هل انتهى قتل اللبنانيين بانتهاء العمليات العسكرية؟


طرحت الحرب الإسرائيلية على لبنان أسئلة كثيرة بقي معظمها من دون إجابات بالرغم من مرور سنة على انتهائها. لكن هل فعلاً انتهت الحرب؟ يستطيع الكثيرون تقديم تحليلاتهم للرد على هذا السؤال، تحليلات تستند في غالبيتها إلى المعطيات السياسية والميدانية والدولية للتأكيد على أن هذه الحرب انتهت وأنهم ما زالوا يناقشون تداعياتها على المنطقة ولبنان. لكن ماذا عن المعطيات العلمية التي خلفتها الحرب؟ هو جانب يبدو الأكثر إهمالاً من بين كل التحليلات المتصارعة. والجانب العلمي للحرب يترجم عملياً في فهم سبل القتل التي استخدمتها إسرائيل ضد اللبنانيين وتداعياتها على صحتهم في المستقبل. بمعنى آخر بماذا قتلت إسرائيل اللبنانيين؟ هو السؤال الذي طرحته «السفير» للمرة الأولى في 22 تموز ,2006 بعد عشرة أيام على بدء الحرب. حينها كان الدافع الأول لطرح السؤال هو العدد الكبير للمعطيات التي بدأت تتجمع حول حالات غير عادية من الإصابات لدى الجرحى، كما لدى الشهداء لم يكن الأطباء، لا سيما أطباء الجنوب الذين خبروا حروباً طويلة مع إسرائيل، قد عرفوها من قبل.

في ذلك الوقت، كان الحديث يتركز بشكل أساسي على حروق غريبة لا تتوقف وتشوهات في الجثث تجعلها تبدو محروقة من دون أن تكون كذلك بالفعل، وصولاً إلى تقطع أطراف الشهداء بشكل لم يشهده الأطباء أو المسعفون من قبل.

ومع تجمع المعطيات بدأ السؤال عن أنواع الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل ملحاً. وكان البحث عن جواب أشبه بطلب المستحيل في بلد يحترق وحكومة تتخبط في قراراتها ومجتمع مهموم بكيفية الحفاظ على سلامته وسلامة النازحين من جنوبه إلى شماله.

هكذا بدأ التوجه نحو الخارج.. نحو الباحثين والناشطين الغربيين المتخصصين في الأسلحة وفي مناهضة الحرب، الذين عملوا في السابق على فضح ممارسات حلف الناتو في كوسوفو والولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان والعراق.. وخروقات إسرائيل في فلسطين المحتلة.

راحت بداية الخيط تظهر عندما نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تقريراً عن قيام الولايات المتحدة بإرسال مئة صاروخ ذكي مضاد للتحصينات على وجه السرعة إلى الإسرائيليين في 21 تموز. تبعها تقرير آخر من صحيفة اسكتلندية تحدث عن نوعية هذه الصواريخ باعتبارها صواريخ مضادة للتحصينات يحتمل أن تحمل رؤوساً من اليورانيوم المنضب.

كان طرف الخيط هذا بداية بحث عن تأكيدات لهذه الافتراضات من خلال الاتصال مع خبراء أميركيين وبريطانيين متخصصين في هذا النوع من الأسلحة ويمكنهم أن يقدموا معطيات حول نوعية ما تحتويه من مواد لا سيما إذا كانت مواد مشعة.

جرى ذلك بالتوازي مع محاولة لفهم طبيعة الأسلحة الأخرى المستخدمة في الحرب وما إذا كانت إسرائيل تستخدم لبنان وجنوبه كحقل تجارب لأنواع جديدة من الأسلحة لم تكن قد استخدمتها من قبل، وهو افتراض عززته تقارير فلسطينية وغربية تحدثت عن استخدام إسرائيل أسلحة جديدة في غزة.

دفعت هذه الشكوك جهات عدة إلى التحرك بعد انتهاء العمليات العسكرية في محاولة للبحث عن إجابات. لكن تجربتي العراق وأفغانستان الماثلتين حتى الآن في الأذهان، جعلتا الاهتمام ينصب من قبل هذه الجهات على نقطة واحدة أساسية ألا وهي إمكانية أن تكون إسرائيل قد استخدمت اليورانيوم المنضب في لبنان، في حين لم تحظ أنواع الأسلحة المحتملة بالقدر نفسه من الاهتمام، لا سيما من قبل المؤسسات الرسمية.

كانت النتيجة أن أجرى برنامج الأمم المتحدة للبيئة والمجلس الوطني للبحوث العلمية تحقيقات بعد الحرب حول فرضية أن تكون إسرائيل قد استخدمت اليورانيوم المنضب أو المخصب ضد لبنان من خلال جمع عينات من التربة والمياه من بعض مواقع القصف وتحليلها. وخلصت هذه الجهات إلى الإعلان أنها لم تتوصل إلى أي دليل يثبت استخدام اسرائيل أي شكل من أشكال اليورانيوم في الأسلحة التي استخدمتها في لبنان.

في المقابل، أظهرت تحاليل أجراها فريق تمثل في الباحثين البريطانيين المستقلين كريس باسبي وداي ويليامس وجود يورانيوم مخصب في عينة أخذت من حفرة أحدثها صاروخ في بلدة الخيام الجنوبية، في حين أظهرت دراسات الدكتور محمد علي قبيسي (ننشر اليوم آخرها) وجود نسب مرتفعة من اليورانيوم في الحفرة نفسها وانتهى قبيسي بناء على كل التحليلات التي أجراها باستخدام أنواع مختلفة من وسائل التحليل إلى أنه، فيما يتعلق بحفرة الجلاحية في الخيام، استخدمت اسرائيل صواريخ تحتوي على خليط من اليورانيوم الطبيعي ذي التركيز المرتفع واليورانيوم المنضب نافياً استخدام اليورانيوم المخصب.

من ناحية أخرى، لم تحصل أي محاولة رسمية جادة لمتابعة النتائج التي توصل إليها الخبراء المستقلين أكان ذلك في قضية اليورانيوم أو في فهم طبيعة الأسلحة المستخدمة وبقي كثير من الغموض يلف هذه المسألة، على الرغم من توفر بعض المعطيات بجهد من المجتمع المدني لا سيما الأطباء المعالجين في الجنوب. وقد أدى هؤلاء دوراً مهماً في توصيف بعض الحالات وأخذ عينات وإرسالها إلى مختبرات خارجية على مسؤوليتهم الخاصة في محاولة لفهم طبيعة ما كان يحصل. كما ساهموا في جمع أدلة على استخدام إسرائيل لأسلحة فوسفورية ضد المدنيين، الأمر الذي نفته إسرائيل ثم اضطرت لاحقاً للاعتراف به.

ومع ذلك لم يلق كل هذا الجهد أي صدى رسمي أو اهتمام بمتابعته في إطار مؤسسي، حتى يتم على الأقل تزويد المستشفيات والمراكز الطبية المعنية بالأدوية والعلاجات المناسبة.

وقد عانى أطباء الجنوب كثيرا خلال حصار العام الماضي من نقص في علاجات إصابات تحدثها أسلحة لم يكونوا يتوقعون استخدامها، وساهم ذلك في تدهور حالات الكثير من الجرحى وأدى في بعض الأحيان إلى وفاتهم.

إلى ذلك، كان لمؤسسات غربية وباحثين غربيين دور مهم في طرح القضية ومتابعتها في المحافل الدولية لا سيما في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وفي محاولة تشكيل مجموعات بحثية تتعاون مع باحثين وأطباء لبنانيين مستقلين من أجل إنشاء قاعدة بيانات صحية.

وفي حزيران الماضي، قدمت مجموعة «نيو ويبنز» ( الأسلحة الجديدة) المكونة من علماء وأطباء وصحافيين غربيين، بينهم عدد كبير من الايطاليين، بالإضافة إلى عدد من الأطباء اللبنانيين، طلباً إلى مجلس حقوق الإنسان لإعادة فتح تحقيق حول مدى احترام اسرائيل لحقوق الإنسان في حربها ضد لبنان لا سيما في طريقة استهدافها للمدنيين في ظل غياب تشريعات تحرم الكثير من الأسلحة الحديثة. بماذا قتلت إسرائيل اللبنانيين؟ وهل انتهى قتل اللبنانيين بانتهاء العمليات العسكرية؟ في ما يلي تقرير يحمل خلاصة لأبرز ما تم التوصل إليه خلال سنة. وعلى الرغم من أن فترة سنة لم تكن كافية للوصول إلى إجابات حاسمة، إلا أنها بالتأكيد سمحت برسم خريطة لمعالم بعض ما جرى وما يتوقع أن تتضح صورته في المستقبل.

تعليقات: