«شطب» نفسه في الشارع لمنع مصادرة دراجته!

صادروا درّاجته فشطّب جسده احتجاجاً أمس
صادروا درّاجته فشطّب جسده احتجاجاً أمس


العشرات ممن تجمعوا عند الحادية عشرة من صباح أمس، عند تقاطع فرنسبنك - الوردية في الحمراء، لم يكونوا بحاجة لأن يروا بأعينهم المشهد الدموي لشاب «يشطّب» نفسه بسكين، ليفهموا ما يجري. فصوت الشاب الذي أوقفته القوى الأمنية لتوها، بسبب عدم استيفاء دراجته النارية الشروط القانونية، يُسمع على بُعد أمتار. الشاب ع. ب. (مواليد 1987) يصرخ رافضاً مصادرة الدراجة، ويردد «ما معي مصاري لطلّعها». يردد الشاب كلاماً غاضباً، يقف وسط الشارع، يعرقل حركة السير باتجاه مصرف لبنان، فترتفع أبواق السيارات.

كانت محاولاته لإقناع قوات الأمن بالعودة عن قرارها، قد فشلت، فأشهر سكيناً حادة، وراح يصرخ مهدداً: «إذا بتاخدوها (الدارجة)، بقتل حالي». شيء من التهديد تحول في ثوان إلى واقع، إذ خلع الشاب قميصه القطني، وراح يجرح جسده بضربات متتالية: الرأس، المعدة، الظهر، الذراعان. أكثر من عشر «شطبات» جعلت الدم يسيل من أنحاء متفرقة من جسده، لا سيما عند المعدة.

تزايد عديد قوى الأمن حول الشاب، وانتشر عناصر من «القوات الخاصة» في المنطقة. حاول عدد من عناصر قوى الأمن أن يناقش الشاب لإبعاده أولاً عن وسط الشارع، ثم سعوا إلى أخذ السكين منه، لمنعه من إيذاء نفسه أو المواطنين. أكثر من 45 دقيقة من المفاوضات باءت بالفشل، فالشاب العشريني ظل يحمل السكين في يده حتى اللحظة الأخيرة، وهو أيضاً «يفاوض» القوى الأمنية على الإجراءات التي ستتبع حجز دراجته. تسمع نقاشاً من نوع «أنا ما بسلم الدراجة، أنا بروح معها على المخفر، أو أنا آخذها بنفسي إلى مفرزة الطيونة!».

أحد رجال الأمن المحيطين به، يجيب: «رح نرجعلك إياها، عم نقدملك حلول، تجاوب معنا، سلم السكين، ونرافقك أنت والدراجة إلى المخفر».

عند الثانية عشرة ظهراً، أدار الشاب ظهره للقوى الأمنية، مشى بين المواطنين باتجاه مقهى «الإتوال» حاملاً بيده اليمنى السكين نفسه، يرافقه عنصر من القوى أمنية، واختفى من المشهد. في المحيط يتردد أن الشاب توجه إلى مفرزة الطيونة، لكن المؤكد أن أحداً لم ير الشاب مكبلاً، ولم يستطع أي من عناصر قوى الأمن تسلم السكين منه.

لاحقاً، أفادت شعبة العلاقات العامة أن «الشاب ع. ب. أوقف بناء لإشارة القضاء المختص، ومن التهم الموجهة إليه مهاجمة القوى الأمنية بآلة حادة، إضافة إلى مخالفة دراجته النارية..». وبحسب مصادر في الشعبة، «تكررت مفاوضات مشابهة لتلك التي وقعت في الحمراء، في المفرزة الطيونة، حيث هدد الشاب مجدداً بشطب جسده، ونجحت القوى الأمنية أخيراً بسحب السكين منه، وإيقافه».

ويبدو أن هذه الحادثة ليست الوحيدة من نوعها، منذ أن بدأت القوى الأمنية بتطبيق تعميم لتنظيم حركة سير الدرّاجات النارية، مساء 15 الجاري. فبحسب شهود عيان تحدثوا إلى «السفير»، وقع حادث مشابه، مساء أمس الأول، أمام أحد متاجر الألبسة الكبرى وسط شارع الحمراء، إثر محاولة القوى الأمنية مصادرة دراجتين ناريتين مخالفتين.

من جهته، أصدر وزير الداخلية والبلديات زياد بارود أمس قراراً مفصلاً حول شروط منح التراخيص للأفراد الراغبين باستخدام دراجاتهم بين السادسة مساء والخامسة صباحاً، بالإضافة إلى التشديد على استيفائها الشروط القانونية المطلوبة. لكن أي تعميم أو توضيح أو شرح، لم يشر إلى نوع الإجراءات الواجب اتخاذها عند مواجهة حالة كحالة المواطن ع. ب. فهل من خطة بديلة في حال ظهور سلاح أو آلة حادة؟ هل من فريق خاص، مؤهل أكثر من غيره، لـ«التفاوض» مع مخالفين ومواقف من هذا النوع؟

الأسئلة السابقة، ليس بغية تبرئة أي مخالف للقانون، ولا لنقول إن قوات الأمن على خطأ بالمطلق، لكن لنسأل عن كيفية قمع مخالفة قد تتطور إلى دماء (المخالِف أو المحيطين به). فقد كان المشهد أكثر من قاس على يوم عمل عادي، وعلى الطلاب والموظفين والتلاميذ الصغار الخارجين من حضاناتهم . كان مرعباً لكل من رآه أو سمع أو قرأ عنه.. وأكثر ما يخيف ألا يكون «فلتــة شوط» في الحمراء، فيمتد إلى بقية المناطق بغية حماية «الموتو».

------------------------------------------------

حفر غضبه في جسده

جهاد بزي

لنمعن النظر فيه، هذا الشاب الذي وقف في الشارع، شاهراً سكينه على جسده، معملاً فيه الجرح تلو الجرح. هل نعرفه؟

لننظر إلى وجهه، وليس إلى الجراح في بطنه. هذا وجه لبناني مألوف. نلتقيه جالساً إلى الكورنيش مدخناً أرجيلة. يوصل طعامنا على دراجته النارية ويخرج من جيبه كومة أوراق نقدية غير مرتبة، ليعيد إلينا بقية مالنا بعدما ندفع إليه، ويتردد قليلاً في المغادرة، ريثما نعطيه الاكرامية. تقفز دراجته النارية أمامنا فجأة، ونكاد ندهسه. أو يظل ممدداً على الارض يئن من الالم بعدما دهسناه. يعبئ الحاجيات في الاكياس، ويجر عربة تسوّقنا ويضعها في صندوق السيارة، وينال لقاء عمله الف ليرة، ونعلم انه هو الذي يدفع للمجمع نحو خمسة آلاف ليرة لقاء ساعات محددة من هذا العمل اليومي يمضيها وهو ينقل الحاجيات وينال بدل جهده. يرتفع إطار دراجته في الهواء، ويسير بها واقفا على مقعدها، تبتعد جمجمته مترين عن التهشم تماماً. يقف مع شبان آخرين في الشارع ولا يفعل إلا هذا الوقوف. يرمي بأكثر ما استطاع من قوة عبوة المياه الفارغة إلى البحر. يسقط مضرجاً بدمائه في حي السلم، في معركة غير مفهومة. يحطم كل ما يعترض طريقه في الاشرفية. يقفز شاتماً زعيم خصمه السياسي وربه وطائفته. يخوض معارك كر وفر بين عين الرمانة والشياح، بين الخندق الغميق ورأس النبع، بين بربور وكورنيش المزرعة. يطلق النار في الهواء قبل وبعد حديث الزعيم. يسقط قتيلاً بعد تظاهرة أو حرب أهلية فرعية، وننسى اسمه في اليوم التالي على مقتله. يشاهد التلفزيون ويرى حياة الآخرين على هذا الكوكب. يحب فتاة. ينام حالماً بالسفر، أو على الاقل بوظيفة ثابتة. هل نعرفه، هذا الشاب الذي حفر في جسده كرهه الشديد وحقده الهائل ويأسه التام من هذا البلد؟

ليست مجرد دراجة، هذه التي أوصلته إلى اختناقه الأخير. هي لحظة ذروة. لم يمد السكين صوب أحد، بل صوب نفسه، صوب داخله الملآن بالوهن والتعب والخوف. هذا أقصى أنواع العنف. عنف الإبن حين يواجه أهله بإيذاء نفسه، بتحميل الأهل ذنب وصوله إلى هذه الحالة التي وصل إليها.

لم يكن يقف امام عناصر درك، ولا متفرجين في الشارع الأنيق في المنطقة التي يمكن وصفها بالفخمة. كان الشاب المجهول يقف أمام لبنان، شاهراً بوجه هذا الأب الغريب الأطوار كل رفضه له. لبنان الذي عرفه هذا الشاب ورفاقه، لبنان ما بعد الحرب لم يعطه أي شيء، فبأي حق يطلب منه دراجته النارية؟

لبنان السياحة والفنادق والمطاعم ومحلات الثياب والوسط التجاري والسيارات الفخمة والأبراج البحرية العاجية. لبنان الطبقة السياسية الفاسدة وقالب جبنتها العفن ولبنان الوظيفة المستحيلة. لبنان الذي لا يحمي عاملاً ولا يحمي أجيراً. لبنان المواكب السوداء التي تخترقنا من أعناقنا كي تمر من بيننا خائفة منا. لبنان التائه الذي يغوص في حروب متفرقة ثم في حرب أهلية صغيرة كي يحل مشاكله. لبنان القاصر عن انتخاب رئيس وعن تشكيل حكومة. لبنان الذي يخاف اللبناني فيه من مدرسته الرسمية ومن جامعته الرسمية، وترعبه مستشفياته الخاصة. لبنان الذي تنتهي علاقة اللبناني فيه عند كبير الطائفة بصفته مفتاحاً لكل أبواب الجنة، من الموقف السياسي إلى الوظيفة. لبنان الذي يمنع عن شاب تسرب من المدرسة لألف سبب أن يبدأ من نقطة صفر ما ببناء حياة حقيقية. لبنان الذي من المستحيل أن يؤمن للواحد أدنى شعور بالاستقرار والأمان. لبنان البخيل هذا، لا يخجل من سلب شاب دراجة نارية. لبنان الذي انجب هذا الشاب ورماه لقدره، لا يخجل من نفسه، وليس لدى الشاب ما يواجه به بلده، إلا سكينه وجسده.

لننظر إلى الشاب. هل رأيناه قبلاً، نحن المحظوظين بدخل ووظيفة ثابتة يؤمنان لنا إدّعاء إنتمائنا إلى الطبقة الوسطى. هل رأيناه قبلاً، نحن المحظوظين بأننا نواب ووزارء ورؤساء وأصحاب بنوك وتجار أثرياء وأصحاب رؤوس أموال نملك البلد برمته؟

هل نعرفه هذا الشاب الذي أسال دمه بيده؟

تعليقات: