مطعم «الساحة».. قرية لبنانية في قلب لندن

 مطعم  الساحة: قرية لبنانية في قلب لندن
مطعم الساحة: قرية لبنانية في قلب لندن


يملك 21 ألف قطعة أثرية وهدفه نشر ثقافة القرى اللبنانية حول العالم

كل حجارة المطعم والتفاصيل من أبواب ونوافذ وقمريات جلبت من قرى لبنان..

لندن:

إذا زرت القرى اللبنانية ستكون حتما مدركا لأهمية الساحة في كل قرية، فهي المساحة المفتوحة التي يجتمع فيها الشيوخ والشباب والنساء، ومنها تنطلق الأقاويل وفيها يجتمع الأحباب وتقترب القلوب بعضها من بعض، فساحات القرى في لبنان هي العمود الفقري لكل قرية ومن دونها لا تكتمل صورة التراث وهوية الأجداد والآباء. إلا أنه وفي ظل الزحف المعماري والتطور والهجرة الداخلية في لبنان، بدأت صورة القرية التراثية تهاجر هي الأخرى، ومن هنا خطرت فكرة لدى المهندس المعماري اللبناني جمال مكي الذي عمل جاهدا على استغلال كل حجر وكل قطعة أثرية وقعت تحت وابل الهدم تحت شعار التطوير والحداثة. والنتيجة كانت مشروعا سياحيا تراثيا ثقافيا وخيريا، فانبثقت فكرة إنشاء مشروع مطعم تراثي يحمل اسم «الساحة» على أطراف الضاحية الجنوبية التي تغص بالمباني الإسمنتية، والمشروع تابع لجمعية المبرات الخيرية، وهدف المشروع هو نشر الثقافة والتراث اللبناني، وفي الوقت نفسه المساهمة في إعانة الأيتام.

قصة نجاح مطعم «الساحة» في لبنان لم تنته في العاصمة اللبنانية، لأن رحلة نشر الحضارة اللبنانية وثقافة الأجداد، كان لا بد أن تسافر وتنتشر تماما مثلما هو معروف عن اللبنانيين، فافتتح فرع آخر للساحة في قطر، وآخر في السودان، وافتتح أول فرع في أوروبا في الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي في لندن، ومن المقرر أن يفتتح فرع جديد في الكويت قريبا.

عند وصولك إلى فرع «الساحة» في حي بادينغتون في قلب لندن، سيكون العلمان البريطاني واللبناني بانتظارك، وبمجرد الدخول إلى الطابق الأعلى من المكان سوف تشعر وكأنك سافرت على متن رحلة من نسج الخيال أو كأنك سافرت على بساط الريح.. ديكور داخلي من الحجارة، على الجدران والأرضية المرصوصة من حجارة صغيرة تشكل نقوشات ورسومات، والقناديل تتدلى من الأسقف، ففي كل زاوية فكرة تجسد القرى اللبنانية، وفي الخلفية يصدح صوت الأسطورة فيروز. أثاث المطعم لافت للنظر، لدرجة أن المارة في الشارع الرئيسي في الخارج يتوقفون لسرقة نظرة سريعة تشدهم إلى الدخول والتعبير عن إعجابهم بذلك الصرح الذي يشبه بهندسته وتصميمه المتاحف.

وفي لقاء لـ«الشرق الأوسط» مع موسى عقيل، أحد القائمين على المشروع، قال إن هذا المطعم هو بمثابة رسالة وانذار في الوقت نفسه، ففي لبنان بدأت القرى تفقد هويتها، وبدأت ذاكرة اللبنانيين تخونهم، فكان لا بد من القيام بمشروع ينشط ذاكرة اللبنانيين ويحثها على عدم التخلي عن التراث والثقافة، التي تعتبر رأس مال كل لبناني في لبنان والخارج.

ويضيف عقيل «بدأت الفكرة منذ 8 سنوات في لبنان، وهدف المشروع هو نشر الثقافة اللبنانية وتقديم الأكلات اللبنانية في قالب قروي، ففي لندن توجد عدة مطاعم لبنانية، إلا أن مطعم «الساحة» يختلف عن باقي المطاعم، فهو يتعدى كونه مجرد مطعم يقدم الأطباق اللبنانية المعروفة عربيا وغربيا، فالهدف هو تقديم أكلات «الأمهات والجدات» التي تحتوي على النكهة والطزاجة والمكونات الجيدة.

وبحسب عقيل، الذي جاء مع فريق مؤلف من 6 أشخاص لتدريب الموظفين في فرع لندن الجديد، فإن النظام الذي يتبع في أي مطبخ تابع للساحة هو تحضير المأكولات في وقتها (A La Minute)، وإن كان هذا الأمر لا يروق لبعض الزبائن الذين يتأففون من فترة الانتظار التي تصل في بعض الأحيان إلى 15 دقيقة، ولكن وبعد تذوق الأطباق يدرك الزبون أن الانتظار مهم للحصول على طبق طازج.

وعن الديكور اللافت في المطعم يقول عقيل إن الساحة تملك حاليا 21 ألف قطعة أثرية تم جلبها من بيوت آلت إلى السقوط أو قام أصحابها بهدمها لإنشاء عمارات شاهقة بدلا من تلك البيوت التقليدية التي تتميز بقناطر «عقد» من الحجارة المرصوصة. وفرع الساحة في لندن تم بناؤه من خلال شحن كل الحجارة وجميع التفاصيل من أبواب ونوافذ وقمريات وخواب وجرار فخارية وبندقيات أثرية من لبنان.. وتم استعمال حجارة وأرضية 15 منزلا قديما في بيروت، ويروي موسى لنا قصة طريفة مفادها أن اللبنانيين كانوا في الماضي يرمون القطع القديمة من مكاو ومحادل وغيرها من القطع التي زال استعمالها في أيامنا المعاصرة، ولكن بعد افتتاح مشروع «الساحة» راح الناس يحتفظون بتلك القطع لبيعها للساحة لأنها أفضل من قدر القطع الأثرية التي تشهق بالتراث وتتكلم باسمه.

فمن الطابق العلوي للمطعم تصل إلى الطابق السفلي عبر سلم من الخشب والحجر، لتفاجأ ببراح واسع، فالطابق السفلي واسع جدا وتم تقسيمه بشكل ذكي جدا للاستفادة من كل المساحة المتوافرة، وفي الوقت نفسه لتأمين الخصوصية للزوار، فالسقف هو عبارة عن قطع من الخشب قديمة، والأرضية من الموازييك، وتم جلبها هي الأخرى من بيوت لبنانية قديمة، وهي أشبه ببساط ملون يتوسط حجارة بيضاء تم استعمالها في كل أرجاء المكان وعلى الجدران، وتقسيم المكان مناسب للحفلات الخاصة، فتحت كل قنطرة جلسة مختلفة، منها التي تحوي مقاعد تكسوها الأرائك الحمراء التقليدية مع المندلون الأثري على الجدار ليشكل روعة حقيقية في التصميم. وتم استخدام الإنارة الخافتة في ثنايا وزوايا المكان، وجميع الطاولات مميزة ويختلف بعضها عن بعض من حيث الشكل ولكن معظم قواعدها استعملت فيها ماكينات الخياطة الحديدية التي كانت توجد في الماضي في كل بيت لبناني وغالبا ما تكون من ماركة «سينغر»، وبين القسم والآخر من الطابق السفلي تقف أبواب أثرية من الخشب تحمل عليها عبارات بالعربية، إضافة إلى جمالها وإعطائها رونقا خاصا للديكور، إلا أنها تقوم بتحويل المكان إلى عدة أقسام. اللافت في القسم السفلي من المطعم هو الأسماء التي أطلقت على كل قسم وجلسة من المكان، فهناك حارة «باب إدريس»، و«زقاق البلاط» بالإضافة إلى أسماء شهيرة أخرى معروفة في بيروت، ولم ينس مصمم ومنفذ الديكور زاوية «المعلم أغوب» الأرمني. سوف تفاجأ بالتفاصيل الصغيرة على الجدران والأرضية والسقف، ففي كل زاوية مفاجأة صغيرة، مكواة على الفحم في زاوية هنا، ومندلون بيزنطي في جدار الزاوية هناك، فلم يغب عن بال المصمم أي شيء، حتى الباب المؤدي إلى الحمام، فقد تم استخدام طريقة تقليدية لسحبه من خلال ماسورة وحبل مخفيين خلفه ليتماشى مع الفكرة العامة للمشروع.

وفي الطابق السفلي يقع المطبخ الرئيسي في المطعم، وتجد على أحد جدرانه شهادة «آيزو» 22 ألف ISO 22000 لصحة وسلامة الغذاء. وشدد عقيل على موضوع السلامة والتقيد بحذافيرها لتفادي أي نوع من التسمم، ويقول عقيل «إن التعاطي مع مكونات الأكل خاصة اللحوم والأجبان والألبان يجب أن يكون مدروسا جدا، فإذا لم يتم التعامل مع تلك المكونات بحذر فمن شأنها أن تؤدي إلى التسمم لا قدر الله، لذا يحرص المسؤول في المطعم عن المشروبات والمأكولات على فحص جميع الطلبيات من اللحوم وغيرها باستعمال ميزان حرارة للتأكد من سلامتها قبل إدخالها المطعم».

وعن القرية اللبنانية يقول عقيل إنها وللأسف على طريق الزوال، فالكثير من سكان القرى نزحوا إلى المدن تاركين وراءهم ثقافتهم الحقيقية وبيوتهم القديمة والجميلة، والساحة أصبحت فارغة ليس فيها إلا صدى ورنين السكينة، فأنيس فريحة عنون كتابه الذي أصدره في عام 1957 «القرية اللبنانية حضارة على طريق الزوال» محذرا فيه من اندثار القرى، وهذا الكتاب وبحسب موسى كان محفزا على تحقيق هذا المشروع الذي يجسد القرية ويحمل في طياته الحنين إلى تلك الأيام التي ولت وحلت محلها حياة ملؤها السرعة والضغط.

وأضاف عقيل أن «الساحة» في لندن ليس في وارد المنافسة التجارية مع أي مطعم لبناني آخر، فالمشروع فريد، والمغذى مدروس، فهمّ المهندس جمال مكي مدير عام مجموعة «سنابل» للدراسات الحضارية وصاحب فكرة المشروع، الذي أسسه المرجع الشيعي السيد محمد فضل الله، هو تجميع أكبر عدد من المقتنيات الأثرية من البيوت اللبنانية والحفاظ عليها بدلا من أن تصبح في طي النسيان والضياع، فيقوم مكي خلال تجوله بين المدن والقرى اللبنانية بتجميع المقتنيات الأثرية من الحجارة وغيرها التي يعود تاريخها إلى مئات السنين، ومن بين تلك المقتنيات الموجودة في «الساحة» في لندن، المندلونات التي يفوق عمرها الـ600 سنة، وبعضها يعود إلى العهد البيزنطي ويبلغ عمره نحو 1200 سنة، فما يسعى إليه المهندس مكي هو تدوير تلك المقتنيات بما فيها الحجر والزجاج الملون لاستغلاله في مشروع يكون بمثابة شاهد على ثقافة وتقاليد اللبنانيين الذين يعتزون بها بدلا من أن تذهب تلك المقتنيات والمواد إلى القمامة. وأضاف عقيل أنه يأسف في بعض الأحيان عندما يرى بعض اللبنانيين الذين لا يقدرون ما يملكون من تراث، فالهوية برأي عقيل مهمة جدا وهي أعز ما يملكه المواطن أينما كان في العالم.

يشار إلى أن مطعم «الساحة» يفتح أبوابه من الصباح لتناول الفطور اللبناني وحتى منتصف الليل، وسيفتح أبوابه في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة.

تعليقات: