبت في شعابها معركة ظريفة وحكاية لطيفة، بطلتاها شجرة الصنوبر وشوكة الصبّار، كادت أحداثها ان تفرّق بين الجار والجارة، وان تشعل الشرارة، التي تسعر الحرب، وتدمر البنيان وتهدد الكيان... وتحرق الحارة وتدك الجدران وتدحرج الحجارة...!

بكاسين البلدة الدهرية، حارسة بلاد جزين وحامية جبل الريحان، تتدثر العز عباءة، طرّزها المجد، زينها المرجان، كحلها الوجد، خرّجها اللؤلؤ... ديباجها الذهب، صبحها، سبحان من خلق، وليلها سبحان من وهب...!

تعترش بكاسين التاريخ بعز، بلباقة تمتلكه، تمسك بصك براءة، ترنو الى الغد بوجل، تفرض نفسها على الكل بدماثة خلق، وحسن لياقة...!

تفتخر، انها أرض الوفاء ومنبت الذكاء ومقلع المكارم، وانها قبل كل شيء بلدة الصنوبر ومسقط رأس الفحولة وضيعة الرجولة ومحمية الاوادم...!

غلطة عمرها، انها تصدق كل ما يحكى ويقال، وتتصور ما لا يخطر ابداً في البال، تنام على مجدها، تشخر، تصفن وتنعس تغط في سبات عميق، لا ينبهها منه، أصرخ زعيق ولا استغاثة غريق ولا وجع هارب من حريق.

ومتى تستفيق من غفوتها الكهفية، تتجدب تتثاءب، تفرك عينيها، تتحدب تمط رجليها، تغتسل بالندى، تتطهّر بالنور، ميدانها النصر، ساحتها المدى، عطرها الصمغ والبخور...!

تصبّح الرب، تمشح جبينها بالميرون، تصلب، تستشفع الملائكة والقديسين، تتقوى بمار مارون، تترحم على الطيبين، تستعظم نفسها أكثر، تتذكر، تدوس الخوف، بقوة تقهر الرعب، بجرأة تقتل الخجل... بخردلة ايمان، تفجر النبع، تطمر الوادي تطفئ النجوم، تهز القمر وتزيح الجبل...

***

في احراج صنوبراتها العريقة، تختبئ كل الاكاذيب الحلوة، وكل الاساطير العتيقة ومراجل النخوة... تسرع الى الماضي، تهرع، تلملم الحكايات، تحفظها، تخاف عليها، تكفّنها بالقش، تطيبها بعسل (الأكواز) وترش عليها قلوب الصنوبر، حرزاً يقيها شر الغريب حَسْدَة الكل وغيرة القريب...! وزيادة في الحرص على شجرة البركة الوفيرة الغلال والمعبئة السلال ورفيقة الاحوال، تبني بكاسين لها في فردوس الصنوبر عرزالاً تتنسك فيه... في الربيع تتصوف، في الصقيع تتزهد، تلتف بالغيم، تصلي، تتنهد... تكثر من النذور والدعاء، تدق على صدرها بسخاء، تركع على البحص، وعجو الزيتون، تقايض الوجه بكومة ذنوب... تصرخ، تشهل بالنداء، تستشفع (تقلا الشهيدة) تضيء لها الشمع، تذرف الدمع، وترسل لها كل صبح وردية رجاء، وكومة حب وألف تنهيدة.

تنخطف بكاسين الى فوق الفوق، خاشعة، تغيب في مضافة سابع سماء، تتقوى بالرجاء، وفي الايمان تذوب وعند الحشرة تصلي تخشع... تدمع، تركع... تتذكر، تتحسر، تتطلع الى الخلف تعزها الدنيا... تبكي، تندم، ولا تتوب...!

بكاسين المشغولة بالتاريخ، المهمومة بحصر الارث وجمع التراث، تقلقها الجغرافيا، تزعجها الديموغرافيا، تغار على الارض، تخاف على التراب، تنقبه تعشبه، تشتل الزهر، تزرع الرمان وزهر البيلسان، تقطّره عطراً، تضوع الطيب، تقهر الآلام ببسمة، تلعن الوجع، تسب الفزع، تعتب على الايام، تنام مقهورة، تغرق في الاحلام، تحلم انها أميرة، انها عروس، تفيق مذعورة، يصدمها الواقع، يزعجها الكابوس، وقلق النفوس... همها هم، غمها غم... تخالف التصحر والشجر، واغتيال الصنوبر واقتلاع الشجر، كنز الضيعة الاخضر، واهراءات الحب الانضر، وخزان المونة الاكرم الاغرز...!

بكاسين الغيورة، تخاف على سمعتها واخبار السلف والغوابر... تلملم المرويات، وكل ما عتق وما ضربه التلف، وكان من الدوابر...

ذات يوم، ذات مرة، ذات زمن، قاست ضيعة الصنوبر وحقله الرمان، شتى الضغوط وصنوف المحن.

غرّها الطمع، قتلها الجشع، ساوت الصنوبر الاصيل بالصبّار البديل، ووقعت في الجورة كطفلة مسحورة، بهرتها شوكة غريبة، قلعتها شتلتها في أرض الوقف والبور وأطراف الجنائن ومشاعات الحقول، سوّدتها بالسماد وبقايا العشب وطحين الخطب والرماد... كلخت كلخة، شتلت شتلة طمرتها في وحلة الشحار.

بسرعة ما بعدها سرعة، تكاثر الصبّار، نما بكثرة غلّ، بوفرة، تخطى الحدود بوقاحة وصار سيد الجبل والوادي والتل والساحة.

عاشت الضيعة عصر الصبّار ووخز شوكاته، وتناست فضل الصنوبر وخيراته... قامت القيامة...! تداعوا الى (قعدة طارئة)، تطارحوا الافكار والآراء، منهم مَن ا نتصر للصنوبر وقال: "إننا من الصبّار ورأى في الامر هراء..."، تناقشوا، فاضلوا بين الشجرة التي التصق بها الوجود والتاريخ والوجدان، وبين الشتلة التي استضافوها في أرضهم، فامتدت وتناسلت غير آبهة بأصول الضيافة وحرمة الجيران...

***

تشاوروا، تناقروا، تقارعوا، تحوطوا للغد، ارتعبوا من المخاطر والمصير... تذاكروا، تذكّروا حرج الصنوبر وعطاياه من الأكواز والحب، بلعوا ريقهم، استطيبوا الرؤوس الخضر، وجمع الغلة بالاكياس، وكيف أن صنوبرهم، هو عزّ المائدة، وسيد المأكل ورفيق الولائم وجلسات الأنس والكأس.

عزّتهم الدنيا، تأنبوا، تعاقبوا، عادوا الى وعيهم، تفاكروا أعمق، تباصروا أغمق، رجعوا عن الخطأ، تابوا عن الخطيئة وفعلة الرذيلة، اكتشفوا ان (الصبّار) ليس من أهل البيت ولا يؤتمن على جيرة الدار، بل هو شوكة وخازة، للدم نزّارة، "فلماذا نعتني بها ونقدمها ضيافة للناس؟ بعضهم يراها قنفذاً والبعض الآخر قلقاس! لماذا نهتم بها وهي شوك لا يجفف وثمر لا يُجمّد، ونبت لا يُجلد ولا يُطبخ ولا يُشوى، لا يُسرق ولا يُسلق، لا يُقلى ولا يُحشى وحتى انه لا يٌقدّد...!

عادوا الى رشدهم، رأوا الصنوبرة مبروكة ميمونة، اعتذروا اليها علقوها في العنق ايقونة، قدموها رمزاً للبهجة والرهجة ولزينة الميلاد، واعتبروها محجر الياقوت والعنبر ورمزاً يليق بهم وبالبلاد...

ندهوا الصوت، راحوا الى تلة الشحار، قلحوها، نقبوها، اقتلعوا الصبّار داسوه، حرقوه، لملموا رماده وفي نهر سري، نثروه كي لا يبقى للصبّار أثر، بعد أن امحى ومات واندثر...!


تعليقات: