عوالم و أفراح القاهرة بين الأحياء الشعبية وشارع محمد علي

كتاب الباحث الفرنسي نيكولا بويغ
كتاب الباحث الفرنسي نيكولا بويغ


"عوالم" و"أفراح" القاهرة بين الأحياء الشعبية وشارع محمد علي (1-2)

نيكولا بويغ يصف الأعراس وحياة الراقصات في المشهد المديني القاهري

ينقل هذا التحقيق صوراً ومشاهد وحكايات عن حياة موسيقيي الأفراح وراقصاتها في القاهرة، إنطلاقاً من كتاب صدر حديثاً للباحث الفرنسي نيكولا بويغ، عن "أكت سود" في باريس. ويستند الكتاب الى شهادات حية عن عالم "العوالم" وعلاقته بالمشهد المديني في العاصمة المصرية. هنا حلقة أولى عن هذه العوالم القاهرية، تليها الأحد المقبل حلقة ثانية وأخيرة تتضمن سير شخصيات من جيلين جذبهما شارع محمد علي.

"حياة عازف الموسيقى مثل بخار الماء، ترتفع ثم تختفي"، بهذه العبارة، يستهل الباحث الفرنسي نيكولا بويغ كتابه "فرح – عازفو الأعراس المشهد المديني القاهري"، الذي ينقل فيه صوراً وشهادات عن حياة "العوالم" والعازفين والمغنين الشعبيين و"النبطشية" في شوارع القاهرة، بعد تجواله في عوالمها وانغماسه في شارع محمد علي تحديداً، سعياً منه لاكتشاف عالم فريد من نوعه، لكنه يتميز بسلاسته وبساطته وشعبيته وسير حياة مليئة بالمفاجآت والغرابة، مالئاً الأماكن صخباً وضجيجاً.

من قلب العلاقة الحميمة مع الشارع، تولد عوالم ومجتمعات مصغرة في كتاب "فرح" الذيى يجوب كاتبه الحواري بحثاً عن نساء ورجال وأطفال في أحياء شعبية تدور بهم الدنيا وهم أبداً في أماكنهم، يتعلمون لغة الشارع ولكن ليس لغة الحياة. موسيقيون وأناس يصرون على "النضال" من أجل كراماتهم وطموحاتهم وغالباً ما يحصدون خيبة الأمل، كأنهم مطبوعون بملامح ذاك المجتمع القديمة. وإن جالوا في سائر بقاع الأرض، تبقى "الأفراح" ملاذهم الوحيد، ويبقى شارع محمد علي منزلهم الفطري، وتبقى خشبة مسارحهم المتواضعة المكان الوحيد الذي تبدأ حياتهم فيه وتنتهي، ولكن ليتسنى لها أن تبدأ وتنتهي من جديد.

الراقصة والطبال

كلام سهل وسريع. حماس. تنزلق العبارات من دون خشية من تناقض الكلام الذي لا معنى له، او حتى الكلام "المشفر". المطلوب إشعال الأجواء وليلها الصاخب وإرضاء كل الحاضرين تجنباً لـ"خناقة" في نهاية السهرة تفسد أجواء المرح على الجميع. تلك هي الصورة الخارجية للأفراح الشعبية في مصر، والوجوه التي نراها مكللة بملامح مبهمة، والحشود من السكارى الهائمين على وجوههم، فيما الفرقة على المسرح تحاول أن تثبت أن لها مكاناً في عالم الفن. غالباً ما يغلب اللون الأحمر على خلفية المسارح الشعبية، وتمتد أسلاك الأضواء بين الطاولات المتفاوتة والقريبة من مكان جلوس العروسين. فالأهل والأقارب والشخصيات المهمة، كالمعلم او "ريس المنطقة" هم الذين يحصدون الاهتمام وينهال عليهم السلام "المربع" من أعضاء الفرقة والمطرب الذي يغدق عليهم المديح.

يتفوه "الكلمنجية" بما هب ودب من الأقوال والكلمات، بعضها ضروري ومعظمها لا يصلح الا لتعبئة الاجواء وإبقاء أنظار الحاضرين مسمرة على الفرقة بدلاً من أن ينشغلوا بالشجار والعراك. الراقصة وراء الكواليس، شعرها "المستعار" غالباً ما يتهدل على كتفيها. وردفاها المكتنزين يتأهبان للهزّ وشد أنظار الحاضرين. وجهها يكاد يختفي وراء ماكياجها السميك. وفي كل "فرح"، تتحضر لتحدٍ جديد، قد تنجح فيه أو تفشل، لكن دائماً مع متعة خالصة تأتي في توترٍ كبير يخرج من مسام جسدها المتقلب مع النوتات الشعبية والمتغيرة، سريعة أحياناً وبطيئة في أحيان أخرى.

يحاول الطبال "محمود الأسمر" عرض خبرته المهنية التي ظل يكدسها لسنوات طوال. يعرض مع الراقصة ويتحرك معها. يركع ويضع الطبلة أرضاً بين قدميه، ويبدأ بتحريك يديه لإخراج دقات متناغمة، فيما يترنح رأسه شمالاً ويميناً متوحداً مع طبلته. تتجه الأنظار صوبه، فينسى الرجال مفاتن الراقصة ويتلذذون بمنظر رجلٍ يندمج مع طبلته، بعدما سئموا تكرار حيواتهم وأيامهم المتشابهة وباتوا يتوقون لرؤية رجل يتحرر من بؤسه مع الموسيقى.

يهمس أحد أعضاء الفرقة في أذن الراقصة محذراً إياها من "محمود" الذي سلبها النجومية وأخذ منها الأضواء. "دي نمرتك، لازم النجاح يبقى ليكي"، يقول لها أحدهم. ويضيف آخر "ده بياخد منك السوكسية - النجاح"، فتستشيط الراقصة غضباً وتطلب من الطبال أن يلازم مكانه مع الفرقة ويتركها لكي تؤدي وصلتها بمفردها. ينصاع محمود لأوامر الراقصة لأنها غالباً ما تكون واجهة الفرقة والعنصر الأساسي فيها. ولكنه يروي أن الجمهور قد غضب منه، لأن الحاضرين ظنوا انه قرر العزوف عن عرضه من تلقاء نفسه. ويضيف أن الراقصة التي منعته من أن يكون على سجيته لم تكمل عقدها المفترض أن يكون لمدة شهرين. بل أنهته بعد حوالي العشرين يوماً وانسحبت الى فرقة أخرى.

هكذا أخذ المدعوون الى الزفاف يحضرون الويسكي للطبال ويفتحون زجاجات الشامبانيا له وليس للراقصة. وهذا أمر مرفوض بين أشخاص يسعون وراء الأضواء وتطغي الغيرة على مجرى العلاقات في ما بينهم. فما بالك بغيرة امرأة نارية من رجل! فيأتون براقصة جديدة الى الفرقة، لا تمانع ان يعرض الطبال مهاراته معها. ولكن سرعان ما يعود أعضاء الفرقة الى إثارة المشكلات المنبعثة من الحسد والغيرة ورغبة كل منهم في التفرد بالنجاح.

في مقاربة غريبة وفريدة من نوعها، يتحدث أحد الموسيقيين (أحمد وهدان) مشبهاً الراقصة بالصورة والفرقة بالإطار. ويشدد على أهمية التنسيق بين الطرفين مستشهداً بمقولة "اذا نهق حماران معاً في نفس النغمة، استطاعا ان يصنعا الموسيقى". عندما يلمع إطار الصورة ويشرق متوهجاً بالبريق، أي عندما تكون الفرقة مشعة، تشعر الراقصة بالغيرة. وإن كانت مهاراتها متدنية نوعاً ما، تستطيع أن تخدع الجمهور ملقية اللوم على الاوركسترا التي لم تستطع أن تتماشى مع نغمات جسدها، فتقول "ده حمار، ما بيعرفش يلعب"، وترمي خيبتها على الموسيقي.

نظام الأفراح

الرجال يجلسون في أماكن مخصصة لهم بعيداً من النساء، كأن الجنسين منقسمان حتى في المناسبات التي يفترض أن يجتمعا فيها. وفيما يبدو العالم النسوي أشد حماساً وانبهاراً بما يحصل، يبدو عالم الرجال منطفئاً. نساء بأعينهن الناقدة يراقبن العروس التي أخذت مكانها في الزفة ولا يتوانين عن إطلاق تعليقاتهن السخيفة والبحث بين الصفوف الذكورية عن أزواج مستقبليين لهن أو لبناتهن. الرجال على الضفة الأخرى، يدخنون "الجوزة"، وهي تحوي نوعاً من الحشيش ، ومتداولة جداً في مصر، خاصة في الأحياء الشعبية. يجلسون في زاوية ميتة في انتظار الراقصة لكي تضيف نكهة جديدة على سهراتهم.

رائحة مخدر البانجو تملأ المكان، مختلطة بدخان الحشيش المتصاعد من بعض المقاعد الملتفة في دوائر صغيرة وسط الشارع. زجاجات البيرة منتشرة بين أيدي الجالسين او فوق الكراسي في منتصف تلك الدوائر. بأنصاف آذانهم يستمع الجالسون الى حديث زملاء الجلسة، وبأنصاف آذانهم الأخرى يستمعون الى ما يدور على المسرح الخشبي من غناء او تحيات توجه لاهل العريس والعروسة او للمعازيم، منطلقة من مكبرات الصوت المنتشرة في غير مكان.

رجال يجلسون في معظمهم حفاة الأقدام. يشربون البيرة ويرمون أعقاب السجائر أرضاً، فيما الشباب ينظرون والرغبة تتدلى من أعناقهم الى الراقصات، ويستمر صدى الاسماء متردداً في المكان.

هذا هو النظام السائد او المتعارف عليه في "الفرح" الشعبي القاهري. النبطشي الذي تعرِّف مسبقاً بأبناء المنطقة المفترض حضورهم المناسبة، حضر لسانه "الحلو" الذي يجيد توجيه التحية للجميع بعبارات مختلفة تشعر كل واحد من الحاضرين بأنه اهم شخص في الفرح. "أفندينا وصل"، و"رئيس جمهورية نفسه"، و"عفاريت الأسفلت"، كلها جمل يقولها "النبطشي" أو مقدم فقرات الفرح الشعبى من أجل جلب المزيد من "النقوط" من المعازيم وتحفيزهم على تشجيع الراقصة.

يعبّر النبطشي عن الحاضرين ويتكلم لغتهم المتداولة، وكل ما يقوله يكون على سبيل التحفيز لتقديم "النقوط" والحصول على المزيد منها. وهو يعزف على وتر حساس، مثيراً رغبة المعازيم في إقامة "شو"، يطلق بينهم حالاً من المنافسة مستغلاً رغبتهم في العرض. كما أنه لا يحط من قدر أحد أبداً مهما كانت هيئته، كي لا يخسره. فالنبطشي "فهلوي" قادر على مخاطبة كل شخص للتأكيد على مكانته الاجتماعية والمادية. وكلما ردد إسماً في مكبر الصوت، شعر هذا المعزوم صاحب الإسم بعلو مكانته الاجتماعية بين الحضور. الجمل التي يرددها النبطشى تعتمد في معظمها على التناقل الشفهي، ودائما تكون مزيجاً من جمل قديمة ورثها، وجمل حديثة قام بتأليفها. وهو يسعى دائما لتطوير نفسه وتأليف صيغ وعبارات جديدة ليظل محتفظاً بأهميته في الأفراح الشعبية.

شارع محمد علي

في العام 1958، عرض فيلم "شارع الحب" الذي يروي قصة موسيقى مغمور من شارع محمد على، يكتشفه أحد الاشخاص فيتعهد تعليمه أصول الموسيقى، وينبغ فيها ملتحقاً كمدرس موسيقى في أحد النوادى الموسيقية. الشاب اليتيم والموسيقي الموهوب يتحول مع مجريات حوادث الفيلم نجمٍاً لامعاً في عالم الفن العربي. وبعد حوالى 20 عاماً، عرض الفيلم المشهور جداً "خلي بالك من زوزو" من بطولة سعاد حسني. الشابة الصغيرة التي تكمل تعليمها الجامعي وتخجل من أن يكتشف الشاب الذي أغرمت به أن والدتها "عالمة" في شارع محمد علي. المشاعر المتقلبة بين الحب والخجل او العار تعكس الحال التي آل اليه شارع محمد علي بعدما عرف عصراً ذهبياً عايش فيه أصالة الموسيقى المصرية وتراثها. فما بين عامي 1920 و1960، مرّ محمد عبد الوهاب على الشارع وكان يشاهد أكثر من مرة في مقهي "تيجارى"، كما غنت هناك نجمة مصر الاولى واسطورتها "ام كلثوم". ماذا أصاب الشارع، ولماذا تردت أحواله؟ لا أحد يملك الجواب. ولكن كثراً هم الذين يجلسون على حافة المقاهي يضنيهم الحنين الى امجاد غابرة انقضت بعدما التهمتها الالسن الشعبية جيلاً بعد جيل.

المشهد المديني البهي الذي لامس الشارع ظهر في منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر، في عهد محمد علي باشا الذي اوجد البناء والعمران الحديث في القاهرة. ولكن الشكل الحقيقي للشارع تجلّى في عهد الخديوي اسماعيل الذي صمم على إخراج القاهرة من حدودها العثمانية الى العمارة الحديثة. المكان الاسلامي التقليدي كان عليه ان ينفتح على مصراعيه في العاصمة المصرية. مع هذه الحداثة العمرانية، تماشت الحداثة الموسيقية التي ساهمت كعنصر اصلاح وتطور في الحياة المدينية. أنشئت أماكن ثقافية جديدة وظهرت في حدائق الأزبكية "أكشاك" موسيقية يعزف فيها الموسيقيون ألحانهم. كان أبرز الصالونات الموسيقة التي ظهرت صالون قصر عابدين الذي كان يعرض فيه أحد أهم المطربين والملحنين آنذاك، عبده الحمولي.

انتهى إعمار شارع محمد علي العام 1870، فيما حمل الخديوي اسماعيل أحلامه وآماله بأن ينشئ مكاناً أشبه بباريس من حيث بريقها ورونقها. ولكن الخديوي الذي بدا مهتماً بأنشاء طرق مسطحة ومستديرات حديثة، غاب عن ذهنه الاهتمام ببعض نواحي البنى التحتية كتأمين المياه والصرف الصحي وما شابه. ولكن هذا لم يمنع من افتتاح المحال المكتظة وإنشاء المباني المتلاصقة ، وتحقق بذلك حلم محمد علي، رغم أنه لم يكن موجوداً ليبصره.

في بداية التسعينات من القرن التاسع عشر، بدأ العصر الموسيقي الذهبي ينجلي في القاهرة، خاصة مع ظهور أسماء لامعة كزكريا احمد، وسيد درويش، ومنيرة المهدية، وصالح عبد الحي. هذا الى حين ظهور ام كلثوم وما أدخلته من طرب أصيل وتراث كلاسيكي الى الموسيقى الشرقية. ولكن ذاك المشهد الموسيقي أخذ يتراجع مع نزول المطربين الشعبين الى الشارع لإحياء الأفراح وكسب المزيد من المال. انكسرت الخصوصية الكلاسيكية في الحياة المدينية وتطورها الى نمط استهلاكي وسريع. وان لم يكن أحد يتجرأ على مقاطعة ام كلثوم في غنائها، فالمشهد في الأفراح منافٍ تماماً لذلك. مجموعة من الناس يسعون الى لحظات عابرة من المتعة، تخلوا عن نموذج "السعادة" المثالية التي كان يقدمها الكبار، ليس لفقد الايمان بها، ولكن بكل بساطة لأن الزمن تغير.

تغيرت طريقة التعاطي مع الفن، وانحدرت القيم مع كثافة الاستهلاك وتداول الموسيقى في أسواق العرض والطلب. وسرعان ما تحول شارع محمد علي شارعاً للمهمشين. موسيقيو الشارع ليسوا مجرمين، ولا هم بشر من كوكب آخر. إنهم مجموعة قررت أن تقود حياة غير نمطية، قريبة من الطبقة الكادحة التي طالما كانت في مواجهة الطبقة المخملية. فأبناء المجتمع النخبوي المحافظ والمتفلت في الحين نفسه، لا يعترف بـ"سعد الصغير" كفنان حقيقي غير متكلف. وكذلك كان الأمر حين بدأ يظهر عالم العوالم والكلمنجية وموسيقيين ليسوا مصنفين بين مطربي الدرجة الأولى.

الممنوع والمخجل

يعترف علي، أحد مغني الأفراح، بأنه كان يتمتع بحياة مستقرة من جراء عمله كسمكري. ولكنه يقول ان شيئاً ما كان يشده في اتجاه ذاك العالم المتنوع. فتجرأ أن يكسر خجله ويخرج من دائرة الروتين المحيطة به ويجري وراء أحلامه. فالمصريون يحبون الموسيقى ولكن ليس الموسيقيين، وما بين الصراع الدائم بين الحلال والحرام وفي إطار المخجل والممنوع، يقول الكاتب هاورد بيكر في إحد إصداراته العام 1940، ان الموسيقيين ليسوا مجرمين. إنما هم مجموعة من الأشخاص الذين يعيشون نمط حياة غير تقليدي ويطورون ثقافتهم الخاصة التي تصورهم كمجموعة من المهمشين بين أبناء المجتمع المحافظ. أما بالنسبة لرجال الدين، فهم منقسمون مجموعتين في آرائهم. المجموعة الاولى تعتبر وجود الموسيقيين غير شرعي وتدين كل نوع من الترفيه إدانة قوية. أما المجموعة الثانية من رجال الدين المتحررين، فتعتبر الموسيقى لغة عالمية للحوار والتواصل.

يقول رضا (طبال) انه منذ تزوج وانتقل للسكن في حي آخر، لم يخبر أحداً من رفاقه الطبالين عن مكان إقامته. "انا حر وماحدش له عندي حاجة"، مؤكداً أنه حريص على أن يذهب الى الحفلات ويؤدي عمله من دون ان يشعر به أحد من المحيطين بحياته الجديدة. فهو بات يسكن في مبنى يقيم فيه الكثير من الأشخاص المتدينين والذين قد يصعب عليهم ان يلقوا عليه التحية ان علموا انه موسيقي. من الجهة الأخرى، هناك الأخلاق التي تؤنب الموسيقيين الذين يعزفون في الكاباريهات، ولكنهم يجدون أنفسهم مضطرين لزيادة مدخولهم المادي.

في مفارقة غريبة أخرى، هناك الراقصات او "العوالم" اللواتي يعتبرن الرقص "حراماً" ولكن ليس "معيباً". لذلك تجد الراقصة عندما تفرغ من مهنتها وتأخذ منها ما يكفي، تلجأ الى التوبة طالبة الرحمة والمغفرة من الله. ولكنها لا تكترث كثيراً الى نظرة مجتمعها وأهلها أو الى غضبهم منها ومن خياراتها.

عالم الآخرين

"عوالم" هي جمع عالم، ومن هنا تأتي تسمية هذا المجتمع الفريد من نوعه. عوالم مغرية لأناس يمرون في الدنيا ويسلكون كل يوم في اتجاه جديد. مسافرون ومتنقلون في المكان نفسه ومن مكان الى آخر. سحر وشغف وخبرة ومهارات تكتسب عبر الاحتكاك اليومي مع مختلف الطبقات والأذواق البشرية. "إنني أعمل في كل مكان. أماكن شعبية أو فخمة، حارات شيك، بهوات، دكاترة، مهندسين او حتى نشالين. عملي يقودني الى كل الأماكن"، يقول مدحت، أحد المطربين الشعبيين في شارع محمد علي. ويضيف، "يجب أن أندمج مع كل الانماط البشرية. ان كانوا من مرتبة عليا نوعاً ما، أرتفع معهم. وإن كانوا من طبقة متدنية، أخفض لهجتي كليا كي أستطيع التواصل معهم. المهنة تفرض علي ستايلات (أساليب) مختلفة. لا جدوى من إنشاد أغاني أم كلثوم او رباعيات الخيام أمام أشخاص لا يعرفون مثلاً من هو عبد الوهاب. هؤلاء الأشخاص يريدون أغاني خفيفة وسهلة".

ومن هنا، يقول احد الموسيقيين، ان الجميع يلبس أقنعة في هذا المكان حيث الحرفة الأصلية هي اللعب على الأدوار. فمن الصعب أن تحدد هوية مهنية موحدة في أماكن كل واحد فيها يريد منك شيئاً مختلفاً عن الآخرين. كما من الصعب على الموسيقيين أن يطلبوا من الآخرين أن يفهموا لغتهم، فيضطرون هم الى فهم لغة الآخرين. هناك أماكن يضطرون فيها الى المحافظة على "البريستيج"، وأماكن أخرى يتصرفون فيها بطريقة طبيعية ويكونون على سجيتهم. ولكن الشيء الوحيد الذي لا يمكن الا ان يقوموا به هو القاء التحية على كلّ من يمر بهم.

"النقطة" أو "الفلوس"

"النقطة" او"الفلوس" التي تنهمر على جسد الراقصة او المطرب، هي دعامة أساسية للاحتفالات الشعبية وأحد أهم جوانبها. فغالباً ما تدخل لعبة التحيات في هذا المحور، فيتنافس "المعازيم" على البروز والإغداق بعطاءاتهم رغبةً بالتباهي وحب الظهور. تحية "لبرنس الصحافة سيد خالد عجين"، "نصبّح ونمسي على سيد المعلمين فلان الفلاني"، وما الى ذلك من لعب على الكلمات. وغالباً ما يظهر "المعلم" وهو ينثر أمواله فوق جسد الراقصة ثم يقف فخوراً بنفسه يرمق الموجودين بنظرات متعالية.

في شهادة الحاج ابو مصطفى، يقول ان الأفراح اختلفت منذ العام 1960. كان النبطشي يقف على باب الفرح مستقبلاً المعازيم، مذكراً بـ"النقطة" التي على كل شخص دفعها. مثلاً "100 جنيه من المعلم سعد". ومن جهة اخرى، يقول ابو مصطفى ان نوعية الموسيقى اختلفت "كان في سميعة، دي الوقت ما حدش جاي يسمع". واذ يقول أحدهم ان الهدف الوحيد من الأفراح هو جمع الأموال و"النقوط"، ينفي آخر الأمر نهائياً. حتى ان الأموال التي كانت تعود في معظمها الى الفرقة والراقصة، باتت الآن تذهب الى اصحاب الفرح. وتبقى المهمة الشاقة على "النبطشي" الذي يجب أن يكون حذقاً كي يدفع الحضور الى اخراج الأموال من جيوبهم.

تعليقات: