سوق «أهل كفرمان» في النبطية: من المزارع إلى المستهلك مباشرة

مزارع ومزارعة يعرضان حشائشهما وخضارهما في سوق «اهل كفرمان» ضمن سوق الإثنين في النبطية
مزارع ومزارعة يعرضان حشائشهما وخضارهما في سوق «اهل كفرمان» ضمن سوق الإثنين في النبطية


يعرف باسم البلدة ولكنّ باعتَه يأتون بخضاره البلدية من أكثر من قرية..

يعرف سوق الخــضار في قلب سوق الاثنين الأسبوعي في النبطية بزاويــة «أهل كفرمان». «يحتل» أهل البلدة المحاذية للمديــنة جزءاً من السوق الشعبي، يعرضون فيه منتجاتهم الزراعية البلدية، من مختلف أنواع الخضار وبعض أنواع الفواكه المحلية. تتحول كفرمان عــشية كل يوم احد من كل أسبوع إلى خلية نحل. يقطف مزارعوها ما تيسر من محاصيل حقولهم، فيــما يؤجل البعض الآخر يجهزون ما يلزم ويقصدون السوق صبيحة كل اثنين ساعين وراء مصدر رزق أساسي للكـثير من بينهم.

تجلس فاطمة بدير، من بلدة النبطية الفوقا عند مدخل السوق ـ «نزلة الشعّار». تصفّ المرأة الستينية أمامها أنواعا مختلفة من الخضار، تبدأ بالملوخية الخضراء والبندورة والخيار و«المقتى» والكوسى والباذنجان بأنواعه، إضافة إلى بعض منتجات الزراعات الخضرية الورقية، كالبقدونس والنعناع والبصل الأخضر. تنادي بدير مستهدفة العابرات: «تعي يا ماما.. قربي شوفي ريحتن»، تريد المرأة أن تدلل على «بلدية» ونوعية ما تعرضه مستفيدة من مناخ عدم الثقة السائد بالخضار بين الناس، وخاصة في المدن وأسواق الجملة. يعرف زارعو الخضار البلدية العضوية قيمة ما يفعلون، يقولون إن خضارهم نجت من موجة المبيدات والسموم، ومن المياه المبتذلة التي يعتمدها أصحاب المشاريع الزراعية في الري، في ظل غياب رقابة رسمية على سلامة الغذاء، وفي ظل غلاء فاحش لمياه الريّ النظيفة في قرى الجنوب حيث يصل ثمن الصهريج الواحد إلى خمسة وعشرين ألف ليرة لبنانية، وكم صهريجا يحتاج الحقل، وكم مرة يستوجب ريه في ظل موجات الحر التي تجتاح لبنان في الصيف؟

تعود حقيقة تسمية زاوية الخضار من سوق النبطية بـ«سوق أهل كفرمان»، إلى سهل الميذنة، وهو السهل الزراعي الوحيد في المنطقة الذي يقدم إنتاجا زراعيا كبيرا ومنوعا باختلاف المواسم، والذي كان خلال فترات زمنية خلت، المصدر الوحيد للبضائع المعروضة في سوق الخضار. اليوم توسعت الفكرة وانتشرت، ولم تعد تقتصر على مزارعي كفرمان، بل شملت المناطق المجاورة لمدينة النبطية. يأتي موسى بدر الدين صباح الاثنين باكرا، يأخذ مكانه المعتاد في السوق، والذي عرفه منذ أكثر من عشر سنوات، «يفترش» الأرض بأصناف برية لأعشاب طبية وزهورات مختلفة: «بابونج، عيزقان، ورد، وقريص» ... و«كلها من البرية» يقول، مستعيناً برائحتها ونضارتها لإثبات صدق ما يقول. هناك أنواع كثيرة مشابهة لما يعرضه الحاج موسى من إنتاج، ولكنها بمعظمها من سوريا حتى أن ثمنها أرخص بكثير، ولكن «جودتها وشكلها يمكن تمييزه»، كما تقول الحاجة سميرة، «بالنسبة لمن يعرف برائحة الزهورات».

وتأتي فكرة السوق الشعبي نموذجا مصغرا لفكرة اقتصادية زراعية، وهي السوق المباشر الذي أصبح ضرورة بالنسبة للمزارع، في وقت يأخذ تاجر الحسبة من تعبه وربحه ما يقارب الستين في المئة، ناهيك عن تاجر المفرق الذي يستولي على نسبة ثلاثين في المئة من الربح، فيما لا يبقى للمزارع الصغير أكثر من عشرة في المئة تقريبا، حسب ما ورد في كلام وزير الزراعة حسين الحاج حسن في مؤتمر عن التسويق الزراعي، أقيم في الجامعة الأميركية، تطرق إلى إشكاليات التسويق الموجودة، والتي تقف حاجزا أمام حصول المزارع على حقه في تعبه، وإمكانية تأمين منتج سليم وصحي وذي سعر مقبول، والحلول تكمن في فكرة مشابهة لسوق أهل كفرمان في مدينة النبطية، حيث تتم عملية عرض وطلب مباشرة بين المستهلك والمزراع.

تعود فكرة سوق الخضار المباشر في النبطية إلى فترة زمنية قديمة جدا تكاد ملازمة لبدايات السوق الكبير. تستقطب الزاوية الخضراء معظم مزارعي الضيع المجاورة للمدينة، وتعرض منتجاتهم من خيرات الأرض.

مثلاً، يزرع محمد بعلبكي من أبناء بلدة كفرمان معظم أنواع الخضار الموسمية، معتمداً الزراعة مصدر رزق وحيداً منذ أكثر من عشرين عاما. يبيع محمد جزءاً من منتجاته للحسبة، ويبيع القسم الآخر في سوق الاثنين، فيتجلى الفرق بين العمليتين بوضوح بالنسبة له. يسلم محمد سوق الحسبة عشرين صندوق بقدونس يحتوي كل منها على خمس وعشرين باقة بقدونس، بقيمة خمسة آلاف ليرة لبنانية للصندوق الواحد. بعد ثلاثة أيام يعود بعلبكي ليجد أنه لم يبع في الحسبة أكثر من عشرة صناديق، وأن باقي الإنتاج تلف وذبل ليتحمل وحده الخسارة حيث لا علاقة لصاحب الحسبة، والأرضية (الرسم الذي يتقاضونه بدلا عن كل صندوق يوضع في الحسبة) بمعدل ألف ليرة مدفوع سلفاً.

ويعطي ما يحصل مع محمد بعلبكي فكرة واضحة عن معاناة الكثير من المزارعين مع أصحاب الحسب، الذين يوكلون إليهم حق التحكم بعرق الجبين. في المقابل يعوض محمد بعلبكي خسارته في سوق الاثنين حيث يبيع ما يقارب عشرة إلى خمسة عشر صندوقاً كل يوم اثنين، وكل ثلاث باقات بقدونس بألف ليرة، فيبيع صندوقه الواحد بما يقارب ثمانية آلاف ليرة لبنانية، لا يحتسب منها إلا بدل رسم للبلدية يقدّر بثلاثة آلاف ليرة لبنانية.

لسوق أهل كفرمان زبائن معروفون يبنون علاقة وطيدة مع أصحاب البسطات، يطلبون تأمين طلبيات من أسبوع إلى آخر. ملاك حرب مثلاً من اللواتي ينتظرن السوق لتأمين منتجات زراعية سليمة لعائلتها، ولتتأكد من أنها بلدية «فرائحة الخضار وشكلها إضافة إلى أنواع الأربطة والأكياس التي يستعملها المزارعون، حتى لون التربة، تكشف إذا كانت بلدية من مناطقنا أم لا».

تقول هالة العــبد الله الآتية من محيط مرجعيون على سوق النبـطية، أن فكرة الســوق، ورغــم بساطته وطغيان الطابع الشعبي عليه، مهمة جدا ويجب تعميمها على بلدات أخرى بانتظام من قبل البلديات، داعية إلى عدم اقتصار الأمر على يوم واحد في الأسبوع، بل أن يقام في مكان محدد من كل بلدة زراعية ليعرض المزارعون منتجاتهم من دون وسطاء، فيمنح المستهلك حرية الاختيار للمنتج الصحي والسليم، ويحصل المزارع على مردود عادل لتعبه أفضل من عمليات حسابية تغرقه بالخسارة بدل الربح.

مايا ياغي

تعليقات: