السوحلة رحلة الشتاء والصيف


حالما تركب الصوبيا التاريخية البنفسجية اللون في بيتنا في جرد بلاد جبيل، يكون موسم الرحيل إلى الساحل قد حان. هكذا، يشعلها والدي بنوع من احتفالية صامتة بينه وبين نفسه، فيلقّمها بضع قطع من الحطب، كأنّما لمجرد شم عبيرها. كأن رائحة تلك الصوبيا تعيد إليه شيئاً من طفولته، شيئاً لم يعد يجد من يشاركه فيه منذ وفاة والديه منذ مدة طويلة. وللشتاء غرفة في بيتنا، تسمى «غرفة الشتاء». والاسم قد يكون مستمداً من موقع الصوبيا البنفسجية العتيقة في هذه الغرفة دون غيرها، التي يمتد قسطل داخونها إلى الخارج من طاقة عالية، ينسم منها الليل في الصيف حين تخلو من الداخون. بإشعاله الصوبيا يعطي أبي، المغرم بصيف الضيعة، الإشارة إلى أنه «يعترف» بأن فصل الصيف انتهى، وحان وقت العودة إلى مستقرّه الشتوي، ووالدتي في طرابلس، عاصمة الشمال. هذا اليوم بالتحديد، هو يوم عيد لوالدتي، التي تكره الضيعة لعزلتها عن العالم المتحضّر وخلوّها المتزايد سنة عن سنة، من الناس. وككلّ الجرديّين، كنا نسوحل، أي نقصد الساحل. فلا أحد يريد البقاء هنا في الشتاء، حيث لا يتوافر شيء من ضرورات استمرار الحياة، فلشراء حبتَي بانادول مثلاً عليك الذهاب إلى قرطبا، البلدة المتحوّلة شيئاً فشيئاً إلى نوع من «عاصمة» الجرد، هذا إن لم تكن الثلوج قد قطعت الطرقات.

والسوحلة، كما نسمّيها بالعامية السائدة هنا في بلاد جبيل، ليست كما يظن البعض ظاهرة جديدة. فمنذ طفولة أبي على ما يروي لنا، كان أهل الجرد يسوحلون لقساوة هذا الفصل عليهم هنا على ارتفاع 1300 متر عن سطح البحر، ولأن السبل كانت تتقطّع بهم حرفياً بهطول الثلج، الذي كان يحيل القرى الخالية حتى مجرد طبيب، إلى أماكن مسورة بالأبيض، عاصية الدروب وقاتلة لمن يشاء سوء حظه أن يمرض مثلاً في هذه الفصل من السنة.

وبما أن الأطراف «تقع» في لبنان خارج اهتمام الدولة المنصرفة إلى عبادة صورتها في العاصمة، لم يصل النقل المشترك إلى هنا، لا في السابق ولا اليوم. وقبل «البوسطة» وقصص ركابها والمعاون، كان الناس ينزلون إلى الساحل إما مشياً أو على الدوابّ. هكذا، كانوا يسوقون ماشيتهم أمامهم إلى مستقرهم الساحلي، حيث يقضون شهور الشتاء، قبل أن يعودوا في رحلة الصيف أوائل الربيع بعد ذوبان الثلوج. «المشاوير» كانت مضنية. فقرى بلاد جبيل الجردية بعيدة، يستغرق الوصول إليها اليوم بالسيارة من بيروت ساعتين، وطرقاتها لولبية قصيرة. أي إنك ما إن تلفّ الكوع حتى يباغتك كوع آخر. أمّا الدرب نفسه فصاعد بشدة حتى لتكاد الطريق أن تكون واقفة كما يقال. وقد أخبرني والدي أن حصاناً مرة «انتحر» لشدة تعبه، مفضّلاً رمي نفسه في الوادي السحيق، على المتابعة صعوداً بأحماله.

إذاً، لم يكن يبقى في القرى شتاءً إلا المزارعون ممن لا مال لديهم لاقتناء بيت أو استئجاره على الساحل مع زريبة لبهائمهم. لأولاد هؤلاء افتُتحت، بعد جهد جهيد، مدرسة رسمية في القرية، ليستطيعوا أن يفكّوا الحرف على الأقل. ثم مرت فترة قبل الحرب، عاشت القرية «وهلة» من الازدهار، صيفاً بالطبع. فكان لنا ناد يقوم بنشاطات، كندوات الإرشاد الزراعي لمزارعي التفاح، ومسابقات في الأدب للأولاد أمثالنا، ومباريات في كرة السلة. كانت القرية تعج عجّاً بالأولاد صيفاً، لكن في الشتاء كان الجميع يسوحل تقريباً: البعض إلى جونية التي كانت لا تزال «مختلطة» طائفياً كما قريتي، أو جبيل الأقرب منها، وضواحيها مثل «مستيتا» ونهر إبراهيم التي تحولت اليوم بفضل المسوحلين إلى مدن قائمة بذاتها. نهر إبراهيم كان مجرد نقطة التقاء الجبل بالساحل. نقطة ينزل عندها الراكب، ليستقل واحدة من ثلاث سيارات مرسيدس تاريخية «يشوفر» عليها بضعة سائقين ناقلين في عطلة نهاية الأسبوع مَن لا سيارات لديهم إلى القرى الجردية. وبالطبع عليك خلال «المشوار» أن تخضع «لفحص هيئة» كما يقول المصريون، «ابن مين؟ وشو عم تعمل؟ وشو عندك صار ولاد؟». آخرون كانوا، مثل والدي، يغادرون إلى نقاط أبعد بحكم الوظيفة: بيروت أو طرابلس. ثم شجعتهم الحرب الأهلية على الاستقرار «بأمان» بعيداً في المدن المفروزة طائفياً من لونهم.

هكذا، وبمرور الأيام، تحولت المدرسة الرسمية في القرية إلى مدرسة صيفية. كنا في الحقيقة نسجّل فيها في الصيف، من أجل التسلية مع أترابنا. وحالما بدأ جيلنا يستقر في حياته العملية، بدأت القرية تفرغ حتى صيفاً منّا، إلّا في عطل نهاية الأسبوع التي أصبحنا، لاقتصارها على يوم واحد، نقضيها بما يشبه النقاهة من شدة العمل في بيوتنا المدينية. هكذا، بدأ الناس ينقلون كامل حياتهم إلى المدينة. ارتبطوا بأعمال لا «صيفيات» فيها، تحولت المدرسة الرسمية إلى مقر للبلدية، ورويداً رويداً، لم يعد يزور القرية إلا من يريد أن «يطل» على «الختايرة»، أو لمناسبة دفن، وخصوصاً أن الأعراس كانت تجري في قاعات المطاعم الفقيرة أو الغنية، حيث يحلو للناس أن يقلّدوا طقوساً استهلاكية بلا معنى يرون الناس على التلفزيون يقومون بها!

وللأسف، بلاد جبيل ليست فريدة في سيرتها الذاتية المؤسفة. فإهمال الدولة، لا بل عدوانيتها وتعاليها الطبقي، وأحياناً الطائفي على أهالي المناطق النائية، ستجعل كثافة لبنان السكانية مقتصرة على الساحل. لكنها كثافة لا بركة فيها، كثافة موظفين وسماسرة ومقاولين لا ينتجون شيئاً، ويريدون «النط» على الدولة، نواباً، حالما يتوافر لهم المليون الأول، وقدامى المزارعين المنتجين، حصيلة السوحلة، تحوّلوا إلى جيش من الخدم وصغار الكسبة. أما أهل الأرض وعرقها، من قيل فيهم «فلاح مكفي سلطان مخفي»؟ فقد تصادفون بعضهم «يشوفرون» على «فان» ما على خطوط الضواحي من برج حمود إلى الضاحية الجنوبية إلى عين الرمانة، أو «غرسونية» في مطاعم جونية، أو «بارمانية» في ملاهي المعاملتين، أو عناصر في شركات أمن خاصة على باب الكازينو، يراقبون بصمت خطر، كيف يبدّد مال، لو توافر بعضه لهم، لكانوا لا يزالون يعيشون فوق، في قراهم العامرة.

-------------------------------------------------------------

النّـزوح المتكـرر إلى طرابلس

ما إن يبدأ شهر أيلول بطي صفحته إيذاناً بدنو الشتاء، حتى يبدأ مصطافو الضنية بمغادرتها تباعاً، باستثناء قلة ترى أن أوائل تشرين أفضل ما في الصيفية. لكن النازحين من جرد الضنية لا يقتصرون للأسف على المصطافين

الضنية ـــ عبد الكافي الصمد

يحرص إبراهيم الصالح، الشيخ الستّيني، على إمضاء تشرين في بلدة بقاعصفرين، المصيف الرئيسي لأغلب أبناء طرابلس عاصمة الشمال القريبة. لكن هذا النزوح شتاءً من الضنية لا يقتصر على المصطافين فقط. فقسم كبير من أهالي المنطقة يقفلون أبواب منازلهم في بلداتهم تباعاً مطلع تشرين الأول، ولا يتفقدونها إلا نادراً في عطل نهاية الأسبوع، ليتوجهوا إلى منازلهم في مدينة طرابلس وأطرافها، الأمر الذي جعل بعض القرى والبلدات، في المناطق الجردية تحديداً، خالية إلا من عدد قليل من المواطنين، أغلبهم من كبار السنّ وذوي الإمكانات المالية المتواضعة. فأين يذهب هؤلاء؟

ومع أن نزوح أهالي الضنية شتاءً إلى طرابلس ليس جديداً، إلا أنه تحوّل إلى ظاهرة في العقدين الأخيرين، بسبب «عدم وجود فرص عمل، وندرة المؤسسات التربوية الجيدة، ما أسهم في رفع منسوب النزوح»، على حد قول محمود الصمد (35 عاماً)، المقيم في بلدة بخعون، كبرى بلدات المنطقة سكانياً، والذي يفضل البقاء هنا على مدار السنة.

وإذا كان د. غسان يوسف يرى أن «الإقامة في الضيعة (بخعون) في الشتاء أفضل»، مبرّراً أنه «عندما كنا ندرس في الخارج كانت الجامعة تبعد عن سكننا أكثر من نصف ساعة بالسيارة»، فإن مؤشرات النزوح الشتوية من الضنية تبدو واضحة المعالم في بلدة نمرين الجردية، التي «كان عدد طلاب المدرسة الرسمية فيها أواخر السبعينيات 150 تلميذاً، وبات اليوم بحدود 135 تلميذاً فقط بسبب نزوح أغلب أهلها إلى الساحل، حيث أسسوا هناك حياة اقتصادية واجتماعية تكاد تكون طبق الأصل عن بلدتهم»، حسب تعبير طلال عربس الذي تقتصر زيارته لبلدته نمرين على أيام قليلة في الصيف.

بموازاة ذلك، فإن حركة النزوح من البلدات الجردية، مثل السفيرة، كفربنين، قرصيتا، بيت الفقس، بقاعصفرين طاران وغيرها «تفوق بنسب كبيرة النزوح من البلدات الوسطى أو القريبة من الساحل كبخعون وكفرحبو وعزقي الخ. بسبب وعورة الطرق وبعدها، ولأن قطع مسافة 40 كيلومتراً يحتاج إلى نحو ساعة ونصف»، وفق وصف الدكتور علي لاغا رئيس قسم الدراسات العليا في جامعة الجنان في طرابلس.

من تابعوا دراستهم لم يجدوا حتى وظيفة مناسبة في الريف

ومع أن تأهيل الطريق الرئيسي في المنطقة أخيراً، وقرب الانتهاء من إنجاز طريق رئيسي آخر يربط بين الوسط والجرد (طريق بخعون ــــ طاران)، ساعدا في تأمين التواصل على نحو أفضل؛ فإن لاغا، وهو ابن السفيرة كبرى بلدات جرد، لا يرد «تفاقم حالة النزوح إلى الطقس القارس شتاءً، وتكاليف التدفئة»، بل إلى «تشتت الملكية الزراعية وتوزعها بين الورثة». فحسب رأيه من «تراجع دخله بدأ البحث عن مصدر آخر في المدينة، ولاحقاً كان النزوح بسبب الالتحاق بالجامعات والمدارس»، لكنه أشار إلى أن من «تابعوا دراستهم وتأمنت لهم قدرات علمية لم يجدوا وظيفة مناسبة في الريف.حتى أنك لا تجد في المؤسسات الخاصة موظفاً مضموناً». وفيما يلفت لاغا إلى أن «عدم مراعاة الجهات الرسمية المعنية لظاهرة البناء غير المرخص، ومعالجته بعد أخذ خصوصيات المنطقة بعين الاعتبار، أسهم في نزوح الجيل الجديد بعدما باتت أراضيهم مشاعاً»، يشير إلى أن «النازحين من أصحاب الدخل المحدود والإمكانات العلمية والمهارات المتواضعة، أقاموا على دفعات في مناطق على أطراف المدينة، في ما أصبح يطلق عليه تسمية «أحزمة بؤس» أو «بؤر ريفية»، في أبنية أغلبها مخالف ومكتظ بالسكان، ما أوجد مشكلة مزدوجة إن بالنسبة لأهل المدينة الذين لم يستوعبوا حركة النزوح جدّياً منذ البداية، أو سكان هذه «البؤر» الذين لم يندمجوا داخل المدينة ويتفاعلوا معها تفاعلاً كافياً من جهة، باستثناء فئات المتعلمين والميسورين، عدا أنهم باتوا غير قادرين على العودة إلى قراهم للانطلاق في دورة حياة ريفية جديدة، وخصوصاً بالنسبة للجيل الجديد ــــ الثاني منهم».

----------------------------------------------------------

النزف البقاعي يقفل سبع مدارس

البقاع ــ رامح حمية

شوارع فارغة، منازل اجتاح العشب والشوك مداخلها، مدارس مقفلة، وأزقة خلت من «شيطنات» بعض الصبية، تبدو البلدة في الشتاء موحشة كئيبة يتردد فيها صدى سؤال: «وينن؟»، يأتيك الجواب من قلة بقوا هنا أمثال علي مشيك الرجل الستيني: «فلوا ع بيروت. بالشتي ما بيبقى حدا يا عمي إلا تلات أربع بيوت بس»!

هي ليست قصة. ولو أن الحزن يفرض أسلوب الكلام. هذا هو الواقع هنا في بعض قرى غرب بعلبك التي تشهد منذ سنوات حركة نزف مستمرة في طاقاتها البشرية باتجاه «المركز» بيروت وضواحيها. نزف من هذا النوع خطر على المناطق العامرة، فكيف بتلك الفقيرة أصلاً؟ وربما كانت المدارس هي المؤشر الأساس للقتل الرسمي المنظم للمناطق. فقد أقفلت في السنوات الأخيرة سبع مدارس رسمية بعدما عانت شحاً بالأساتذة وندرة بالتلامذة، إثر انتقال الأهالي إلى بيروت والضواحي، سواء من أجل العمل أو ضرورات الحياة والمعيشة.

ويرى سليمان مشيك المدير السابق لمتوسطة رماسا الرسمية في مزارع بيت مشيك أن نزوح الأهالي من البلدة على مر السنوات الأربع الأخيرة كان السبب الأساسي لإقفال المتوسطة، حيث وصل عدد التلامذة قبل عام من الإقفال إلى اثني عشر تلميذاً. وأوضح مشيك أن «الأهالي الذين آثروا البقاء هم الموظفون الإداريون والعسكريون ضمن البقاع وعدد من المزارعين الذين يملكون أراضي زراعية في سهل بلدة السعيدة»، ويلفت المدير السابق إلى أن مشكلة النزوح قضت على سبع مدارس رسمية في غرب بعلبك وهي: رماسا وجبعا ومزرعة التوت والسعيدة ومصنع الزهرة وعين السودا ومجدلون، مؤكداً أن مشكلة النزوح إن لم تُعالج في المنطقة «بمشاريع تؤمن العمل للشباب وجامعات فيها كل الاختصاصات، فلا بديل عندها من ازدياد نسبة الإقفال للمدارس»، مرجحاً إقفال مدرستين في المنطقة خلال هذا العام.

الشلل هي الكلمة المفتاح بالنسبة لرئيس بلدية جبعا عاطف زعيتر. يقول لـ«الأخبار» إن النزوح من القرى البقاعية «يولّد شللاً كاملاً في المنطقة، ليس في المجال التربوي فقط بل الاقتصادي أيضاً». مشيراً إلى ازدياد سريع في حركة الانتقال إلى بيروت تشهده قرى وبلدات غرب بعلبك، وخاصة أن «نسبة النزوح في جبعا فاقت 75% وهي في الشتاء شبه خالية إلا من بعض العجزة والعسكريين والموظفين». ولفت زعيتر إلى أن أبرز تداعيات النزوح تجلى بإقفال متوسطة البلدة في عام 2003 بعدما عانت ندرة التلامذة فأُلحقت بمتوسطة كفردان الرسمية المجاورة. وطالب زعيتر الدولة بإقامة «المشاريع الإنتاجية» التي توفر فرص العمل للشباب بالإضافة إلى «إنشاء الجامعات حيث يجد طلاب المنطقة ما يرضي طموحاتهم ومشاريعهم العلمية المستقبلية». أما مختار بلدة عين السودا أحمد عمر فقد أكد أن متوسطة البلدة أقفلت في عام 2005 بعدما وصل عدد التلامذة فيها إلى 12 في كل المراحل، ما استدعى نقلهم إلى مدرسة مجدلون التي أقفلت بدورها بعد عام أيضاً. ويعزو عمر السبب في إقفال المدرسة إلى عدم توافر الأساتذة وندرة التلاميذ بعدما نزح غالبية أبناء القرية إلى بيروت بهدف تأمين رزقهم.

من جهته، شبّه المربي حسني مشيك النزوح الحاصل من القرى والبلدات البقاعية بـ«النزف الريفي القاتل»، ويعزو ذلك إلى غياب الرابط بين الفرد وأرضه، والمتمثل بالسياسة الإنمائية «المغيبة» عن منطقتنا، وخاصةً أنها تضع الحوافز الأساسية لجعل المواطن يبقى في بلدته وقريته، ومنها المؤسسات الإنتاجية والزراعية والصناعية، موضحاً أن منطقتنا لا وجود فيها لطب بيطري قد يحتاج له مربو المواشي، ولا لمؤسسة أو مصرف زراعي لدعم المزارعين وتسليفهم، وحتى لروزنامة زراعية ومواعيد منتظمة للزراعات والتصريف، وتساءل: «بعد هذا كله كيف سيبقى مزارع في أرضه؟!». وذكّر مشيك بأنه خلال افتتاح إحدى المدارس الرسمية في المنطقة وبحضور وزير التربية عبد الرحيم مراد، كان لمشيك كلمة ترحيبية تناول فيها أن قرانا لا تحتاج حالياً إلى مدرسة بل إلى تنمية على صعيد المؤسسات تؤمن بقاء أهالي هذه القرى، وبالتالي دخولهم إلى المدرسة. ولفت مشيك إلى أنه شارك في دراسة تتصدى لإقفال معمل الشمندر السكري في عنجر، فأكد أن الدولة أخطأت حين قررت إقفال المعمل واستيراد السكر من الخارج بذريعة أن ذلك أوفر، لكننا في الدراسة أثبتنا أن المعمل يؤمن من جهة العمل لمئات العمال والموظفين من القرى البقاعية كلها، وهؤلاء جميعاً يساهمون في الدخل الوطني، ومن جهة ثانية يوفر زراعة الشمندر لمئات المزارعين وعلى امتداد السهل، ناهيك عن عائلاتهم. وأكد مشيك أن النزوح «فعل فعله» في قرى بيت مشيك حيث لا تقل نسبة النزوح في بعضها عن 75% لتصل في بعضها الآخر إلى 90%، وهو الأمر «الخطير جداً حيث اندثر اقتصاد الرعي في المزارع وأصبح بائداً لأنه لم يبق من مربي المواشي في هذه المنطقة المهجورة إلا اثنان فقط في مزرعتي قلد السبع ورماسا». اثنان فقط. نسينا أن نسأله إن كانا مجرد رجل وزوجته. على الأرجح أنهما كذلك.

جامعيّون «يرتحلون أكثر مما يتعلّمون»

يرتحل غالبية الطلاب الجامعيين يومياً من البقاع الشمالي إلى زحلة والبقاع الغربي، فيما يحزم الباقون أمتعتهم فيودّعون أهلهم، وينزحون إلى بيروت للإقامة في مساكن جامعية. يقصد الطالب علي الرشعيني (سنة رابعة معلوماتية وإدارة أعمال) يومياً مجمع عمر المختار التربوي في بلدة الخيارة في البقاع الغربي، قاطعاً مسافة لا تقل عن 300 كلم ذهاباً وإياباً، لكونه يسكن في بلدة القصر، في قضاء الهرمل، على الحدود السورية اللبنانية. يمضي علي أكثر من ثماني ساعات على الطريق بغية متابعة محاضرة أو اثنتين. يشكو الشاب من غياب المعاهد والجامعات في بعلبك ـــــ الهرمل من جهة، وعدم توافر القدرة المالية على الانتقال للسكن في بيروت، أو حتى في البقاع الغربي من جهة ثانية. فرحلة علي اليومية تبدأ بركوب «فان» بات يتعامل معه دائماً، فينقله من بلدته القصر إلى مدينة زحلة فقط، مقابل أجر شهري قدره 100 دولار أميركي، يرتفع مع ارتفاع أسعار المحروقات، ولا ينخفض عن هذا الحد، ليكمل بعد ذلك طريقه بالـ«سرفيسات» أو «الأوتوستوب» إلى جامعته، ويكرّر الطريقة ذاتها في طريق العودة، لكن بالعكس.

ويعدّ تمركز الجامعات في مدينة زحلة العائق الأساسي أمام أهالي البقاع الشمالي، بالنظر إلى الأعباء المادية والجسدية التي يواجهها الأهالي وأبناؤهم الطلاب. وترى الطالبة في السنة الثانية علوم الحياة فردوس جعفر (19 عاماً)، من بلدة «سهلات الماي» في قضاء الهرمل، «أن اجتياز مسافة 200 كلم يومياً ليس بالأمر السهل عليها، فاختصاصها يتطلب الحضور اليومي، فضلاً عن عدم قدرة أهلي على تحمل الأعباء المتمثلة بأجر الفان، أو عبء السكن في بيروت المحفوف بالكثير من العوائق المادية والاجتماعية». أما حسين عمار، من بلدة اللبوة، فيلفت إلى أن فترة الذهاب إلى الجامعة والإياب منها تستغرق وقتاً أكثر من الفترة التعليمية «إذ نقضي على الطريق ما يقارب ثلاث ساعات، فيما لا يتجاوز عدد المحاضرات الاثنتين على أبعد تقدير، وعندما يغيب الأستاذ المحاضر، نعود أدراجنا وسلّتنا «فاضية»!». وعن الانتقال إلى بيروت يقول: «البقاء في المدينة مكلف جداً ويمثّل عبئاً مادياً إذا احتسبنا أجرة الغرفة التي سأسكن فيها، والتي لا يقل إيجارها عن 200 دولار، فضلاً عن رسوم التسجيل ومصاريف التنقّلات، وثمن الكتب الجامعية».

بعض البلديات في البقاع الشمالي تحاول مساعدة طلاب الجامعة، سواء المقيمون في البقاع، أو أولئك الذين نزحوا إلى بيروت، وذلك بما تيسّر من توفير ثمن بعض الكتب والأقساط، وتصوير المحاضرات وتوفير السكن لبعض الطلاب الفقراء والمتفوقين، فيما يبقى على كثيرين تحمّل تبعات تأخّر الفانات.

رامح

---------------------------------------------------------------

نصف بسكنتا يشلّ نصفها الآخر بالسوحلة

يتبدّل المشهد صعوداً من ساحل المتن إلى جرده: تنخفض الحرارة، تقلّ السيارات، تضيق الطرقات وتصبح أكثر خطراً. يدفع أهالي بسكنتا، المرتفعة 1200 متر عن سطح البحر، ثمن هذا المشهد بالتخلّي عن بلدتهم شتاءً

بسكنتا ــ رندلى جبور

مع سقوط أوراق الخريف، «يسقط» حوالى نصف سكان بسكنتا إلى الساحل. «بيضبّوا الصيفي وبينزلوا الشتوي» في صناديق السيارات، التي تتوجه خصوصاً نحو ساحل المتن والأشرفية. وبسكنتا تبدو الأكبر من حيث المساحة، وعدد السكان بين بلدات وسط المتن وجرده. وهي مكتفية ذاتياً: أربع مدارس، محطة وقود، سوبرماركت وصيدليات ودكاكين ومركز بريد ومحالّ ألبسة وأدوات منزلية. لكن في المقابل عوامل كثيرة تدفع 60% من أهلها إلى تركها شتاءً، بعدما كانت نسبة النازحين منذ عشر سنوات 30%. والسبب الأبرز هو الوضع السيّئ للطرقات، علماً أن المسافة من بيروت لا تتجاوز الأربعين كيلومتراً. ويشير إيلي عاقوري، أحد أبناء بسكنتا، إلى أن مشاريع كثيرة لأوتوسترادات تصل الساحل ببسكنتا صمّمت منذ أعوام طويلة مع وقف التنفيذ «ولو أنّها نُفّذت لبقي أهالي بسكنتا فيها»، لأن التنقّل يصبح أكثر سهولةً، وأقل خطراً. ويقول عاقوري: «يهتم المسؤولون ببيروت ويهملون الأرياف فيما الحل هو في إنمائها».

إذا بقي الوضع على حاله ستفرغ المناطق الريفية كلياً بعد عشر سنوات

ويتفرع السبب الثاني من الطرقات: فلا جامعات في الجرود. ويضطر الطلاب إلى ترك منازلهم للعيش في «فواييه» بقربها حيث تكون. والنتيجة شرخ في العائلة. طبيب بسكنتا والجوار قديماً د. جوزف لطيف لم يترك بلدته قط. لكن وصول أولاده إلى مرحلة الجامعة دفعهم إلى الساحل، أمّا زوجته، فتقسم أسبوعها «بين الساحل مع الأولاد والجرد مع زوجي». مطالب لطيف تبدأ بتحسين الطرقات، وإيجاد فرص علم وعمل، ولا تنتهي بالتدفئة وإنشاء معامل وشركات.

التدفئة تشير إلى السبب الثالث، وهو الأوضاع المعيشية الصعبة. ففي منطقة جبلية مثل بسكنتا، البيضاء شتاءً، التدفئة ضرورة وتوفير المازوت والمحروقات بكمية كبيرة لتغطية الحاجة في العواصف والثلوج يحتاج إلى أموال كثيرة. لذا يتوجّه الناس ساحلاً بهدف التوفير، مسبّبين بدورهم أزمة معيشية في المناطق المتروكة: إذ تتراجع الحركة الاقتصادية في الجرد بنسبة 50% تقريباً، وتشير محاسبة في سوبرماركت في بسكنتا إلى أن نسبة المبيع تنخفض في الشتاء إلى الثلث «لكن الصيف يغطي أحياناً خسائر الشتاء». ويسارع أحد الشباب في سناك في البلدة إلى وصف الوضع في الشتاء «بالميت ولا شيء إلا الكريب، ولكن إذا تركنا بيموتوا الناس من الجوع». حركة المدارس في بسكنتا تغطّي بعضاً من فراغ الشتاء، وخصوصاً أنها تستقطب طلاب البلدات المجاورة. لكن الثلوج تقفل أبوابها أياماً كثيرة، هي التي تفتح كما «البوزانسون» مثلاً وفق نظام قديم من الثلاثاء إلى السبت، فيما عطلتها الأسبوعية يوما الأحد والاثنين لقلة عدد الأساتذة الذين يضطرون إلى العمل في أكثر من مدرسة.

وإذا كان الطلاب يحركون جماد بسكنتا المتخلّية عن نصفها شتاءً، فإن الحركة تنعدم كلياً في البلدات الصغيرة القريبة، كعين القبو وكفرعقاب ووادي الكرم وغيرها، باستثناء بعض الكشفيّين الذين يخرقون الهدوء الثقيل.

ويشير رئيس بلدية كفرعقاب، بيار معلوف، إلى نزوح 90% من أهل البلدة شتاءً، وبقاء 27 منزلاً مأهولاً من أصل 210 منازل. ويقول: «لازم تعمل ألف حساب وأنت تسلك الطريق وين بتتهوّر؟ وبأيّ وادي بتوقع، وبأي جورة بتتكسر سيارتك»، وخصوصاً أن مدرسة البلدة أقفلت منذ عام 1985، ولكن «أي تحسين في الطرقات أو أي استثمار قد يغيّر الوضع». أمّا من يبقى في البلدة طيلة أيام السنة، فهو إما موظف في مركز الهاتف، أو فقير لا يستطيع التملك أو الاستئجار في الساحل، وإمّا من لا عمل لديه، ويتلقّى مساعدات من أولاده وأقربائه المسافرين.

وقد لا تصادف سيارة في عين القبو، حيث ثمّة خمسة منازل مأهولة شتاءً. والأسباب هي نفسها، وفق ما شرح المختار رشيد الحاج.

«كل ما هو مطلوب شويّة إنماء متوازن. هالقد صعبة؟»، يسأل طبيب بسكنتا القديم، ويضيف «إذا بقي الوضع «هيك» ستفرغ المناطق الريفية كلياً بعد عشر سنوات»، ثم يهزّ برأسه آسفاً.

---------------------------------------------------------------

عند المفرق مدينة أو ضيعة ثانية

يتوقف عند مفرق نهر إبراهيم بضعة سائقين. لا يكاد هؤلاء يتغيرون عبر السنوات. يسترزقون بإقلال الناس إلى قرى الجرد العالية في منطقة لم تعرف النقل المشترك بحياتها. لكن نهر إبراهيم تضخمت بالمسوحلين من جردها، وتحولت من مجرد مفرق إلى بلدة

نهر إبراهيم ــ جوانّا عازار

أكثر من 4000 شخص يسكنون بلدة نهر إبراهيم في قضاء جبيل. هؤلاء يُقسَمون بين السكان «الأصليّين» الذين سكنوا البلدة منذ زمن بعيد، و«الجدد» الذين وفدوا من بلدات جرد بلاد جبيل كالعاقورة، قرطبا، المغيرة، يانوح والبلدات المجاورة، وقد تزايد عددهم في السنوات الثلاثين الأخيرة. بعض هؤلاء يعودون في فصل الصيف إلى ضيعهم الأمّ، لكنهم يمضون فصل الشتاء في نهر إبراهيم. هذه الضيعة التي تمثّل بوابة جبيل الجنوبيّة، صارت أشبه بمدينة تجمع بين الزراعة، التجارة والصناعة. فأبناؤها هم أوّل من بدأ بزراعة القشطة قبل أن تنتشر في البلدات اللبنانيّة. وهم من نشط في زراعة الحمضيّات والموز. أمّا صناعيّاً، فإنّ في نهر إبراهيم منطقة صناعيّة تضمّ مصانع للكابلات، الباطون الجاهز، الزيت النباتي، البلاط، الشامبو ومستحضرات العناية وغيرها... ينقسم أصحابها والموظّفون فيها بين أبناء نهر إبراهيم وغيرهم. تجاريّاً، تضمّ البلدة سوقاً تجاريّاً «ع قدّ حالو» لمحالّ، منها الألبسة وألعاب الأطفال والنوفوتيه. أما الأهم فيها، فتحولها بسبب السوحلة، توفيراً لأجرة نقل المُنتَجات الزراعية إلى المدن، إلى سوق لبيع الخضار بالجملة والمفرّق، وهو سوق ذاع صيته قبل أن ينتقل جزء كبير منه منذ فترة قصيرة إلى بلدة حالات المجاورة.

البلدة التي تجمع الفلاحين، الأطباء، المهندسين، المحامين وغيرهم سكنها أهل المواطن طوني بو يونس، وهم في الأصل من بلدة العاقورة. لكن طوني ولد في نهر إبراهيم ويعيش فيها هو وأولاده، وهو يقول «إنّها ضيعته الثانية»، فهنا كبر وعمل وأسّس شركة له، وفيها يربي أولاده حيث تمكث العائلة اليوم صيفاً وشتاءً. قلائل مَن يسكنون شتاءً في العاقورة، النائية البعيدة الخالية من أي مرافق تستحق هذا الاسم. وهنا أيضاً يسكن 14 بيتاً من أقارب بو يونس، ولا سيّما أولاد عمّه. ماذا أفاد السكّان الجدد البلدة؟ يقول بو يونس: «اسألوا سكّان البلدة الأصلييّن، وهم يجيبون». بدوره، نائب رئيس بلديّة بلدة يانوح، فادي أبو زيد، الذي سكن أهله نهر إبراهيم منذ أكثر من 25 سنة يقول عن أهلها: «لا مشكلة لدينا مع أبناء البلدة. نعزّهم ونحبّهم ويعزّوننا ويحبّوننا»، مضيفاً: «نحن نؤدّي واجباتنا على أكمل وجه، ويبقى أنّنا نزور بلدتنا الأصليّة يانوح، وخاصّة في فصل الصيف وفي عطل نهاية الأسبوع، ويمكن اعتبار نهر إبراهيم بلدتنا الثانية». فيما يقول أحد أبناء البلدة الأصليّين إنّ «البلدة كبرت بفضل جهود أبنائها والأبناء الذين وفدوا إليها عبر السنوات الماضية، وهي تبقى المركز الساحليّ الذي يستقطب أبناء الضيع المجاورة». عائلات غانم، مطر، راعي، محفوظ، ضوّ، شلفون وغيرها هي العائلات الأكبر في نهر إبراهيم، البلدة التي تبعد 47 كلم عن بيروت عاصمة لبنان، والتي ترتفع 220 م عن سطح البحر ممتدة على مساحة 341 هكتاراً. هنا، على ساحل البحر المتوسط، يصبّ نهر إبراهيم الذي ينبع من أفقا ومغارتها الشهيرة. وقد سمّي كذلك بسبب أسطورة تقول إنّ أدونيس دُفن على ضفافه، وإنّ دم البطل المجروح جرى في النهر فأعطاه اللون الأحمر. أمّا اسم إبراهيم فيرتبط براهب اسمه إبراهيم، أرسله سمعان العموديّ، فبشّر المنطقة بالديانة المسيحيّة. ورغم وجود هذا النهر، فإنّ أبناء البلدة يتعطّشون لمياه الشفة، وخاصّة أنّ مشروع المياه الجديد المخصّص للمنطقة لم ينجح حسب تعبيرهم. من هنا، فإنّهم يرون أنّ المشاكل الإنمائيّة والحياتيّة التي تواجه ضيعتهم هي شبيهة بتلك التي تواجه الضيع اللّبنانيّة عموماً. ويقول أحد أبناء البلدة إنّ «وضع الضيعة الإنمائيّ وسط، تماماً كضيع بلاد جبيل»، دون أن نتجاهل دور البلديّة في البلدة، وممّا تعمل عليه حاليّاً بناء مدرسة رسميّة جديدة تحلّ مكان بناء المدرسة المتوسّطة الرسميّة القديمة. وسياحيّاً يأسف الأبناء لغياب المطاعم والمقاهي في المنطقة، وخاصّة أنّ نهر إبراهيم منطقة سياحيّة وأثريّة (فيها الجسر الروماني فوق النهر، قناطر زبيدة وكنيسة مار جاورجيوس الأثريّة). من هنا، سعت لجنة التراث والفنون إلى إدراج نهر إبراهيم على لائحة التراث العالميّ من دون أن ينجح الأمر حتّى الآن. أمّا ثقافيّاً، فلا بدّ من الإشارة إلى المكتبة العامّة التي أنشأتها البلديّة في البلدة منذ عشر سنوات، فضلاً عن المهرجانات السنويّة التي تستضيفها، من دون أن نغفل الصيت الرياضي الذي ذاع عن أبناء نهر إبراهيم، إذ «يحسب لهم الحساب» في لعبة الكرة الطائرة على مستوى لبنان.

لكن أبناء نهر إبراهيم، الحائرين بتسقّط الرزق بين البحر والجبل، يعيشون هنا، وهم يكادون يسدون أنوفهم حماية لأنفسهم من الضرر البيئي الناتج من بعض المصانع في البلدة، الذي يتصاعد على شكل دخان، أو يُرمى في مياه المنطقة، أو لا يمكن رؤيته، كالذبذبات الكهروماغناطيسية، بالعين المجردة.

--------------------------------------------------------------------

إهمج 75% الفرق بين الصيف والشتاء

«بالصيف بإهمج وبالشتي بجبيل»، بين المكانين تتنقّل إيفيت متّى وعائلتها كغيرها من أبناء إهمج في الشتاء «هنا يذهب الأولاد إلى المدرسة، وتقرب المسافة إلى عمل زوجي في بيروت»، إلّا أنّ العائلة تعود إلى إهمج لتقضي فيها عطل نهاية الأسبوع، وخاصّةً في موسم التزلّج الذي يتقنه الأولاد

تتكرّر الأسباب والموت واحد. موت الجرد غير الصالح للعيش في الشتاء. والتدفئة، اسم معاناة أبناء البلدة، كما يشرح لـ«الأخبار» مختار إهمج الياس متّى، مضيفاً إنّ الاسم الآخر هو حال الطرقات التي يصح وصفها بأنه «بين الجورة والجورة في جورة»، ما يدفع أبناء إهمج، التي ترتفع 1140 متراًَ عن سطح البحر، إلى الإحجام عن زيارتها «كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا»، وخاصّة أيّام المطر الشديد والثلوج. ويعاني حوالى 3800 نسمة من السكان نقصاً حادّاً في .. المياه. فالمنطقة فقيرة، عكس جارات لها، بالينابيع، ما يسهم في نزوح عدد منهم. رئيس بلدية إهمج نزيه أبي سمعان قال إن 20% من نازحي البلدة يتوجّهون إلى جبيل، ويتوزّع الآخرون على كسروان والعاصمة، حيث المدارس والجامعات ومراكز العمل، مشيراً إلى أنّ عدد هؤلاء يتزايد سنة تلو الأخرى، ومطالباً الدولة في هذا المجال بالعمل على الإسهام في إبقاء أبناء الأرياف فيها في فصل الشتاء، ولافتاً إلى إسهام البلديّة على قدر الإمكانات المتوافرة، بتأهيل الطرقات الداخليّة في البلدة، كما يسهم مركز الثلوج في البلدة في جرف المتراكم منها، مما يقطع الطرقات، بانتظار إنهاء أوتوستراد عنايا ـــــ إهمج ـــــ اللقلوق، وهو مستملك منذ سنة 1963. ويضاف إلى مشكلة الطرقات غياب أيّ شيء قد يوفّر فرص عمل دائمة وغير موسمية في البلدة، باستثناء عدد صغير لا يكفل بقاء المواطنين فيها. أبي سمعان أشار إلى أنّ الوضع يتحسن قليلاً خلال موسم التزلج، مطالباً الدولة بوضع خطّة لتشجيع إقامة مشاريع توفّر فرص عمل للأهالي ليبقوا في بلداتهم.

في هذا الإطار، يشرح رئيس جمعيّة الإنماء في إهمج، مخايل جبرايل، أنّ نسبة النازحين في فصل الشتاء زادت زيادة ملحوظة خلال السنوات الثلاث الماضية، بسبب غلاء وسائل التدفئة، إضافةً إلى ازدياد عدد طلاب البلدة الذين وصلوا إلى مرحلة الدراسة الجامعيّة، إذ تغيب الجامعات عن البلدة، التي تستقبل طلاب المدارس في مدارس ثلاث فيها: الابتدائيّة لراهبات العائلة المقدّسة، المدرسة التكميلية الرسميّة والثانوية الرسميّة. جبرايل تحدّث عن نسبة 40 بالمئة من الأبناء النازحين في فصل الشتاء، مطالباً باسم الجمعيّة التي يرأسها بتأهيل الطرقات المؤديّة إلى البلدة، فضلاً عن معالجة أزمتَي المياه والكهرباء فيها قبل المطالبة بإقامة الحدائق العامّة، وحماية البيئة وغيرها. وعن سبل العيش في البلدة يقول جبرايل «لا يمكن اعتبار الزراعة مصدر عيش أساسيّاً للمواطنين في إهمج، وخاصّةً أنّها خاضعة لصدفة نجاح المواسم الزراعيّة أو عدمه»، مشيراً إلى أنّ موسم التزلّج يدرّ على البعض الإفادة إلا أنّ الوضع العامّ في السنتين الأخيرتين أثّر كثيراً في المحّلّ فأُقفل عدد منها.

جوزيف ضاهر، وهو صاحب متجر لبيع السمانة في البلدة، تحدّث من جهته عن فرق بنسبة 75 بالمئة في الحركة بين الصيف والشتاء، مشيراً إلى أنّ الدورة الاقتصادية تسوء بطريقة ملحوظة في فصل الشتاء، إلا أنّ ذلك لا يمنعه من فتح متجره كما في الصيف، من السابعة والنصف صباحاً حتّى العاشرة والنصف مساءً. ضاهر يلازم إهمج صيفاً وشتاءً، مثل السيّدة رينيه أبي رميا، التي تلازم وعائلتها إهمج، فزوجها أمين يعمل نجّاراً، ويملك مشغلاً في البلدة، وأولادها يدرسون في مدرسة البلدة، وتتوجه العائلة في فترات الجليد، وعندما تقفل المدارس بسبب سوء الأحوال الجويّة، إلى منزلها الآخر في جبيل، إلّا أن الوقت الأكبر تقضيه العائلة في إهمج.

ج. ع.

------------------------------------------------------------

من 15 بيتاً إلى 3000 وحدة سكنيّة

تقع بلدة مستيتا ضمن نطاق بلديّة بلاط وتوابعها، لكن معظم سكانها «غُرَبا» وفدوا إليها خلال الحرب. بهم عمرت مستيتا، أو كما يصحّح مؤرّخ المنطقة «المسمّاة مستيتا» تجاوزاً «لأن مستيتا تمتدّ عقاريّاً فقط من كنيسة مار أنطونيوس الكبير حتّى البحر»

تقع مستيتا، مكان قضاء فصل الشتاء بالآرامية، حسب مؤرّخ المنطقة إلياس موسى، ضمن ثلاثية تضمّها بلديّة بلاط وتوابعها: مستيتا وبلاط وقرطبون. ويقول موسى إن القسم الجنوبيّ من نطاق البلديّة يشمل إلى مستيتا، كفركلاس، مار يوحنّا الطرشان، الحرف ووادي اللحامين، ويطلق عليها جميعها وبصورة خاطئة اسم مستيتا. موقع مستيتا العقاريّ فيه منتجعات سياحيّة كثيرة على شاطئ البحر، إضافةً إلى مزارع الداوجن والمواشي، وعدد من معارض السيّارات والمؤسسّات التجاريّة. المكان غنيّ بالمواقع الأثريّة، ومنها جسر الطريق الساحليّ، الذي يعود إلى عهد المتصرّفية، إضافةً إلى جسر قنطرة زبيدة ودير وكنيسة سيدة الحقلة، كنيسة مار سابا وكنيسة مار أنطونيوس الكبير، وهي الكنيسة الرعائية الحالية.

وعقاريّاً، لا تتخطّى الوحدات السكانيّة الخمسين وحدة في مستيتا، حيث إن نحو 90 بالمئة من مستيتا العقاريّة تعود ملكيّتها إلى دير سيدة الحقلة في دلبتا. بربور بو سليمان يعتاش من الزراعة في المكان، وكان جدّه قد وفد من بلدة عنايا الجبلية إلى بلدة طورزيا الأدنى منها ارتفاعاً عن سطح البحر، ثم «هبط» إلى مستيتا «نحن مزارعون، خلقنا، ربينا وعشنا هون»، يقول بو سليمان متابعاً «نزرع في مستيتا، ونسكن في كفركلاس». فموقع كفركلاس يبقى حسب موسى الموقع السكنيّ الأهمّ ضمن القسم الجنوبيّ من نطاق بلديّة بلاط وتوابعها، ويعني اسمه قرية الكلس، لطبيعة صخوره الكلسيّة. هذا الموقع ومساحته نحو 600 ألف متر مربّع كان في القسم الأكبر منه أحراجاً لشجر الشربين، وكانت تكثر فيه الحشرات والزواحف السامة، حتّى شاع قول «يبعتلك عقصة حيّة بشربين كفركلاس».

حتّى سنة 1963 كان في الموقع بيت سكنيّ واحد قائم على قناطر، وبجانبه مغاور عدّة لإيواء قطعان الماعز «المشتية»، أي التي تمضي الشتاء على الساحل وعدّة خرائب. وتخترق الموقع طريق جبيل ـــــ قرطبا التي نفّذت عام 1915، وقد شقّت طريق إليها من الطريق الساحليّة وصولاً إلى كفركلاس، ما جعل اسم مستيتا يمتدّ بصورة خاطئة إلى الموقع. عام 1969 فُرزت كفركلاس رسميّاً إلى نحو 800 عقار، مساحة كلّ منها ما معدّله 700 متر، وقد بيع حينها المتر نقداً بثلاث ليرات، وبالتقسيط بخمس ليرات، وبُنيت فيها مؤسسّة صناعية عُرفت بعمل الأسطوانات. واعتباراً من سنة 1980 حتّى نهاية الحرب الأهلية 1989 شهدت المنطقة نهضة عمرانيّة، بحيث وصل عدد الوحدات العمرانية فيها إلى ما بين سكّانية وتجاريّة وصناعيّة إلى نحو 3000 وحدة. أمّا السكّان فمن كلّ لبنان: القبيّات، مرجعيون، دير الأحمر، الرميلة وغيرها، يعيشون في مجمّعات سكّنية مع وجود خجول للبيوت الفرديّة. «إنّهم صورة عن الواقع اللّبنانيّ» يقول موسى متابعاً. يسكن خليل حبشي وأصله من بلدة دير الأحمر، وعائلته المنطقة منذ سنة 1990، ويتحدّث عن «التنوّع الذي تشهده بفضل تداخل عادات السكان وتقاليدهم، وهم من ضيع لبنانيّة مختلفة»، مشيراً إلى أنّ «الجوّ جوّ ضيعة»، شاكياً الحرمان الإنمائيّ الذي تعانيه المنطقة، وخاصّة أنّ المواطنين حسب قوله لا يشاركون في العمليّة الانتخابيّة فيها، بل في ضيعهم.

موقع مار يوحنّا الطرشان، الذي تشمله أيضاً تسمية مستيتا، وتعود ملكيّته إلى وقف سيدة شويت في بلدة صغار البترونية، بيع سنة 1973، وهو يحتوي اليوم على نحو 300 مشروع سكنيّ. فيما يضمّ موقع الحرف (في نطاق منطقة قرطبون العقاريّة) نحو خمسين وحدة سكانية، وكنيسة الاتحاد المسيحيّ الانجيليّة، وهذه المواقع، إضافةً إلى موقع وادي اللحامين المجاور، لم تكن تتخطى بيوتها الأساسيّة الـ15 بيتاً، لينشأ الباقي منها خلال الأحداث اللبنانيّة.

(الأخبار)

تعليقات: