شكراً عون... شكراً جزين


ما من موقعة بلدية، في طول لبنان وعرضه، تحمل الدلالات «العونية» التي تحملها معركة بلدية جزين.

ففي موازين القوى الانتخابية أولاً، وحدها جزين مثّلت ساحة المواجهة العارية بين ميشال عون وخصومه، كل خصومه المسيحيين، وزيادة، من دون أي عوامل تشويش للحسابات أو تمويه للأحجام.

ففي زحلة مثلاً، كان الاستحقاق مجرد استفتاء، فيما كان الانتصار مشوباً بصوت شيعي مرجّح. وفي جبيل اختلطت الأرقام والاتجاهات وهويات الفرز. قيل إن آل حواط ليسوا بعيدين أصلاً عن الجنرال، وقيل عن الأرمن والشيعة ولا أبوَّة الفوز...

في جونية في المقابل، كان التحالف عريضاً جداً، لا يظهر فيه رأس، ولا يصلح للقياس. حتى في حدث بعبدا، حيث الانتصار العوني كان مدوياً، لم يكن الخصم حاسر الرأس، ولا راصّ الصفوف، بما يكفي لتحوّل المواجهة ساحة تصفية نهائية...

وحدها جزين فرزت كل القوى. بلا رمادية ولا لبس ولا غموض من أي نوع كان. لائحتان مكتملتان. أبيض على أسود. كل مسيحيي قريطم وملحقاتها وروافدهم في جهة، وفوقهم ـــــ بالمعنى الحرفي للكلمة ـــــ ثقل إضافي هو سمير عازار، ومن خلفه. وفي جهة مقابلة ميشال عون. فكانت النتيجة، فارقاً، وفاروقاً، ومفترقاً مهماً للأحجام، ولجزين... غير أن هذه الدلالة الانتخابية، تظل على أهميتها تفصيلاً ثانوياً إزاء الدلالة السياسية. ففي السياسة ومؤشراتها الأكثر عمقاً، يبرز الآتي:

لم تحصل مواجهة ميشال عون وخصومه تلك في جبل لبنان النائي عن الخيارات الجذرية المطروحة من الفريقين. ولا كانت ساحتها عذراء فكرية، غير قابلة لدنس المطارحات الحزبية والايديولوجية منذ عقود. مع ما تحمله من عنف ودم ولون أسود وأطر فضية...

في جزين، كانت المعركة على أرض خبرت كل الأفكار، وعاينتها وعانت منها، وخارت من تداعياتها، قبل أن تختار. ولفهم هذا البعد للمواجهة، لا بد من التذكير ولو مرة أخرى، بخصوصية هذه البنية الجغراسياسية والديموغرافية و«الجماعاتية»، التي اسمها جزين. هي حجر وسط قبة العقد اللبناني. في زاوية الجبل والجنوب والبقاع. بين امتدادات درزية وسنية وشيعية، وهي تاريخياً يد جبل لبنان الممتدة إلى جبل عامل. صافحها الأخير فانفتحت عليه، ولم تنسلخ عن جبلها. وهي المختبر المسيحي ـــــ ولا يمكن لمختبر لبناني أن يكون غير مسيحي، بحسب الواقع والتجارب. مختبر التلاقي بين كل جماعات لبنان، على تماس الخصوصيات والذاتيات وأوهام الانغلاق وأساطير التوسع.

في جزين، يمر الخوف الدرزي من فصل الشوف عن وادي التيم. ويعبر القلق الشيعي من بتر الجنوب عن البقاع. ويقيم التوجس السني من عزل شريط صيدا وجوارها، ذعراً من «تجزير» كل المدن السنية، أي تحويلها جزراً في محيطات مغايرة...

وسط تلك المطحنة الكبرى من العوامل، قام في جزين للحظة «خيار الشيطان»، على قاعدة سيطرة غريزة البقاء، والاضطرار إلى المحظورات بحكم الضرورات. فكان في جزين سعد حداد، وكان فيها أنطوان لحد، وكانت فيها دماء كثيرة وسواد كثير، وناس يستحقون الكرامة البشرية، مهما كانت مواقفهم، وأياً كانوا.

في المقابل، وفي ردّ فعل مناقض لذلك المحظور، وجد في جزين خيار آخر معاكس: «الذمية» لبعض المحيط، والتبعية لمرجعياته القوية. أكانت من لبنان أم من خارجه... على مدى عقود، أعطي الناس في جزين خياران اثنان، لا ثالث لهما:

إما أن تكون عميلاً لإسرائيل، وإما أن تكون ملتحقاً ومستتبعاً لمن هو ضد إسرائيل...

هذا الأحد، ومنذ 7 حزيران الماضي وما قبله، أعطى ميشال عون لأبناء جزين خياراً ثالثاً: أن تكون ضد إسرائيل، وألا تكون تابعاً لأحد. في المقابل، كانت كل بروباغاندا الخوف من ولاية الفقيه ومن الذمية المزدوجة أو المعكوسة، ماثلة في خطاب الفريق الآخر.

حين قال أبناء جزين كلمتهم، اختاروا أن يكونوا متصالحين مع ذاتهم أولاً، ومع الآخر المحيط ثانياً، ومع فكرة لبنانهم ثالثاً...

فاستحقوا النصر، واستحق ميشال عون وجزين الشكر.

تعليقات: