حرب تموز في لبنان والاتجاه المعاكس...


1- مقدمة

بين الثاني عشر من تموز 2006، الرابع عشر من آب 2006 مسافة زمنية قصيرة نسبياً، لكنها تختصر كل التاريخ...

إنها المسافة الزمنية الفاصلة بين النصر والهزيمة، بين الإحباط والأمل، بين الخوف والإقدام، بين الشك واليقين، بين القلق والطمأنينة، بين التراجع والتقدم، بين العز والذل، بين الكرامة والمهانة، بين القوة والضعف، بين الإيمان والكفر، وهي كذلك المسافة التي تفصل بين النكسة وإرادة الانتصار.

كي تنتصر يجب أن تمتلك إرادة الانتصار، إذ لم يسجل التاريخ انتصاراً مادياً لأمة مهزومة روحياً ونفسياً، والأهم في حرب لبنان 2006 أننا امتلكنا إرادة الانتصار، إرادة الصراع، إرادة المواجهة، إرادة المقاومة، إرادة الممانعة، فكان الصمود، وكان التصدي، وكانت المعجزات التي تجسدت فعلاً مقاوماً قلب المعادلات وأجهز على المخططات التي رصدها أعداء أمتنا لتدمير إرادة الحياة فينا، أي إرادة الصراع من أجل الحرية والتقدم، ومن أجل الاستقلال الحقيقي والسيادة الحقيقية والحرية الحقيقية.

2- السياق الموضوعي لحرب تموز 2006

في الثاني عشر من تموز 2006 قامت المقاومة اللبنانية بعملية أسر لجنديين إسرائيليين بعد مواجهة قتالية ميدانية أدت، في ما أدت إليه إلى مقتل وجرح بعض الجنود الإسرائيليين.

وفي اليوم ذاته، يعقد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مؤتمراً صحافياً، يشرح فيه أهداف هذه العملية التي أطلق عليها تسمية "الوعد الصادق" في إطار تحرير الأسرى اللبنانيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي، من خلال تفاوض غير مباشر عبر طرف ثالث، ويعلن في هذا المؤتمر الصحافي أن لا تراجع عن خيار التفاوض غير المباشر وتبادل الأسرى، ويعلن "أنه لو جاء العالم بأسره لن يتم إطلاق الجنديين الإسرائيليين خارج إطار التفاوض والتبادل".

المعادلة كانت واضحة، لبنان في حالة صراع مع دولة إسرائيل، إسرائيل تحتل أجزاء من الأرض اللبنانية، إسرائيل لديها أسرى لبنانيين، ومنهم من قضى سنوات طوال في سجونها. إسرائيل لديها خرائط ألغام، وهي تخرق في شكل شبه يومي السيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً.. إسرائيل تنفذ أعمال انتقامية باستمرار في داخل لبنان، وليس آخر هذه الأعمال اغتيال الأخوين مجذوب في صيدا، إضافة إلى الاختراقات الأمنية الكثيرة.

إذاً، العملية التي قامت بها المقاومة، بالمعنى العسكري، هي عملية محدودة، ومربوطة بأهداف واضحة ومشروعة.

في الثاني عشر من تموز أي في اليوم نفسه لعملية الأسر، يشن العدو الإسرائيلي عدواناً شاملاً براً وبحراً وجواً، يستهدف فيها المدن والقرى والبنى التحتية والمرافق الحيوية العامة، من مطارات ومحطات وقود ومحطات كهرباء وجسور وطرقات ومبانٍ سكنية ومصانع ومشاريع زراعية، وغيرها، ليطال في هذا العدوان المدنيين الأبرياء، من نساء وشيوخ وأطفال، ويرتكب خلاله المجازر الوحشية، وجرائم حرب يندى لها جبين الأحرار والشرفاء على مدى هذا العالم.

ثلاثة وثلاثون يوماً يشن خلالها العدو الإسرائيلي حرباً تدميرية شاملة حاقدة وشرسة في آن، وينتهك في سياقها كل الأعراف والمواثيق والمعاهدات الدولية التي تحظر التعرض للمدنيين، وللبنى التحتية، وكل ذلك تحت عنوان "حق الرد" على ما أسماه العدو "عملية اختطاف جنديين".

مضحك ومبكٍ، في آن، هذا المجتمع الدولي المريض، المصاب بعمى الألوان، والمصر على رفع راية "ازدواجية المعايير" في شكل غير مسبوق.

في الداخل اللبناني، تسارعت التطورات، حيث سارعت بعض القوى السياسية إلى انتقاد المقاومة على عملية الأسر تلك، وبدأت بعض الأصوات تُحمَّل المقاومة مسؤولية وتبعات هذه العملية، وبدأت حملات التشكيك والطعن بمشروعية تلك العملية، وذهب البعض بعيداً في خياله لدرجة التشكيك بأهداف العملية، من خلال ربطها بما سماه " أمر عمليات" من خارج الحدود.

على المستوى العربي، بدأت المواقف تتكشف عن ما يشبه التغطية السياسية للعدوان الإسرائيلي، إذ حمَلت المملكة العربية السعودية المقاومة على لسان بعض المسؤولين فيها، بأنها تورط لبنان في مغامرة غير محسوبة، فيما انتقدت مصر عدم التنسيق بين المقاومة والحكومة اللبنانية، في ما يبدو أنه محاولة لتعرية المقاومة داخلياً وكشفها عربياً، وإعطاء ضوء أخضر ضمني لبدء الحملة الإسرائيلية على لبنان، أو على الأقل تأمين تغطية سياسية كافية لضرب المقاومة وشن العدوان على لبنان.

وبعد بضعة أيام من انطلاق آلة الحرب الإسرائيلية التدميرية الهائلة، عُقد في القاهرة اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب، وتكشف هذا الاجتماع، وللمرة الأولى، عن عجز عربي فاضح، وعن شرخ كبير في الموقف العربي الرسمي تجاه الأحداث المتلاحقة، سواء في لبنان، أو في فلسطين، وطفت على السطح التناقضات الكبيرة في المواقف العربية. وحصل الفرز السياسي على كل الساحة العربية، فشل الاجتماع، وفشل فيه العرب حتى في الاتفاق على الحد الأدنى من موقف عربي متماسك يشكل مظلة سياسية لحماية لبنان في مواجهة الحرب عليه، وأطل الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، ليعلن موت عملية السلام، وفشلها في وضع حد للصراع العربي - الإسرائيلي. كما أعلن وضع العملية السلمية برمتها في عهدة مجلس الأمن الدولي، ومنظمة الأمم المتحدة، في اعتراف واضح بعدم القدرة، والضعف، وغياب روح المبادرة العربية.

3- السياق السياسي العام لحرب تموز 2006

في بداية التسعينيات، انطلقت ما سميت آنذاك "عملية السلام في الشرق الأوسط" تحت شعار "الأرض مقابل السلام"، وقد أتت هذه العملية بعد سلسلة أحداث شهدها العقد الثامن من القرن العشرين من اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1982، إلى المراحل الأخيرة من الحرب اللبنانية في منتصف الثمانينات مروراً بحرب المخيمات الفلسطينية، وتداعياتها وتأثيراتها حول من يملك القرار الفلسطيني، إضافة إلى غيرها من الأحداث والتطورات المتلاحقة التي شهدها الصراع في تلك الآونة، وقد أشاع انطلاق تلك العملية أجواء تفاؤلية بعض الشيء بقرب انتهاء الصراع في المنطقة، وبإمكانية إرساء قواعد لحل سلمي شامل ينهي النزاع، ويحل السلام في هذا الجزء المتوتر من العالم.

حلم جميل راود، آنذاك، كثيرين من القادة العرب، وربما من الشعوب العربية، في الوقت الذي أيقن فيه العارفون بحقيقة هذا الصراع، وطبيعته، وجوهره، أن هذه العملية التفاوضية البعيدة المدى، التي بدأت مع مؤتمر مدريد، ما هي إلا مرحلة جديدة من مراحل الصراع التاريخي الطويل وإنْ بأشكال جديدة.

وبدأت المفاوضات بسيناريوهات مختلفة، وأشكال متعددة، وبدأت تتبدى مسارات تفاوضية عديدة، منها المسار الفلسطيني، ومنها المسار الأردني، ومنها بالطبع المسار اللبناني - السوري. وشهدت هذه المسارات مداً وجزراً، ومرت بمراحل متعددة، شهدت فيها المراوغة والدهاء والخبث والخداع من جانب العدو الصهيوني، وكان واضحاً أن هذه المفاوضات تريد إسرائيل من خلالها تحقيق أهدافها وفق رؤية متكاملة - من الوجهة الإسرائيلية- لدور إسرائيل وموقعها المحوري في الهيمنة على كامل الأمة، وعلى كامل المنطقة لإخضاعها، وكسر إرادتها، وإلحاقها بالمشروع الصهيوني الأمبراطوري، بعد ضرب كل عناصر القوة والمنعة لدى شعبنا، وقد أدت الجولات التفاوضية الماراثونية على المسار الفلسطيني، وبعد سنوات طوال، إلى اتفاقيات هزيلة لم تؤمن الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، وكان واضحاً للعيان النوايا الإسرائيلية المبيتة، ورفض تقديم أي تنازلات حقيقية جدية، لا في قطاع غزة، ولا في الضفة الغربية، و لا في أريحا حتى، وتم من خلال المفاوضات في أوسلو وواي بلانتيشين وكامب دايفيد 2 إقامة سلطة فلسطينية منقوصة السيادة، محدودة الصلاحيات، على جزء صغير جداً من الأرض، وقد خضعت هذه السلطة إلى مجموعة كبيرة من القيود والضوابط والعوائق التي تحول دون تشكيل حتى نقطة ارتكاز لتحقيق إنجازات جدية تقدمها للشعب الفلسطيني، وتعطي للتفاوض بعض المشروعية لطمأنة الإنسان الفلسطيني على حاضره ومستقبله، إضافة إلى أن جل تلك الترتيبات هي في الواقع الموضوعي ثمرة ونتاج نضال طويل للشعب الفلسطيني وانتفاضاته المتتالية، التي أجبرت الاحتلال على اعتماد الوسائل السياسية لإخفاء العجز العسكري على تطويع الإرادة الحرة الممانعة لهذا الشعب، وهكذا..

وكما على المسار الفلسطيني، كذلك على المسار الأردني، توصل الطرفان إلى توقيع اتفاق وادي عربة، الذي أرسى تسوية سياسية على الجبهة الأردنية بالشروط الإسرائيلية الكاملة، حيث تم تحييد الأردن بعد مصر من الصراع، وتم تحديد الإطار السياسي والأمني والاقتصادي للدور الأردني المستقبلي بما يتوافق والمصالح الإسرائيلية في ضبط الحدود مع قطاع غزة والضفة الغربية، وتشديد المراقبة على تلك الحدود، إمعاناً في محاصرة الانتفاضة والمقاومة للشعب الفلسطيني في الداخل، أي دور حرس الحدود الذي يمنع وصول إمدادات السلاح والمال إلى أبناء الشعب المحاصر.

وعلى المسار اللبناني - السوري، كانت الأمور تختلف بعض الشيء، إلا أن التعنت الإسرائيلي ورفض تقديم أي تنازلات حقيقية قي الجولان المحتل وجنوب لبنان، أفضى إلى انفراط عقد التسوية على هذا المسار الواحد، واستكمل لبنان تحرير معظم أراضيه، باستثناء شبعا، عن طريق المقاومة في العام 2000، فيما فشل التفاوض على الجبهة السورية، وعادت الأمور إلى النقطة ذاتها التي انطلقت منها.

بموازاة هذه التطورات في المنطقة، حصلت تطورات مهمة في العالم، إذ شهدت الإدارة الأميركية تغييرات جذرية، بوصول المحافظين الجدد واستلامهم دفة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، وانطلاق مشروعهم للهيمنة على العالم، متقاطعاً مع المشروع الصهيوني، وجاءت أحداث 11 أيلول لتعطي هذا المشروع اندفاعة جديدة، واتخذ من تلك الأعمال الإجرامية ذريعة لاندفاعة غير مسبوقة للعسكريتاريا الأميركية في العالم، تحت ذريعة " محاربة الإرهاب" فكان الهجوم على أفغانستان و من بعده الهجوم على العراق في العام 2003بذريعة امتلاكه لسلاح التدمير الشامل، وأعلنت الإدارة الأميركية صراحةً أن الهدف الاستراتيجي في هذا الجزء من العالم هو "إعادة رسم خارطة جيو - سياسية جديدة للشرق الأوسط، بما يتوافق والمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية" وهو المشروع الذي تمت لاحقاً تسميته ب "الشرق الأوسط الجديد" فكان اجتياح العراق، وما تمخض عن ذلك من مآسٍ إنسانية هائلة، ومن تدمير للعراق، كدولة، وكحضارة، وكبنية اجتماعية موحدة.

إذاً، أتم الأميركيون تدميرهم لحالة الستاتيكو السياسية، التي كانت قائمة قبل غزو العراق وأفغانستان، وأوجدوا ديناميات جديدة للمشروع الأميركي الهادف إلى تحقيق جملة من الأغراض السياسية والاقتصادية البعيدة المدى، إضافة إلى تعزيز دور إسرائيل في هذه المنطقة، ومدها بكل أسباب القوة والتفوق، وتقسيم المنطقة إلى إثنيات وعرقيات وطائفيات متناحرة متقاتلة تعتمد ديناميات التدمير الذاتي وفق خطة "الفوضى البناءة" أو " الفوضى الخلاقة"، وما شاكل من تسميات تحمل المضمون التدميري لكامل بنيتنا الاجتماعية والقومية والحضارية والإنسانية في هذا الجزء المعذب والمظلوم من العالم.

وفي الأثناء ذاتها، بدأ العمل الأميركي على الجبهة اللبنانية - السورية، باعتبارها نقطة الارتكاز في المشروع الشرق أوسطي الجديد للمنطقة، وبدأت عملية الضغوط تتصاعد على سوريا لفرض حصار غير معلن عليها، لخلق حالة من العزلة الدولية عليها تترافق مع محاولات اختراقها من الداخل، وصدر عن الكونغرس الأميركي قانون محاسبة سوريا، الذي شكل نقطة اللاعودة في الضغط المتنامي على سوريا، وصدر في العام 2004 قرار مجلس الأمن الذي حمل الرقم 1559، والداعي إلى انسحاب القوات السورية من لبنان، وإلى حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، في إشارة إلى المقاومة وسلاحها، وأيضاً المنظمات الفلسطينية وسلاحها في لبنان، وتطرق القرار إلى مسائل داخلية، كالتمديد لرئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود، وكان صدور هذا القرار إيذاناً بأن مرحلة جديدة من الصراع قد فتحت عبر لبنان، في إطار رؤية أميركية أخذت طريقها نحو التنفيذ. وبعد ذلك بقليل، بدأت الاغتيالات في لبنان لشخصيات لبنانية عديدة، كان أبرزها اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إضافة إلى قادة سياسيين آخرين، لهم دورهم وتأثيرهم على الساحة اللبنانية. وحدثت بعد ذلك تطورات هامة في لبنان، تمثلت بانسحاب الجيش السوري منه، وتشكيل لجنة التحقيق الدولية للنظر في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وكذلك أجريت انتخابات نيابية أدت إلى فوز فريق 14 شباط بأكثرية نيابية مكنته من الضغط باتجاه تشكيل حكومة تعكس نجاح هذه الأكثرية في استلام مقاليد الحكم في البلاد.

ومنذ تلك الأثناء، طفى على سطح التجاذبات السياسية موضوع المقاومة وسلاحها، وشكل هذا العنوان، والموقف منه، محور كل التحالفات والاصطفافات السياسية للقوى اللبنانية المتعددة، وتم تظهيره بكل الوسائل على أنه أولوية في سلم التحركات السياسية الدولية باتجاه المنطقة.

وعلى هذه الخلفية السياسية المتشنجة، تم ابتداع طاولة الحوار اللبناني، التي ضمت ممثلين عن القوى السياسية المختلفة، والتي تطرقت إلى جملة بنود ومواضيع، منها السلاح الفلسطيني، ومنها رئاسة الجمهورية، العلاقات اللبنانية - السورية. وأخيراً كان الحوار في جولته الأخيرة، وما قبل الأخيرة، يتناول موضوع الاستراتيجية الدفاعية للبنان في مواجهة التهديد الإسرائيلي الدائم عليه.

هذا هو المناخ السياسي العام الذي سبق العدوان الإسرائيلي على لبنان، الذي بدأ بذريعة عنوانها "استعادة الجنديين الأسيرين" وتطورت لاحقاً لتصبح على لسان وزيرة الخارجية الأميركية الدكتورة كونداليزا رايس " نقطة الانطلاق لمشروع الشرق الأوسط الجديد من رحم الآلام والمعاناة في لبنان".

إن القراءة التحليلية الهادئة المعمقة للوضعية السياسية والأمنية القائمة قبل اندلاع حرب تموز، وربط كل تلك التطورات السياسية والأمنية التي سبقتها بعضها ببعض، يعطي صورة واضحة لا لبس فيها لحقيقة ما يجري، وما يراد له أن يكون في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق، أي في كامل المنطقة.

4- مالذي حصل في لبنان ؟

ما حصل حقيقةً هو أن جولة حاسمة من جولات الحرب الشاملة التي تشنها إسرائيل على شعبنا، منذ قيام الكيان الصهيوني في قلب أمتنا وعالمنا العربي، قد انتهت.. ولكن الحرب لم تنته.

هذه حقيقة يجب أن تبقى ماثلة في عقولنا والأذهان، فالخطر الإسرائيلي يمثل تهديداً حقيقياً لحاضر ومستقبل أمتنا، خاصةً في ظل انعدام أي أفق لتسوية سياسية مع كيان من طبيعة خاصة، ويمثل جوهر المشكلة في المنطقة بأسرها، وما حصل يشكل دافعاً إضافياً للتفكير الجدي في كيفية ردع هذا التهديد، ومواجهته عبر تنمية القدرات الدفاعية لدولنا وشعوبنا، وتمتين ثقافة المقاومة والصمود وتعزيزها، وبناء الثقة بالذات، وبالقدرة على الانتصار، ومحاربة ثقافة الهزيمة والاستسلام والقدرية والتراجع والخوف، والاستلاب العقلي والانقياد الأعمى وراء سراب "السلام الموهوم" الذي لا أساساً حقيقياً وواقعي لقيامه مع دولة استيطانية قامت على ثقافة الإلغاء والهدم والاستيطان والتوسع والإرهاب بكل أبعاده وأشكاله وأساليبه الإجرامية.. إننا نواجه بالدرجة الأولى ثقافة هدامة حاقدة، مرضية في هلوساتها، ومدمرة في استهدافاتها القريبة والبعيدة، وشيطانية في إغراضها الأخيرة.

ما حصل في 12 تموز هو حرب إسرائيلية - أميركية لضرب كل عناصر المنعة والقوة لدى شعبنا، وعلى رأس قائمة الاستهداف لبنان بدولته وشعبه ومقاومته، وذلك لفرض واقع سياسي جديد في لبنان، يتوافق والرؤية الأميركية لشرق أوسط جديد، تكون فيه إسرائيل المحور الأساسي الذي تدور في فلكه بنى هشة غارقة في صراعاتها التي لا حدود لها، ولتحقيق الهيمنة الأميركية الكاملة على كامل ثرواتنا ومقدراتنا، والقضاء على المستقبل لشعوبنا في حياة حرة كريمة تنعم بالرخاء والأمن والتقدم والازدهار.

5- هل تحقق الهدف الإسرائيلي من الحرب؟

بعد مرور ثلاثة وثلاثين يوماً على الحرب المفتوحة على لبنان، جاء وقت التقييم وإجراء مراجعة شاملة لما حصل، وطرح التساؤلات حول ما جرى.

لن نقول انتصرنا أو لم ننتصر، لأن النصر والهزيمة مفاهيم نسبية متحركة ومعقدة للغاية، وللحرب، أي حرب، هدف استراتيجي، أي هدف بعيد المدى يترافق مع خطوات تكتيكية باتجاه الهدف الاستراتيجي الكبير.

ما هو الهدف الأميركي - الإسرائيلي من حرب تموز على لبنان؟ الجواب: الاستيلاء الكامل على لبنان.

ما هي الخطوات تكتيكية للوصول إلى هذا الهدف؟ ضرب المقاومة في لبنان، أي ضرب البنية التحتية العسكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية لحركة المقاومة في لبنان، تمهيداً لفرض معادلة سياسية - أمنية جديدة تجبر حزب الله على تسليم سلاحه، وبذلك تكون قد ضربت موقعاً مقاوماً أساسياً في مواجهة المشروع الكبير القادم.

في قراءة النتائج، نجد أن المقاومة، وحزب الله بالتحديد، خرج من هذه الحرب أكثر منعة، وأكثر قوة، وأكثر رصانة، وأكثر احتراماً، وأكثر احتضاناً، ليس فقط من شعب لبنان، وإنما من كل الشعوب العربية والإسلامية والصديقة، والأهم أنه بات أكثر تصميماً على المواجهة.

في النتائج الاستراتيجية، نجد هذه المعركة حددت اتجاه سير حركة التاريخ والجغرافيا، ولعل المؤشرات الأكثر جدية تلامس حقيقة أن المشروع الصهيوني سيسقط عاجلاً أم آجلاً، فهو مشروع غير طبيعي ولا يدور حول محور حركة الحياة، وبالتالي لا يستطيع الاستمرار، بيد أن المسألة هي مسألة وقت.

ما أوردته ليس مبالغة في توصيف الانتصار، كما أن ما يقوم به الإسرائيليون ليس مبالغة في توصيف الهزيمة. هنالك حقيقة حتى الصهاينة يدركونها جيداً، وهي أن إسرائيل تعودت على الانتصارات السريعة في حروبها المتتالية، وقد أعطتها هذه الانتصارات ثقة بالنفس عالية، لدرجة أنها استهزأت بالعدو ولم تحسب له الحساب الكافي، إسرائيل اعتقدت أن الحرب ستكون سهلة وغير مكلفة وفعالة في ضرب بنية المقاومة وتفكيكها.

الإسرائيليون يفكرون بطريقة مشابهة للعام 1982، الأمر اليوم مختلف. وهذا ما أدركه قادة العدو متأخرين.

هذه الحرب كانت حرباً غير تقليدية بكل المقاييس، وإسرائيل لم تدرك أنها تتعاطى مع خلايا قتالية مرنة تملك المبادرة العسكرية بالكامل، لذلك إسرائيل لم تحقق أي انتصار حقيقي، لا عسكري، وبالتالي لا سياسي.

الهدف من الهجوم كان فك الارتباط بين المقاومة وبين شعب المقاومة، أي بين المقاتل الاستشهادي في مواقع العز، وبين الحاضنة الشعبية لهذه المقاومة، وأهم ما حصل خلال المواجهات هو هذا الالتحام العضوي بين المقاومة وبين أهلها وشعبها وناسها في كل قرية، وفي كل مدينة، وفي كل دسكرة، هنالك انتصار تاريخي كبير تم تحقيقه.

هنالك علم جديد يجب أن نعلمه للأجيال، هو علم المقاومة والانتصار، وما حصل في جنوب لبنان سيترك انعكاساته على كامل المنطقة، وسيؤثر إيجاباً على موازين القوى القائمة.

السياسة الأميركية في لبنان تلقت ضربة قوية، والمراهنون على سياستها تلقوا صفعة قوية أيضاً، وتعثر السياسة الأميركية في لبنان سيعرقل إلى حد بعيد قيام "الشرق الأوسط الأميركي الجديد" لصالح قيام "شرق أوسط مقاوم وأكثر حداثة".

تعليقات: