الكباب التركي.. الساندويتش الحلال في أوروبا


الأتراك يغزون المعدة الأوروبية..

غرونوبل:

هل ستدخل تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أم لا؟! سؤال ربما تكون الإجابة عنه مختبئة في جيوب السياسيين، وخصوصا لدى الفرنسيين والألمان الذي يرفضون بشدة انضمام البلد المسلم إلى القارة العجوز صاحبة التاريخ الكاثوليكي الموغل. لكن الأتراك دخلوا إلى القارة من باب آخر على الأرجح، هو الباب الذي أوصلهم أسرع إلى بطون الأوروبيين وعقولهم إلى حد ما. فعلى طريقة أميركية معولمة تم تعميمها عالميا، لكن بمستويات فردية بسيطة في أغلب الأحيان، فرض الأتراك، وبينهم أكراد تركيا الذين جاءوا إلى أوروبا، نظاما غذائيا سريعا، لا دخل له، لا بطموحات تركيا بدخول القارة، ولا بأحلام السياسيين. دخلت تركيا إلى الاتحاد وإلى بعض دوله الأساسية (ألمانيا، فرنسا، بلجيكا وإمارة لوكسمبورغ) كما إلى بعض البلدان الأوروبية الأخرى التي دخلها هذا الساندويتش التركي الشهير (أوروبيا) والمسمى «كباب».

يتقصى هذا التحقيق سيرة ساندويتش الكباب التركي بين 5 مدن موزعة على 4 بلدان أوروبية وقرية فرنسية واحدة هي بورغ. وهي البلدان التي تستضيف أكبر عدد من الأتراك والأكراد الآتين من تركيا في أوروبا. هي: ليون، وغرونوبل، وبورغ في فرنسا، وسارا بروكن في ألمانيا، وبروكسل العاصمة البلجيكية، وإمارة لوكسمبورغ. وتم من خلال زيارة هذه المدن بأكملها والإقامة فيها لفترة تتجاوز اليومين في (لوكسمبورغ، وسارا بروكن) وأكثر من أسبوع في بروكسل وبعض المدن البلجيكية، والإقامة في غرونوبل وليون وبورغ. وهو يتقصى بشكل خاص، الطقوس التي تسير عليها صناعة هذا الساندويتش التركي الأصل، وفقا لثقافة كل بلد من هذه البلدان. ولثقافة كل مدينة منها، مضافا إلى هذا كله، معرفة كل شخص من العاملين في هذا المضمار.

والحق أن خلطة الكباب، وهي المعادل الهجين للشاورما اللبنانية - السورية - الفلسطينية. لم تكن لتستحق الاهتمام الكبير، لولا الإقبال الأوروبي الكبير عليها، بسبب اختزانها طاقة كبيرة وكميات هائلة من الدهون. إذ فقط القليل من لحم الحبش المخلوط بلحم العجل وبعض البهارات القوية والنفاذة التي تنادي الهوية الثقافية للشرق في الخيال الأوروبي. إلى جانب بعض أوراق الخس المقطعة والبصل المفروم وشرائح البندورة وبعض المكونات الأخرى، بحسب كل مدينة. إلى جانب 4 أنواع من الصلصة البيضاء المتوسطية (لبن، نعناع مجفف، ملح) والمايونيز (الفرنسي) والكاتشاب (الأميركي) والهريسة (التونسية - حر مطحون حاد الطعم) وهي خلطة شهيرة جدا في دول المغرب العربي، ليتألف ساندويتش يضاهي ما تقدمه المطاعم الأميركية السريعة مثل «ماكدونالد» أو الشبيه الفرنسي المعادل لها «كويك» لناحية جودة اللحم من جهة إلى جانب الخبز والخضراوات المرافقة من جهة أخرى، بالإضافة إلى السعر، وإضافة إلى ميزة أخرى هي أن اللحم حلال، ليخرج في النهاية ساندويتش متآلف مع مجموعة ثقافات محلية تسكن أوروبا لتغازلها من خلال مكونات أشبه ما تكون بخلطة سحرية، وجاذبة، لمجموعات عرقية وثقافية، ترابط إلى جانب النسيج المجتمعي الأوروبي الأصلي وتسنده بروائح أطعمة ومكونات دخيلة على فنونه الغذائية الغنية في فرنسا والمتواضعة في ألمانيا وبلجيكا وعدد من دول الشمال الأوروبي. إلى جانب مسألة اجتذابها الجاليات المسلمة التي جرت العادة أن تنحاز إلى الأطعمة الحلال.

غير أن ساندويتش الكباب الذي يقدمه المهاجرون الأتراك - الأكراد كقيمة غذائية سريعة، تنافس وتنافح أطعمة العولمة الأميركية، بإمكانيات متواضعة تقتصر على جهود فردية في اختيار مهنة لا تكلف صاحبها كثيرا وتعود عليه بالربح الوفير. لا يحمل من الثقافة الغذائية التركية سوى اسمه فقط، فهذا الساندويتش المقدم كبديل لأطعمة سريعة غزت العالم بما فيه تركيا نفسها، لا يتضح أنه يحمل ثقافة تركية أصيلة ومتجذرة في النظام الغذائي التركي الشهير. وعلى هذا، يبدو الكباب كساندويتش تركي يباع في وسط أوروبا ويلتهمه الأوروبيون ويحمل خصوصيات غذائية في كل بلد يوجد فيه، نظيرا مهجنا لنوعية الأطعمة، تحمل ثقافة المهاجرين وقدرتهم على فهم المكان الموجودين فيه واندماجهم اقتصاديا في حيثياته من دون ذوبانهم في كيانه الصلب. وهو ذوبان واندماج مزيف ينشد الحياة والاستمرار فيها ونوعيتها دون التغلغل في ثقافتها وقبولها ومنافحتها بثقافة أصيلة يمكنها مقارعة الثقافة الأوروبية في عقر دارها.

والحال أن الاختلاف في طريقة تحضير ومكونات صناعة الكباب بين بلجيكا وفرنسا وألمانيا، يؤكد عدم أصالة هذا الساندويتش، باعتباره سفيرا غذائيا للمطبخ التركي السريع. فالمصنع الذي يعمل على خلط اللحم (غالبا شرائح لحم الحبش والعجل) مع عدد من المكونات المعروف بعضها الذي مقره في مكان ما في ألمانيا، ويصدر منتجاته، يوميا، إلى فرنسا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا وإيطاليا، وإلى أي وجهة تطلب منتجاته، ينتج مجموعة خلطات تختص بكل بلد من هذه البلدان على حدة. إذ من خلال جولة بسيطة بين هذه المدن، يمكن اكتشاف الاختلافات الجوهرية في طريقة تحضير الخلطة الأساسية في المصنع وطريقة تحضير الساندويتش للمستهلك والمكونات المرادفة له مثل الصلصة والخضراوات. وعلى الرغم من أن وضع المكونات الأساسية لصناعة الساندويتش، أي ساندويتش، تخضع لحساسية من يحضره في الغالب، فإن ثمة قوالب تخص كل بلد بعينه أصبحت معروفة لمن يطلب الساندويتش، وهي وإن كانت رمزية وغير لافتة للانتباه، فإنها تعبر تعبيرا حقيقيا وحادا، عن عدم أصالة هذا الساندويتش بالكامل وانتمائه إلى الثقافة الغذائية التركية رغم جلب الأتراك والأكراد له وصناعتهم إياه هنا.

وفي فرنسا على العموم، يتميز هذا الساندويتش بكونه أقرب إلى الذائقة الفرنسية من خلال مكوناته الأساسية، وبسبب مستهلكيه على الأغلب. فمن شمال فرنسا إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، لا يمكن بأي حال من الأحوال، اكتشاف تغييرات ولو بسيطة على محتويات الساندويتش إلا فيما ندر، كما لا يمكن تذوق نكهة مختلفة بين مكان وآخر، وهذا دليل على وحدانية المصنع الذي ينتج اللحوم ويخلطها ومن ثم يبيعها للسناك التي بدورها تعرضها للزبائن. ومن النادر جدا، في أغلبية المدن الفرنسية، العثور إلى عامل أو صاحب عمل، في هذا المضمار، لا ينتمي إلى تركيا سواء كان تركيا أم كرديا آتيا من هناك. ما يعني الاحتكار التام لهذا الساندويتش، الأمر الذي يميز أنه قادم من تركيا وحدها دون غيرها. باستثناء بائع الكباب الوحيد في قرية بورغ الواقعة على نهر جيروند، الذي يصنع الكباب بنفسه ولا يضيف إليه الصلصة البيضاء - لأنه لا يعرف طريقة تحضيرها - لكنه في المقابل يقدم الكباب وفق ذوق فرنسي رفيع وبأقل من ثمنه المعروف، ربما لأنه في قرية، كانت في الماضي مدينة، ولا يزيد عدد سكانها اليوم على عشرة آلاف نسمة.

والحق أنه بين ليون، المدينة التي تشتهر بأنها موطن المطبخ الفرنسي، وغرونوبل التي هي جزء من إقليم الألب، وجارة ليون الصغرى، توجد أكثر الأماكن في فرنسا شهرة في صناعة الكباب، فالمطاعم الصغيرة المنتشرة في هاتين المدينتين، تعتبر الأفضل من حيث النوعية، على الرغم من أن غالبية المطاعم الصغيرة، التي تقدم هذا الساندويتش، هي في الأساس، تشتري الكباب جاهزا من المصنع الموجود في ألمانيا. ويتربع بعض هذه المطاعم على عرش الشهرة من خلال دعاية تقول إنه هو من يحضر سيخ الكباب محليا، على الرغم من أن هذا ليس سوى إشاعة لجذب الناس لا أكثر ولا أقل.

أما سيخ الكباب الذي قوامه لحم ديك الحبش والقليل من لحم العجل الأبيض المائل إلى الحمرة، فيكلف تقريبا، بحسب أحد العاملين في المهنة، ما بين ثلاثة ونصف إلى أربعة يوروات للكيلو الواحد من مصدره الألماني. في حين أن تكلفة الكيلو الذي يصنع محليا فتصل إلى خمسة يوروات ونصف اليورو للكيلو دون حساب المكونات الأخرى. ما يعني أن الأسياخ الجاهزة أوفر بكثير، سواء كان من ناحية الوقت أو من ناحية الثمن. الأمر الذي يجعل التعامل مع المصنع الألماني بالنسبة للعاملين وأصحاب هذه المطاعم أفضل، خصوصا إذا ما اكتشفنا أن الغالبية المطلقة من هؤلاء لم تكن هذه المهنة، أساسا، مهنتهم في تركيا. وهذا ما يصعب عليهم صناعة سيخ الكباب بأنفسهم، ذلك لعصيان المهنة على غير أبناء المهنة. أما أرباحه فهي تتراوح ما بين أربعين وخمسين يورو للكيلو الواحد. وهو مبلغ كبير جدا إذا اعتبرنا أن أي مطعم صغير يبيع يوميا ما بين مائة ومائة وخمسين ساندويتشا في اليوم بمعدل سعر يتراوح بين أربعة يوروات، وأربع يورو ونصف اليورو فقط للساندويتش الواحد. هو إذا كان الساندويتش سهلا في تحضيره وتضاهي دسامته دسامة الأكل السريع الأميركي ما يبرر حجم الإقبال الكثيف عليه، وبخاصة من فئة الشباب. لكن صناعته كذلك مهنة من لا مهنة لهم في بلاد أتوها حالمين بتغيير حياتهم فلم يجدوا غير اللحم والنار وسيلة للعيش.

في غرونوبل يتربع مطعم «بات مان» الذي يملكه لاجئ سياسي كردي هرب من تركيا قبل سنوات، على رأس المطاعم التي تقدم هذا الساندويتش، وعلى الرغم من أن صاحبه واسمه مندو، أصبح يطعم الآخرين هذه الأيام، ومعروف في كل أنحاء المدينة، فإنه اضطر قبل سنوات إلى الإضراب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام من أجل الحصول على أوراق الإقامة الفرنسية. فالمطعم الذي أسسه ويحمل اسما شهيرا جدا لبطل خرافي، أنتجته السينما في هوليوود، يضرب عصفورين بحجر واحد، فما الاسم سوى اسم القرية الكردية في تركيا التي جاء منها صاحب المطعم لا البطل الأميركي. وهو الأمر الذي يخلق اللبس لدى الناس، فكيف لمطعم يمثل المطبخ التركي - الكردي أن يحمل اسم بطل أميركي ويروج له. وهو لبس لا يزال ساريا لغاية الآن، دون توضيحات من صاحبه إلا لمن تحمل عناء السؤال وبادر إليه.

«بات مان» اشتهر منذ سنوات على أنه المطعم الوحيد في المدينة الصغيرة التي تضم نحو نصف مليون نسمة، إلى جانب مائة ألف تلميذ فرنسي وأجنبي، وأنه الذي يولف سيخ الكباب لديه. وإن كان بدأ المهنة هكذا، فإنه اليوم بدأ يذهب نحو الاستسهال واستيراد لحومه جاهزة من المصنع الألماني، أما غيره من السناكات الصغيرة، فلا يمكن لها سوى الاستعانة باللحم القادم من ألمانيا طلبا للربح الأكثر والسريع الذي لا يكلف الكثير من الجهد والتعب، ويعطي نفس النتيجة. وفي هذا يقول سادات بدرخان بائع ساندويتشات الكباب الكردي، إن المصنع الألماني يوفر كل شيء بسعر جيد لكنه يعطينا نوعية لحم وذوقا متشابها، فلم يعد هناك فرق بين الساندويتش على مستوى النكهة بين مكان وآخر، حيث إن الصانع هو نفسه.

أما في ليون التي تتربع على فن الطهي الفرنسي، فإن ساندويتش الكباب يتفوق فيها على الساندويتشات الفرنسية الكلاسيكية، ليس لأنه أجود منها وأفضل مذاقا، بل لأنه الغذاء المتعارف عليه بين شباب الطبقة المتوسطة والفقيرة الفرنسية والجاليات الأجنبية التي تعيش في المدينة، الأمر الذي ينطبق على باريس أيضا وعلى غيرها من المدن.

لا تعتبر إمارة لوكسمبورغ وحدها الإمارة الأغنى في العالم من ناحية معدل مستويات المعيشة، لكنها تعتبر المدينة الأكثر أناقة بين المدن التي وضعت على لائحة هذا التحقيق. ومع ذلك فإن القادم إلى لوكسمبورغ من بروكسل يصطدم ما إن يخرج من محطة القطار، الوحيدة في المدينة، بمجموعة من مطاعم الكباب وكأن هذا الساندويتش بات يشكل هوية حقيقية للمدينة. لكن على خلاف مطاعم غرونوبل وليون تبدو على مطاعم الكباب هنا، علامات البحبوحة، فالأماكن التي تقدم هذا الساندويتش أكثر ترتيبا ونظافة من تلك الموجودة في فرنسا، ربما بسبب الصرامة في تطبيق الأنظمة التي تراعي مراقبة النوعية والنظافة معا دون فصل أي منهما عن الآخر. وهذا السلسلة من المطاعم التي تستقبل زائر المدينة مباشرة بعد نزوله من القطار، تعود وتختفي في الأزقة الأخرى، ليحل محلها المطاعم الفاخرة التي تقدم أصنافا مختلفة من المأكولات الفرنسية والألمانية والبلجيكية، وبعض المطاعم التقليدية المختصة بالمطبخ اللوكسمبورغي الذي هو عبارة عن خليط الثلاثة مطاعم السابقة الذكر. إلى جانب عدد لا بأس به من المطاعم الإيطالية والأميركية الأخرى. لكن الكباب في لوكسمبورغ يختلف بمكونات الساندويتش عن الذي في فرنسا، ليس فقط في نوعية الترتيب ومستوى النظافة، لكن أيضا، في الخضراوات التي عادة توضع في الساندويتش إلى جانب اللحم. فهنا لا يكتفى فقط بوضع شرائح البصل والبندورة والخس بل يضاف إليها الروكا في كثير من الأحيان ليضفي نكهة حادة قليلا على الساندويتش الذي لا يحتاج إلى إضافة نكهات كثيرة على البهارات التي توضع عادة في خلطة اللحم.

سارابروكن، المدينة الألمانية القريبة من فرنسا ولوكسمبورغ، لا تشبه غيرها من المدن الأخرى، فسكانها الأجانب قليلون جدا لدرجة لا يمكن رؤيتهم بين المارة في الطرقات. لكن مع ذلك، فقد عثرت على مطعم يقدم ساندويتش الكباب مع مفاجأة أن العاملين فيه من الألمان، ومع ذلك فهو يستورد الكباب من المصنع الألماني نفسه الذي يملكه الأتراك في مكان ما من ألمانيا.. ولا يضيفون على الساندويتش الكثير، بل نفس المكونات التي ترافق الساندويتش في فرنسا.

بروكسل تختلف عن غيرها بمسألة شبه أساسية، فهنا لا تستورد غالبية المطاعم اللحوم من ألمانيا. بل، مثلما وجدت في معظم المطاعم التي دخلتها يتم تركيب السيخ محليا، ما يعني أنه يختلف في الذوق والطعم عن الخلطة الألمانية الرائجة. لكنهم إلى ذلك يضيفون عليها إلى جانب الخضراوات المعروفة بعض الجزر وحبات الذرة، بالإضافة إلى البطاطا المقلية التي تشتهر بها بلجيكا عن غيرها من البلدان الأوروبية. وأصحاب المطاعم في غالبيتهم، كما في فرنسا ولوكسمبورغ وألمانيا، أتراك أو أكراد أو حتى عرب ساقتهم المصادفات للعيش في المدينة واختيار المهنة الأسهل.

لم يعد هذا الساندويتش يمثل ثقافة غذائية تركية على ما هو دارج ومعروف. بل إنه والحال هذه، نسج هوية معولمة أتت من ضمن ما أنتجه الوجود التركي القوي في هذه البلدان، لكنه في الحقيقة يبقى نموذجا يعبر عن الخلل في ثقافة المهاجرين التائهين بين ثقافاتهم الأصلية الضعيفة وقوة الثقافات التي يعيشون في كنفها.

 الأتراك يغزون المعدة الأوروبية.
الأتراك يغزون المعدة الأوروبية.


تعليقات: