شوارعنا أسواق يحكمها باعة مجهولون

الطفولة المركونة على ارصفة الطرق تنتظر الضوﺀ الاخضر
الطفولة المركونة على ارصفة الطرق تنتظر الضوﺀ الاخضر


تجلس على حافة الرصيف وفوق كتفها طفل رضيع غارق في نومه، وعلى مقربة منها يقف ولدان تفصل بينهما مسافة قليلة، وليس بعيدا عنهما تقف مجموعة اولاد منهم من يحمل وردا للبيع وآخرون يحملون محارم او غيرها من اللوازم.

يتوقف السير فجأة التزاما بالشارة الحمراﺀ فتنتفض المرأة والاولاد ويسرعون للانتشار بين السيارات. انهم متسولون وباعة يتقنون عملهم بدقة، عبارات تستجدي عطف المارة وعلامات حزن باتوا يبدعون في رسمها على وجوههم، ويد ممدودة طلبا لمبلغ من المال اما "لشراﺀ منقوشة" او "علبة حليب" وما الى هنالك. اما الباعة منهم فاسلوبهم واحد لا يتغير، يعرضون السلعة ويحددون سعرها ثم ومن تلقاﺀ انفسهم يبادرون الى خفضه. انها اذاً الظاهرة القديمة المتجددة ذاتها والنشطة اليوم بفعل ازدهار الموسم السياحي، متسولون وباعة يملأون شــوارع العاصمة وضواحيها في مشهد مربك يتوزع ما بين العطف على هؤلاﺀ او النقمة على من كان وراﺀهم.

الضوﺀ الأحمر الذي يشير الى تــوقــف الــســيــارات، هــو بالنسبة لــــهــــؤلاﺀ شـــارتـــهـــم الــخــضــراﺀ لتحصيل رزق اليوم، فيتهافتون بما يحملونه من "علكة، وشقف وصــابــون" الــى نوافذ السيارات، وهنا تبدأ المعركة بين صاحب السيارة يشده الفضول ومتسول هــمــه تحصيل مــا تــيــســر حتى "ولو 500 ليرة"، وغالبا ما نشهد نــقــاشــا حــــادا ويــعــلــو الـــصـــراخ، "فلقد قام الفتى الصغير بمسح زجــاج الــســيــارة وصاحبها رفض إعطائه المال"، ويبقى الصغير يركض وراﺀ الــســيــارة لتحصيل الفه، فيتعب ويجلس الى جانب الطريق، ولكنه لا يستسلم وكلما توقفت الإشارة يعيد الكرة غير آبه بفرار الزبون.

تراهم لا يتعبون، صغارا وكبارا اعتادوا على ما يقومون به ويفاخرون به، فلقدتعدّت ظاهرة التشردنطاقها الضيق لتدخل بما يسمى "التجارة المربحة"، فأصبحت كشركة مؤلفة من فريق عمل، ومدراﺀ يترأسون الكراسي ويحصدون الغلة من الصغار. والملفت أن هــؤلاﺀ يدرسون خطواتهم جيداً، فتجدهم يتوزعون على العديد من الشوارع، "وكل واحد ورزقته"، لا أحد ينافس احـــدا، بــل الكل يتكاتفون للعمل جيداً، والإيقاع بالزبون "عاطفياً" لكسب الــمــال، والــعــودة الــى مأواهم بحمل كبير. تراهم تارة يهابون رجال الشرطة، وتارة أخرى لا يخافون من أحد.

هم الذين تعودوا على عملهم اليومي ولم يعد هذا بؤسا كما يصفه بعض الناس، لأنه باتت للتشرد حالات، وقليلة هي الحالات التي تنبع عن عوز، أو فقر، وغالبا ما تكون مظاهر الحرمان والفقر استكمالا لـ "اكسسوارات العمل".

يحاول علي الذي لا يزيد عمره عن الثماني ســنــوات ان يقنع السيدة الجالسة داخل سيارتها بشراﺀ ورقة لوتو "انشاﺀ الله بتربحي، ما معي الا ها الورقتين" ردد هذه العبارة مرتين وحين شعر ان الامل مفقود سارعها الى القول "اذا ما بدك تشتري اعطيني بقشيش"، وحين نال نصيبه مما تيسر انتقل الى السيارة التي خلفها مكررا الديباجة ذاتها مضافا اليها "جوعان وما معي اشتري منقوشي"، وهكذا دواليك الى ان انطلق السير. ومن اشارة الى اشــارة تتغير الاماكن ولا يتغير المشهد، هناك عند تقاطع الزيدانية - تلة الخياط وقف احدهم برفقة والدته يتساعدان على عد غلة النهار، وتعابير الوجه تشير الى ان الحصاد كان جيدا حيث تبادل الولد الابتسامة مع والدته التي اخذت المبلغ ووضعته في كيس معلق في رقبتها.

اما روايــات الباعة فكثيرة ويروي احمد ان احد الزبائن اشترى منه مردا للشمس خاصا بالسيارة "لكن السير انطلق قبل ان يدفع ثمنها والاخير لم يتوقف جانبا كي يدفع لي"، لكن زميله احمد يزيده "شطارة" كما يقول "فانا لا اسلم الغرض للزبون قبل ان اقبض منه".

باختصار يجيب هؤلاﺀ على اسئلة المارة، وتبريرهم لعملهم جاهز لا محالة فهذه تقول "زوجــي توفي وبــدي طعمي عيلتي" وتلك تدعي ان همها "كبير واخواتها صغار"، والملفت ان عملهم غالبا ما يكون عائليا لكن من الاب طبعا، فالام تقف في مكان وعلى بعد مسافة قصيرة منها ينتشر الاولاد ويتوزعون الادوار، هذا يحمل وردا وآخر يحمل ما تيسر له من ادوات منزلية، ويبقى وضع الكل مقبولا باستثناﺀ ذاك الذي "يطحش امام السيارة ويبادر من دون اذن ولا دستور الى تنظيف الزجاج".

لا توجد جهة مسؤولة عن هذه الظاهرة المنتشرة بكثافة في لبنان، ولطالما اخفقت محاولات القوى الامنية توقيف هــؤلاﺀ او منعهم عن العمل، وفي كثير من الاحيان تجدهم قد فروا من بين السيارات دفعة واحدة حين يحسون "بكبسة امنية". غالبيتهم ليسوا لبنانيين، هم من النور القاطنين خارج العاصمة ولهم مواعيد عمل تمتد حتى ساعات متأخرة من الليل حيث تأتي "فانات" تقلهم الى حيث اتوا. على ان هذا لا يعني ان ليس بينهم لبنانيون ممن قلت حيلتهم واضطروا الى مد اليد للغير، غير ان تعابير الوجه تكفل التمييز بين هذا وذاك، والمؤسف ان اعداد هؤلاﺀ في تزايد ما يعطي مؤشرا واضحا عن ضيق الحال في لبنان.

تعليقات: