«أبو مصطفى» هو آخر من يصنع السكاكين والفؤوس في عكار

 ابو مصطفى وابنه يقوّمان الحديد قبل صناعته
ابو مصطفى وابنه يقوّمان الحديد قبل صناعته


ذهبــت الحرفــة ولــم يبــق ســوى الصيــت..

عكار:

يحنّ أبو مصطفى اسكندر لأيام خلت، يوم كانت بلدته كوشا تعج بالمتبضعين والتجار، الذين يقصدونها من كل حدب وصوب، بهدف الحصول عما يحتاجونه من أدوات كانت تعتبر الأساس في حياتهم اليومية واستعمالاتهم الزراعية: منجل الحصاد، الحاشوشة، الساطور، السيخ، المعول، المجرفة، الفأس والسكاكين على اختلاف أنواعها وأحجامها... يومها كان أهل كوشا سباقين بمثل هذه الصناعات ومحط أنظار جميع المزارعين والتجار الذين كانوا يقصدونها من البلدان المجاورة لتأمين طلبياتهم بالمفرق والجملة. فيمضي الأهالي، الذين لم يعرفوا يوماً حرفة أخرى، أياماً وليالي لتأمين الطلبيات في الوقت المحدد، محولين بذلك بلدتهم لمتحف حي يعجّ بالمعروضات من مختلف الأشكال والألوان، حتى ارتبط اسم كوشا بصناعة السكاكين.

أما اليوم فذهبت الصناعة ومعها الأيام الحلوة، ولم يبق سوى «الصيت»، بحسب الحاج أبو مصطفى الذي يعزو أسباب تراجع هذه الصنعة الى التحول الذي طرأ على المجتمع الزراعي التقليدي، فأحدث معه تحولات كبيرة في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فحلّت الزراعة الممكننة مكان الزراعة التقليدية وتراجعت تربية المواشي، أما البلدان المجاورة فحدّثت صناعاتهــا وباتــت تصرّف منتجاتها في أسواقنا المحلية بأسعار منخفضة، والشباب لم يجدوا نفعاً من تعلم هذه الحرفة المتوارثة الــتي كانت تعتبر أمراً واقعاً يفرض عليهم مزاولتهــا، فهي لا تــؤمن مدخولاً جيداً ولا ترضي طموحاتهم حتى باتت تمارس كهواية قل هواتها.

يستأنس أبو مصطفى، وهو آخر من بقي من جيل الصناعيين ببعض الأعمال التي يقوم بها بمساعدة ابنه في محاولة منه لاحيائها قدر المستطاع، مع قناعته التامة بأنها ستندثر مع وفاته. الا أنه لم يتعب من جمع المواد اللازمة لصنعته، التي تقتصر على قرون الماعز والخردة التي يسعى لتأمينها من محلات فرط السيارات والتي تتطلب جهداً كبيراً في تحوليها الى مادة مطواعة، فيجهد الرجل السبيعيني بتحميتها على الموقدة التي يؤجج لهيبــها بمنفخ يدوي لتوفير الطاقة الكهربائية، من ثم يدقها على «السندان» ليصنع بها الشكل المطلوب قبل جلخها، على أن تلمع بوضع الزيت الذي يزيد من حدتها وفعاليتها في القطع. أما قرون الماعز والغنم التي تعد الأساس لصنع «نصــاب السكاكين» أي المسكة، فتشوى على النار لتلين وتجلّس بالملاقط الخاصة بها لإعطائها الشكل والحجم المطلوبين قبل أن تبرد وتنعم وتقص من الوسط حيث يتم زرع الشفرة والمسامير. ويشير أبو مصطفى إلى أن هذا النوع من السكاكين هو الأكثر طلباً، خصوصاً من قبل الصيادين ورعاة المواشي وحتى الشباب الذين يتباهون بمن يحمل أجمل سكين. مؤكداً أن هذه الأعمال تتطلب مهارة وإتقانا مما يفرض عليه الدقة في العمل، فهو لا يستطيع إنجاز أكثر من قطعتين في اليوم الواحد، مما يجعل ثمنها مرتفعاً بعض الشيء إذ يبلغ سعر منجل الحصاد ذي الحجم الكبير 25 ألف ليرة والحاشوشة 9 آلاف ليرة والساطور 30 ألف ليرة، فيما السكين الصغيرة الحجم التي لا يزيد طولها عن 3 سنتم والتي تستخدم كحمالة مفاتيح فتباع بسبعة آلاف ليرة.

يعمد أبو مصطفى الى تجهيز المواد وترتيبها تحسباً لأي طلبية مفاجئة. فزبائنه معروفون وهم بغالبيتهم من الفلاحين وأصحاب المواشي البسطاء، أو بتعبير أفضل من الذين لم يعرفوا أو يتعاملوا مع المكننة الحديثة، فهم ما زالوا لغاية اليوم يستخدمون «الحاشوشة» في تأمين طعام المواشي «والمنجل» في أوقات الحصاد، «والفراعة» لتقطيع الحطب... مع بعض الاستثناءات، حيث يؤمن بعض الطلبيات الى الخــارج بواســطة أبناء البلدة المهاجرين الذين يستمتعون بهذه الأعمال ويبـدون إعجابهم الشديد بها.

بالرغم من السعادة التي تغمر أبو مصطفى أثناء الحديث عن العمل ومراحله المتعددة، الا أن ملامح وجهه سرعان ما تتبدل عند تذكره واقع الحال المرير، فهو لا يخفي حزنه وأسفه الشديدين على هذه الحرفة التي تحولت الى نوع من التراث «فالآلات حلت مكان كل شيء، حيث استبدل منفخ الفحم بمنفخ كهربائي، «والمدأب العربي» أي الآلة التي يتم ثقب الحديد والخشب بها بمقدح على الكهرباء، أما المبرد الذي كان يستخدم لتنعيم العصي فاستبدل بالفأرة الكهربائية التي تنعم بسرعة قصوى».

تعليقات: