البندقية.. مدينة تموت

البندقية الحلم الرومانسي تحولت الى كابوس لأهلها
البندقية الحلم الرومانسي تحولت الى كابوس لأهلها


.

المدينة الحالمة العائمة باهظة الثمن الملوثة والمزدحمة بالسائحين.. سكانها يهجرونها حتى وصلوا إلى 60 ألفا فقط

فينيسيا (البندقية):

أجمل مدينة بناها الإنسان على 117 جزيرة في إيطاليا.. «فينيسيا» الحالمة والعائمة فوق البحر لا يمكن وصفها مهما كانت البلاغة بل يجب رؤيتها بالعين لأنها مدهشة، لكن أهلها، خاصة كبار السن منهم، لا يحبون الإقامة فيها. سارت في شوارعها المائية جنازة رمزية بالقوارب قبل أسبوع ومر النعش في القناة الكبرى التي خلدها كبار الفنانين في لوحاتهم محاطا بمراكب الجندول كدليل على موت المدينة البطيء وغرقها في البحر.

المشكلة اقتصادية واجتماعية في المقام الأول وستصبح سياسية عما قريب. المدينة الساحرة مبنية على بحيرة ضحلة متصلة بالبحر وعدد سكانها الأصليين في الوسط التاريخي لا يتجاوز 60 ألفا بينما يصل عدد سكان المدينة بأكملها إلى 269.500 نسمة، ووسائل المواصلات في مركز المدينة تقتصر على الزوارق لأجل التسوق وشراء الحاجيات اليومية من الطعام والكساء والأدوية وحتى سيارات الإسعاف عبارة عن قوارب يقودها البحارة لأن الانتقال إلى المستشفى يتطلب عبور الشوارع المائية والتعامل مع تبدل المد والجزر وارتفاع نسبة المياه إلى درجة الفيضان أحيانا. أما البيوت والشقق فقد ارتفعت أسعارها باستمرار وغدت باهظة الثمن لا يقدر على شرائها أو استئجارها إلا علية القوم أو السياح الأجانب الأغنياء الذين يزورون المدينة أيام الإجازات. تقول يولاندا برنارديني التي كانت تملك شقة جميلة بسيطة قرب جسر ريالتو المعروف إنها باعت شقتها وانتقلت إلى ضواحي فينيسيا في منطقة ميستريه، وهي تستمتع الآن بمساحة أكبر وتستطيع قيادة سيارة صغيرة لتلبية حاجاتها والذهاب إلى السوبر ماركت لشراء الخضار والفواكه الطازجة والتنقل براحة «على أرض ثابتة»، وعلى الرغم من حنينها إلى شقتها القديمة، فإنها «(طفشت) ولم تعد تتحمل رؤية وإزعاج قوافل السياح الأجانب ومجموعاتهم المتنقلة يوميا ومن دون انقطاع في الفصول الأربعة وكأنها قطعة ابن المدينة الموسيقار الشهير فيفالدي التي يتكرر عزفها صباحا ومساء»، علما بأنها تدرك أن السياحة هي المورد الأول للمدينة «وأن كل امرئ في العالم يحلم بزيارة فينيسيا ولو مرة واحدة في حياته». كيف لا يتقاطر الزوار على هذه المدينة الفريدة الحسناء الحافلة بالفن والعمارة والقصور والتاريخ العريق؛ فمنهم مستعد لقطع القارات لرؤية لوحات باولو فيرونيزي أحد أعمدة التصوير في القرن السادس عشر الذي رسم الناس والعمائر متلازمين، خاصة تكويناته الزخرفية الضخمة للولائم بما تتضمن من تمثيل للمباني البديعة وحشود الضيوف، والمولعون بفن جاكوبو تنتوريتو كثر، لأنه يجمع بين تصميمات مايكل أنجلو وألوان تتسيانو في قدرة خارقة على بث الإشراق والإظلام مثلما يرى هواة السياحة الثقافية في لوحته المشهورة منذ 400 عام في متحف الأكاديمية في فينيسيا المسماة «خلق الطير والحيوان». هواة التاريخ يستذكرون في فينيسيا معركة ليبانتو الأولى بين الدولة العثمانية وجمهورية البندقية حين انتصر السلطان بيازيد الثاني عام 1499، ثم المعركة البحرية الفاصلة عام 1571 ضد الأسطول العثماني الذي كان يسعى للسيطرة على جزيرة قبرص واستخلاصها من أيدي جمهورية البندقية مما دفع إلى تحالف بابا الفاتيكان مع ملك إسبانيا والقاضي الأول (الدوج) في فينيسيا ضد السلطان سليم الذي عوض عن هزيمته بالاستيلاء على تونس وانتزاعها من الإسبان. ترى هذا التاريخ أمامك الآن في لوحات خالدة لفيرونيزي إن فاتتك قراءة كتب التاريخ. المشكلة أن أهل فينيسيا يعرفون هذه الأحداث الماضية جيدا، لكن الإغراء بالنسبة للسياح والزوار لأول مرة لا يقاوم. يقول جو سيمونز وهو سائح أميركي من ولاية بنسلفانيا درس تاريخ الفن: «صحيح أن اليورو يعادل حاليا دولارا ونصف الدولار وكل شيء هنا باهظ الثمن، إنما قل لي أين تجد مدينة صغيرة بهذا الجمال وفيها 21 متحفا، منها خمسة من أهم المتاحف في العالم». ويردف قائلا: «أتوق للبقاء فترة طويلة لو أتيح لي المال الكافي، وأتساءل: هل هناك مثيل لصالة عرض فنية مثل الأكاديمية ومتحف غوغنهايم للفن الحديث ومتحف كا بيزارو ومتحف الفنون الشرقية وقصر غراسي وكا دورو (البيت الذهبي) من القرن الخامس عشر ثم دار الأوبرا التي احترقت وأعيد بناؤها قبل سنوات والمسماة باسم الطائر الأسطوري «العنقاء» (لا فينيش) الذي ينبعث من الرماد بعد أن يحرق نفسه وهو أتم ما يكون شبابا وجمالا، فهو شعار المدينة الفاتنة التي حاولوا تقليد شوارعها المائية في لوس أنجليس ولاس فيغاس».

يبلغ عدد المتقاعدين والمسنين في فينيسيا نحو 26 في المائة، بينما يقل عدد الأطفال ومن هم دون الثامنة عشرة عن 14 في المائة وهي معدلات أكثر من المتوسط الإحصائي لإيطاليا بالنسبة للكبار (20%) وأقل بالنسبة للصغار (18%). وأهل المدينة غبر راضين عن الساسة فيها ويعتقدون أنهم لا يقدمون لهم الخدمات اللازمة، فكل همهم منصب على السياح ومورد السياحة، فأصحاب الفنادق وسائقو الجندول والتاكسي لهم نفوذ أكبر من حجمهم أو من المسنين، فهناك وفرة في عدد الفنادق التي تضاعف عددها خلال الخمسين سنة الماضية، وقلة في دور السكن في الوسط التاريخي بحيث يضطر خريجو الجامعات للعمل في وظيفتين ليتمكنوا من تأمين نفقات المعيشة بينما يتذمر المسنون من شحة مواردهم وضعف رواتبهم التقاعدية. وفي دراسة تولتها إحدى الجامعات مؤخرا ثبت أن 75 في المائة من السكان ذكروا أنهم لا يستطيعون تحمل غلاء المعيشة لأن أغلب المحلات والحوانيت تسعر موادها للسياح لا لأهل البلد، فسعر كيلو اللحم يزيد بـ2 يورو (أي 3 دولارات) في الوسط التاريخي عن الضواحي والبلدات المجاورة، وقس على ذلك أسعار الملابس والحاجيات، لذا ينخفض عدد سكان فينيسيا سنويا بنسبة 0.2 في المائة في حين يزداد عدد الولادات في إيطاليا على الرغم من أن إجمالي عدد السكان بقي عند مستوى 60 مليون نسمة تقريبا في السنوات العشر الأخيرة (من دون اعتبار عدد الأجانب المقيمين أو الهجرة غير الشرعية). المسنون يحتاجون إلى مساعدة من يسهر على صحتهم أو يقدم لهم خدمات منزلية، وأجرة هؤلاء المساعدين أو الممرضات تزداد في الوسط التاريخي لأن أجرة المواصلات البحرية عالية بالنسبة للأسعار البخسة للأتوبيسات والحافلات في اليابسة عدا الوقت الطويل لانتظار وصول القوارب إلى المحطات المحدودة. أضف إلى ذلك أن نشاط المسنين بطيء لأنهم يحبون المشي طويلا والتحدث مع بعضهم بعضا، وهذا غير متوفر في الأزقة الضيقة المتعرجة والقنوات المائية. لذا تستخلص الدراسة بعد التحليل أن فينيسيا «لم تعد مدينة اجتماعية».

لقد تبدل نمط الحياة كثيرا في المدينة منذ عصر النهضة حين كانت فينيسيا غنية موسرة متخمة بالثروة واحتفالات الكرنفال ومغامرات العاشق كازانوفا، أما اقتصادها الآن فيعتمد على السياحة وبناء السفن وصنع الزجاج والتحف والثريات والأنسجة المخرمة، ويزورها كل يوم خمسون ألف سائح على الأقل، وما زالت شهيرة بذوقها الفني الرفيع ومهرجان السينما في أواخر الصيف والبينالي للرسم واحتفالات الكرنفال في الشتاء ومعالمها الرائعة مثل ساحة سان ماركو وعبور 400 جسر و177 قنالا تصل المدينة القديمة ببعضها بعضا فهي أكبر مركز حضري في أوروبا يخلو من السيارات، لكن أجرة بطاقة السفر داخل المدينة بالمراكب البخارية البحرية (فابوريتو) تصل إلى 6.5 يورو (10 دولارات) وتبقى صالحة لمدة ساعة واحدة فقط، وعلى الزائر الذي يصل إليها بسيارته أن يترك سيارته خارج المدينة ويدفع 30 يورو (45 دولارا) يوميا في المواقف المخصصة للسيارات.

من وجهة نظر المواطن الإيطالي العادي، فإن كثرة السياح واجتياحهم للمدينة وارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات البلدية هي المشكلات الرئيسية التي تواجه عمدة المدينة اليساري ماسيمو كاشاري صديق زوجة رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني التي تطالبه بالطلاق منذ أشهر، أما لورا فينكاتو المسؤولة عن شؤون البيئة في البلدية فتعترف بأن كاشاري محق في هجومه على قلة النظافة وإفساد البيئة وتقليص الدعم الحكومي بسبب الأزمة الاقتصادية، لكنها تقول: «ليست فينيسيا أقل نظافة من روما أو فلورنسا، وهي المدن الرئيسية للسياح في إيطاليا، لكننا بدأنا ننتبه منذ عام 2004 إلى المؤشرات العلمية لحالة الجو والتلوث، وهي مشكلات تهم المواطنين ولا يحس بها السياح كثيرا لقصر مدة إقامتهم، وعلى الحكومة أن تخصص الموارد المالية اللازمة، لأن الأمر ليس ترفا بل الهواء الذي يتنفسه عامة الناس»، إنما يبدو أن الحكومة اليمينية الحالية تفكر في وضع العصي في العجلات للتخلص من كاشاري في الانتخابات المقبلة بعد تنفير الناس من إدارته لشؤون المدينة، ورأس حربة الهجوم هو اومبرتو بوسي زعيم حزب «رابطة الشمال» المشاركة في الحكم الذي يعتبر مقاطعة فينيتو (وعاصمتها فينيسيا) في شمال شرقي إيطاليا ومقاطعة بيمونته (وعاصمتها تورينو وعمدتها يساري أيضا) في شمال غربي إيطاليا، مثلما صرح بنفسه في أوائل الشهر الحالي، «تابعتين لدولة بادانيا (وهو الاسم الذي يطلقه حزبه على شمال إيطاليا بما في ذلك مقاطعة لومبارديا وعاصمتها ميلانو) الشمالية»، قائلا: «بادانيا هي التي تفرخ ثروة إيطاليا بينما يهدرها الجنوب وتسرقها المافيات والحكومات الفاسدة في روما». هل يلعب الساسة على وتر الانفصال وتفوق الشمال على الجنوب أم أن هدف البعض منهم سلخ إقليم فينيتو عن باقي إيطاليا الموحدة منذ أقل من مائة وخمسين عاما والعودة إلى أيام جمهورية البندقية؟ المعروف أن كلمة «تشاو» الإيطالية ولدت في البندقية حين كانت اللغة المحلية سائدة قبل الوحدة الإيطالية وهي تعني «أنا عبدك» (مثل: أنا فداؤك) أما الآن فأصبحت تعني: «مرحبا» أو «وداعا»، ولا ندري ماذا تخبئ الأقدار لفينيسيا الحديثة، فالمتشائمون يقولون إنها تغرق تدريجيا وحكومة برلسكوني تحاول حمايتها بإنشاء سدود بحرية متحركة أثناء الفيضان وقوى اليسار بزعامة لويجي برساني الذي فاز مؤخرا بقيادة التجمع اليساري تريد إسقاط برلسكوني تحت وطأة الفضائح وتدعو إلى الانتخابات المبكرة، لكن الجميع من الأطياف كافة يريدون المزيد من السياح لزيادة الدخل القومي وخفض عجز الميزانية الحكومية، وليس على المسنين من أهل فينيسيا الموجودين فيها منذ سبعة أجيال سوى الرحيل عنها تدريجيا ريثما تحل إيطاليا مشكلاتها الداخلية وهم يقولون: «تشاو» بمعنى وداعا!

تعليقات: