عما يحدث هناك في العرقوب


عند حافة قرية راشيا الفخار، بعد الغروب بقليل، رحنا نسترشد بأصبع صديقنا الصحافي، ابن القرية وعضو بلديتها، وهو يدلنا على موقع كل البلدات المجاورة، فيروح يسمي كل كتلة بيوت مضاءة وسط عتمة الهضاب والقمم الخفيضة والأودية، باسمها. هناك في البعيد "مرجعيون" وهذه "كوكبا" وتلك "كفرشوبا"، وفي هذا الاتجاه "عين جرفة" وبعدها "ابو قمبة" والأبعد "خلوات البياضة".. "انظروا، تلك هي الخيام وسهلها" ثم يلتفت شرقاً ليسمي "كفر حمام" و"كفرشوبا" و"الهبارية" والى اقصى الشرق حيث تقع "شبعا"، ثم يستدير جنوبا دالاً على البلدات الاسرائيلية: هناك كريات شمونة..

كانت راشيا الفخار، الضيعة المسيحية الأورثوذكسية تستعد للعشاء القروي الذي يقام احتفالاً بعيد الصليب، فيما كان ابن القرية يبسط لنا خريطة المنطقة أرضا وسكاناً وهويات، سارداً ما حدث هنا: "بعد ان جاءت المنظمات الفلسطينية ونصبت المدافع حول القرى وداخلها"، ثم قافزاً بالذاكرة الى عامي 1975 و1976: هجوم اهل القليعة المارونية، المعارك مع الاسرائيليين، التهجير المتبادل بين القرى والبلدات: هذا المنزل المهدوم كان مقراً للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، وهناك المصنع الذي تم تشييده في عهد فؤاد شهاب والذي احتلته "فتح".

بقفزة زمنية مفاجئة ينتقل "دليلنا" الى الحاضر: تلك القمة هي تومات نيحا، وعلى امتداد تلك التلال والوديان ينتشر "حزب الله" في مواجهة المستوطنات الاسرائيلية: مسكفعام، المطلة، كريات شمونة.. في العام 2006 كانوا هنا، في الحرش، في الوادي، خلف القرية، ولم يستطع الاسرائيليون وقف انطلاق الصواريخ.

بيار الذي عاش في بيروت وعمل فيها منقطعاً عن بلدته، عاد اليها منخرطاً في شؤونها وهمومها، ناشطاً في العمل البلدي، مشاركاً في ادارة امورها ومشاريعها، كما لو انه لم يغادرها، مستأنفاً عيشاً اهلياً محلياً وحياة ريفية. يظن احدنا ان عمراً منصرماً في العاصمة يبدل في المزاج وفي معنى الانتماء، فتصعب عليه "العودة" الى مسقط الرأس والى البيت النائي في الجغرافيا وفي الذاكرة، لكن بيار الصحافي والناشط السياسي والذي اضطر للذهاب الى المنفى الباريسي قبل العام 2005، بات مقتنعاً ان "المعركة" عادت الى ان تكون معركة مساقط الرأس، معركة أرض وجغرافيات أولية: "هذا ما أدركه وليد جنبلاط"، بقول بيار.

هكذا تحولت النزهة المسائية المفعمة بروائح الرمان والجوز والصنوبر والزعتر الى "جولة استطلاعية" حسب الاصطلاح العسكري والسياسي، لنستكشف ما يحدث خلف مشهد الهدوء الريفي وفي باطنه: "انهم يتسابقون على شراء الاراضي، يجزم بيار، شارحاً: "قطعة الأرض التي تساوي مئة الف دولار تجد من يدفع ثمنها مئتي الف دولار فوراً".

حرب الأراضي والملكيات العقارية تبدو وكأنها مستوحاة من رواية استيلاء اليهود على فلسطين وتشييدهم المستوطنات فيها. انها "حرب مستوطنات" هنا، واذا كانت المستوطنات اليهودية قد استتبت هناك خلف الخط الأزرق، فانها تبدو مشتعلة هنا، يشرح مضيفنا: من جهة الغرب، من ناحية الخيام وصولا الى قرى قضاء النبطية، يمتد شريط السكن الشيعي، ومنها يأتي مال المغتربات ومال حزب الله ومال ايران لشراء اراضي كوكبا ومرجعيون والخريبة وإبل السقي والقليعة المسيحية، واراضي ابو قمبة وخلوات البياضة وعين جرفا وتخوم الحاصباني الدرزية. ومن جهة الشرق، من صوب شبعا وكفرشوبا وكفرحمام والهبارية حيث يسكن المسلمون السنة، يأتي حال الثراء الاغترابي الجديد، الخليجي المصدر (الامارات، السعودية، وخصوصاً الكويت) لشراء الأراضي من راشيا الفخار المسيحية وصولاً الى تخوم عين عطا وحاصبيا الدرزية.

يروي بيار كيف ان اهل بلدته ذهبوا الى كفرشوبا والهبارية ليقولوا لهم: "نحن حلفاء، لماذا تشترون اراضينا.. اذهبوا واشتروا اراضي الشيعة" مضيفا ان الفزع استبد بأهل القليعة المارونية حين انتبهوا فجأة كيف ان معظم اراضيهم قد باعوها لجيرانهم الشيعة. هذا "الاستنفار" اصاب ايضا سكان القرى الدرزية، فاذا كانت بلدية راشيا الفخار قد رفعت لافتة "لا أبيع أرضي بذهب الأرض" فان أهل حاصبيا رفعوا صورة طلال ارسلان (حليف حزب الله) مع كلمة "الضمانة، في اشارة الى دور مأمول من زعيمهم الدرزي لصون بقائهم، هم الذين باتوا يستشعرون بتضاؤل وجودهم ديموغرافيا واقتصادياً.

العابر في القرى الشيعية لا بد له من ان يلحظ طغيان العمران الحديث وكثافته وازدهار بناء الفيلات ووفرة السيارات الفارهة وحضور السكان القوي وفتوته وقلة مظاهر الفلاحة أو العيش الزراعي، مع تحول هذه القرى الى مجرد وجهة اصطياف لأهلها المغتربين أو مقصداً لإجازة نهاية الأسبوع لأهلها المقيمين في بيروت وضواحيها. إنها قرى عامرة و"حديثة" على الأغلب، وكذلك الأمر في قرى العرقوب السنية، إذ نجد بلدة شبعا مثلاً الضيقة الطرقات كما لو أنها في ورشة لا تتوقف لبناء البيوت الكبيرة المتلاصقة والمحشورة في وادي نبع الجوز. بل يمكننا أن نلحظ كيف أن الفيلات و"البنايات" المتعددة الطوابق زاحفة باتجاه سفح جبل الشيخ، ونروح نسأل لماذا تشييد البنايات هنا في أقصى الجنوب الشرقي عند آخر نقطة على الحدود تحت المرصد الإسرائيلي مباشرة؟ من سيسكنها ووفق أي نمط عيش وعمل؟ ما جدواها الاقتصادية؟ أي "اجتماع" سيتألف هنا؟

في المقابل، تبدو راشيا الفخار، المسيحية الصافية، قرية آتية من صور الفلكلور اللبناني وكتبه المدرسية. فهنا ما زالت تسميتها تطابق تاريخها، أي القرية التي تصنع الأواني الفخارية، وهنا ما زالت البيوت الحجرية العتيقة هي بيوتها، والخرائب التي سبقت الحروب وفي أثنائها ما زالت خرائب وأطلالاً، وأشجار الصنوبر والرمان والصبار لم تزل منتشرة في دروبها. الإضافة البارزة هي القصر المهيب والشديد الفخامة للنائب أسعد حردان (رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي) ثم تلك الفيلا الجميلة لأحد شبان القرية العائد من لندن.

قرية "وديعة" (على نحو ما نقوله في الضيعة اللبنانية النموذجية) ما زال خراجها ومشاعها عامرين بغابات السنديان والصنوبر، مقارنة مع قرى العرقوب العارية والجرداء حيث هناك يكثر رعي الماعز بقطعان لا تتوقف عن التجول من الوديان الى أعالي الجبال ملتهمة الأخضر واليابس. وإلى راشيا الفخار، المهددة كمعظم القرى المسيحية بخسارة أراضيها ورحيل سكانها إلى مغتربات لا يرجعون منها، عاد المثقف والناشط السياسي والصحافي بيار ليعمل في بلدية قريته: "نريد أن نحفظ هويتنا، أن يبقى المسيحيون هنا"، مضيفاً "انظر، خلف كوكبا، قام تاج الدين المتمول الشيعي بشراء الأراضي على امتداد الوديان والسفوح، ليبني مستوطنة شيعية، مجمعات سكنية وشقق تباع بأسعار رمزية لكوادر حزب الله، وتحتها تم تشييد المستودعات والمخازن والملاجئ.."، واصفاً كيف أن المنطقة الممتدة من الخيام الى قمة تومات نيحا مروراً بمرجعيون باتت خطاً واحداً متصلاً بالوجود الشيعي كحزام عسكري وكجبهة واحدة.

حين بدأ العشاء القروي وانخرط الأهالي في رقص الدبكة! انطلقت المفرقعات النارية في السماء. "هذا هو إثبات الوجود" علّق بيار. كأن حفلة المفرقعات هذه هي إشارة رمزية نارية للـ"آخرين" بأن راشيا الفخار ما زالت مسكونة ولم تخلُ من سكانها بعد. لم تكن المفرقعات إذاً للبهجة والاحتفال بقدر ما كانت أيضاً "سلاحاً" أو "رسالة" سياسية.

يصر بيار على أن نذهب معه لزيارة كنيسة الضيعة، التي بناها قيصر روسيا كهدية للرعايا الأرثوذكس، ثم رممها بعد القصف الإسرائيلي العام 2006 أمير قطر كتبرع لـ"أهل الجنوب". وبين القيصر والأمير امتد تاريخ الكنيسة (بناء أرثوذكسي، تدمير يهودي، ترميم إسلامي!). ومن مصطبة الكنيسة وباحتها نطل ناحية القرى الدرزية. هذا وادي التيم المعني والشهابي. هذه هي "المستوطنات" التي بنتها العائلات والجماعات منذ أيام الفاطميين، وصاروا دروزاً مع دعوة "الموحّدين"، فيما العائلات التنوخية في الخيام باتوا شيعة إثني عشرية. وهنا في العرقوب استوطنت العشائر العربية السنية الآتية من صوب وادي نهر الأردن ومن سهل حولة ومن نواحي حوران، وإليه أيضاً أتى الطفّار والهاربون من ثارات قديمة والرعاة. وهنا بين إبل السقي ومرجعيون وكوكبا وراشيا الفخار والقليعة كان المسيحيون قد استوطنوا، وهناك، تحت، الى الجنوب جاء اليهود واستوطنوا في مسكفعام والمطلة وكريات شمونة ثم انتشروا في الجولان بعد العام 1967.

طوائف ومذاهب وأديان وجماعات وهويات متجاورة، متخاصمة، متحاربة، متحالفة ومتعادية ومنقلبة على بعضها البعض ومتنازعة على الأرض وعلى الحدود وعلى الذاكرة والتاريخ في هذه المساحة الضيّقة والوعرة. اليهود الإسرائيليون الذين استولوا على الأراضي الفلسطينية مستنفرون على الدوام بكل جبروتهم العسكري على طول الحدود. "جيش" حزب الله يتهيأ مع "شعبه" يومياً ويتحصن في القرى والوديان وعلى القمم لمواجهة أي حرب محتملة. الدروز المتضائلون، الخائفون من "الانقراض" (حسب كلام دارج هناك) يسعون لـ"ضمانة" وجودهم. المسيحيون الذين ينخفض تعدادهم شيئاً فشيئاً يدقون أجراس الخوف على المصير والبقاء. السنة في أريافهم النائية يستقوون بمالهم المستجد ليوسّعوا عمرانهم ويثبّتوا ملكيتهم ونفوذهم المتنامي من العرقوب الى وادي التيم امتداداً الى البقاع الغربي.

حرب الملكية العقارية، وحرب بناء المستوطنات المحصنة، وحرب الهويات الطائفية، حرب الجغرافيا ـ الهوية وأوهامها، حرب الخوف المكبوت والمعلن بين الجماعات، المدعومة منذ مال القيصر الروسي الى مال الأمير القطري الى مال الملالي الإيراني الى مال النفط الخليجي ومال مغتربي إفريقيا وكندا وأميركا وأستراليا، عدا عن أسلحة أميركا و"منظمة التحرير" وليبيا والعراق وسوريا والاتحاد السوفياتي.. كل هذا يصطدم هنا بين هضاب جبل عامل ووادي التيم وسهل حولة وتلال الجليل.

بيار ونحن اكتشفنا أن "المعادلة القديمة تغيرت: ما من خيار بين الحرية والأرض. فالاعتقاد بأنه من أجل الحرية تترك الأرض وتهاجر، بات غير صحيح، إذ أن ملكية الأرض هي التي تمنح صاحبها الحرية. هذا ما يؤمن به الآن سكان تلك النواحي، ومن أجل ذلك تندلع الآن حرب "المستوطنات" الأكثر ضراوة.

فهل هذا هو الدرس الإسرائيلي في الشرق الأوسط، أم هو أكثر وجوه تاريخنا حقيقة؟

تعليقات: