آثـــار الـــحـــرب لـــدى الأطــــفــــال

آثـــار الـــحـــرب الأخـــيـــرة لـــدى أطــــفــــال لــــبـــنـــــان:

قــــلــــق وانــــطـــواء وغـــضـــب يـــتـــفـــجّر عـــنـــفـــاً مــتــبـــادلاً

بدأ جيل ينمو في لبنان من دون خبرات عن الحرب في ذاكرته. انه جيل من ولدوا بعد التسعينات، باستثناء من يعيشون في الجنوب. لكن الحرب الاخيرة اعادة طبع ذكرى الحروب الاليمة في اذهان جيل كامل من الاطفال. بالنسبة الى هذا الجيل من اطفال لبنان، كانت الحرب الاخيرة خبرته الاولى في الحروب.

جون إيناب

ادركت فاطمة زلزل (12 عاما) الحقيقة من دون ان تحتاج الى اي شرح. فقد فقدت امها واختيها. فاطمة كانت تستقل سيارة مع ابيها واخيها. اما امها وشقيقتاها فكن في سيارة اخرى، وفي منتصف الطريق الى بيروت، تلقى والدها مكالمة عبر هاتفه الخلوي، سرعان ما لاحظت بعدها فاطمة الدموع تنهمر من عينيه. سألته عما حدث، لكنه طمأنها الى ان امها واختيها توجهن الى المستشفى على اثر اصابتهن اثناء الطريق، وبعدما وصل نصف العائلة الى بيروت، لم يبادر الاب بالذهاب الى المستشفى او الى اي مكان آخر. فقدت فاطمة امها وشقيقتيها، اضافة الى خالتها وزوجها، في رحلتهم الى بيروت.

هبة قصير وسوزان عثمان متطوعتان من دير قانون، قرية فاطمة. حال فاطمة تعرفانها جيدا: "فاطمة بدا عليها شعور بالملل، لكن سرعان ما اندمجت مع اصدقائها، خصوصا الكبار"، على ما تقولان، مشيرتين الى "انها كانت تروي قصة فقدان عائلتها بهدوء وسلاسة". ورغم التفاف الآخرين حولها، خصوصا المشرفين، الا انها لا تستغل هذا التمييز. وكان واضحا ان "فاطمة تعاني، ولكن بصمت". وقد تم الاكتفاء بمراقبتها من بعد، رغبة في عدم اثارة ذكرياتها المؤلمة. وقد تتوجه الاسرة الى المانيا، على ما قالت فاطمة للمشرفات، للعيش مع عمها وخالتها الاخرى هناك بعيدا من تلك الذكريات.

واذا كانت فاطمة وجدت من يتابعها، فان آية وسارة شلهوب (11 و12 عاما) لم تتوافر لهما تلك النعمة. كانتا في منزل احد الاقارب اسفل التل، حيث بيت العائلة في قانا. ثم عادتا الى ساحة الدار لتجدا ابناء عمومتهما في نعوشهم، في المكان نفسه الذي كثيرا ما تجمعوا فيه معا "للعب الفوتبول".

تحكي آية عن اقاربها الضحايا. "قاسم (9 اعوام) كان يقربني عمرا، وكنا نلعب معا الخباية". وتعود بذاكرتها الى البطولة السابقة لكأس العالم في كرة القدم، والتي كان قاسم من مشجعي فريق البرازيل. وعندما خرج الفريق من البطولة، راح يبكي بحرارة. "سأفتقد كثيرا". ووسط المرارة، تستحضر ذكريات سعيدة عن عيد ميلادها الاخير. "اشترت لي خالتي بيجاما، وزارتني جدتي قبل ان تقضيا في المذبحة الاخيرة".

سارة جمل متطوعة في الحملة المدنية للاغاثة. تدربت في الحرب الاخيرة في معسكر في قرية برج البراجنة على العمل الدرامي والمسرحي، مع 150 متطوعا من خلفيات مختلفة. كذلك انشغلت اثناء الحرب في اغاثة النازحين، واستمرت في عملها التطوعي بعد الحرب. سارة تتوجه في نهاية كل اسبوع الى دير قانون النهر (قضاء صور) لتعمل مع اطفال في مركز ثقافي، كما مع اهالي هذه القرية. ولا تخفي معاناة الاطفال حتى بعد انتهاء الحرب، اذ لا تزال كلمات بعضهم تتردد في اذنيها: "ما بدي موت... لشو خلقنا؟ للحرب؟ لشو ماما ماتت؟"، سألوها مرارا. ولم يسعها الا ان تجيب ببعض التطمين: "لا تخافوا. كلنا الى جانبكم". وقد اثمر عملها وحضورها. "رأينا البسمة تعود تدريجا الى وجوههم، وفرحنا لانهم خرجوا من حالاتهم النفسية السيئة بعد الحرب".

فقد بعض الاولاد اهلهم على اثر القصف الاسرائيلي على تلك القرية الصغيرة في قضاء صور، اضافة الى نحو 50 منزلا دمرت كليا او جزئيا.

"الصغار يتقبلون التغييرات"

يقول طبيب الامراض العصبية في المستشفى العسكري في بيروت الدكتور انطوان سعد: "بعكس الكبار، يتقبل الصغار بسهولة التعايش مع تغييرات كبيرة، كفقدان احد الوالدين او الاقرباء". نصيحته هي عدم اخفاء حقيقة هذه الوفاة عن الاطفال. "الطفل ذكي، وسيعرف يوما ما. وتأثير جو الخداع اسوأ عليه من معرفة الحقيقة".

جنوبا في صريفا، يروي علي منيف (14 عاما) مأساة نزوح عائلته ثم عودتها بعد وقف اطلاق النار. ما زال يتذكر أخاه الصغير محمد (7 أعوام) الذي حمله الخوف اثناء القصف على ان يتبول في ثيابه لاإراديا. حوالى 20 يوما أمضتها العائلة في المدرسة الارمنية في بيروت، مثل آلاف النازحين الذين رحلوا جراء العدوان. علي كان يلعب الكرة مع أقرانه وقد فرح بالتعرف على أصدقاء جدد في تلك الفترة التي أمضاها بعيدا من بيته. وكان كثيرا ما يفكر: "هل سأعود لأجد "البيسكليت" سليمة أم تحت أنقاض الدار؟". ورغم ألعاب الطفولة التي يحن اليها، لكنه يتشوق الى ألعاب الكبار. "أريد ان أكون مجاهدا لأدافع عن اهلي وعن المقاومة".

في أحد المنازل على أطراف شاتيلا في بيروت، جلست ملاك عزقول (9 أعوام) في الدار التي هربت منها أثناء الحرب كي تحكي عما أدركته مما حدث لها. انتقلت عائلتها ايضا ولكن الى ناحية أخرى قرب المنطقة. ورغم لجوئها مع عائلتها الى مكان أكثر أمانا آنذاك، الا ان الخوف كان استوطن قلب الطفلة الصغيرة. تقول ملاك: "خفت كتير وكنت بتخبّى بماما". لا تعي كثيرا ما دار حولها في تلك الحرب، لكنها تسأل بفطنة: "هل البلدان الاخرى أجمل (ربما عنت بذلك ان تكون أكثر أمانا) من لبنان؟".

... وتبقى الآثار

انتهت الحرب، لكن آثارها ما زالت عالقة في أذهان أطفال كثيرين. ويشدد الدكتور سعد على ان "الخوف والقلق اللذين يصاحبان مثل هذه الاجواء في الحروب قد يؤديان الى قتل الطموح والثقة بالنفس لدى الاطفال. وهذا ناجم أساسا من اختفاء الاحساس بالأمان الذي هو حاجة أساسية لأي طفل". وينبه الى ضرورة "عدم تكرار الاخبار المؤلمة على مسامع الاطفال بعد انتهاء الحرب".

من جهتها، تعتبر معالجة النفس الحركية كلاريس رامي ان "الأحلام، خصوصا لدى الاطفال، قد تكون متنفسا كبيرا للخروج من ملاحقة الاخبار السيئة". وتوضح ان "الاحلام عامل أكثر فاعلية على نفسية الاطفال".

رغم كل معاناة الحرب، لا تزال أحلام الاطفال تعد بربيع آت. آية تريد أن تصبح طبيبة أطفال او مدرسة لغة فرنسية عندما تكبر. أما سارة، فتريد أن تكون مهندسة ديكور أو مسؤولة في دار أيتام. أما ملاك، فتحلم بأن تسافر حول العالم.

ما تأثير صور الحرب على الاطفال؟

تلاحظ كلاريس رامي، وهي متدربة علاج نفسي حركي، أثناء رحلاتها اليومية من العمل واليه، كثرة اللوحات الفوتوغرافية لضحايا الحرب معروضة في عدد من الميادين وأماكن التجمع، ربما لجذب التعاطف وتحقيق المساندة الانسانية للبنانيين. تقول ان "مثل هذه الصور هي أسوأ ما يمكن ان يعرض، خصوصا على الاطفال"، مؤكدة ان "نتيجتها سلبية على مخيلة الاطفال، مما يعزز مشاعر الخوف وعدم الاحساس بالأمان لديهم".

وتلفت الى ضرورة "تنبه الاهالي الى المادة الاعلامية التي يشاهدها الاطفال على التلفزيون". وتنصح "بألا يشاهد الاطفال الاخبار المرتبطة بالحرب، بحيث يكتفون بمشاهدة البرامج الخاصة بهم، او على الاقل برامج تبعدهم عن ذكرى الحرب والدمار".

عوامل أخرى

يلاحظ المتطوعون والمشرفون النفسانيون سلوكيات غريبة لدى بعض الاطفال، كالانطواء والبكاء وعدم الرغبة في اللعب، اضافة الى تفجير ما في داخلهم من غضب عبر ضرب بعضهم البعض. وفي بعض الحالات، كان بعضهم يستاء من فوز آخرين في لعبة ما. وراح المتطوعون بدورهم يحاولون مصادقة الاطفال، قائلين "جئنا نساعدكم، ونفرح معكم".

قد تكون الحرب او تأثيراتها وراء هذه الحالات، او قد يكون السبب عوامل أخرى. من هنا أهمية متابعة الصحة النفسية للأولاد. تقول هبة غزيري، وهي اختصاصية في علم النفس وتعمل مع أطفال في المركز في ديرقانون: "يجب التنبه الى الاسباب الحقيقية للسلوكيات المضطربة والانحرافات النفسية. من الضروري أخذ الحالة الأسرية في الاعتبار، وما يتعرض له الاطفال من معاملة الوالدين، الى جانب الظروف الخارجية".

وتعدد السلوكيات الغريبة لدى أطفال تابعتهم: "لقد تبين ان سببها مثلا سوء معاملة الأب لأسرته". وتشير الى ما اكتسبه الاطفال من معرفة، في التعامل مع الكثير من حالات تحتاج الى اسعافات أولية، كالجروح والكسور والنزف في الانف. "هذه الحوادث كانت فرصة لجمع الاطفال في انشطة مختلفة، يتعرفون عبرها على جوانب أخرى للحياة، كاللعب والمشاركة". وهو ما قام به ناشطون كثيرون في المجتمع المدني في أنحاء عدة في لبنان بعد الحرب.

تعليقات: