شبـه جـزيـرة صـور.. تمـد رمـل شواطئهـا وتفتـح قلبهـا للعالـم

شاطئ الجمل في صور
شاطئ الجمل في صور


صور:

ضربت هزة أرضية، بلغت قوتها أكثر من ثلاث درجات على مقياس ريختر، الجنوب منذ يومين. استمرت لثلاث ثوان، ورافقها صوت هدير. لم تلق الهزة ردة فعل سلبية. ولم تشكّل حالة ذعر وخوف. السبب في ذلك يعود الى الهزة السياحية التي تضرب مدينة صور منذ عودة مهرجانات المدينة الى الضوء. ففتحت صور ذراعيها متسلحة بشاطئها وتاريخها السياحي، لتنبض الحياة السياحية فيها من جديد، بعد حرب تموز 2006.

من صيدا الى صور تبدأ رحلة السياحة الداخلية. تكتظّ الطريق باللافتات الإعلانية التي تعلن فعاليات المهرجان والحفلات التي يحييها عدد من المطربين. لا يتوقف الأمر عند زيارة مكان مهرجان واحد وحضوره. بل ينتظرك موعد مع قضاء صيف حار في مدينة مترامية في حضن المتوسط. تتوسط الدنيا بشاطئها الممزوج بحكايات الأولين حيث الأسطورة تعانق أقصى الأرض، «حكاية أروب»، «أبجدية قدموس» و«اليسار ملكة قرطاج».

انطلق الموعد السياحي المرتقب في بداية الشهر الجاري، ويستمر حتى العشرين من آب المقبل. تتوقف إطارات السيارة عن التحرك، ما ان تصل الى منطقة «البص»، وبعد مرور بضعة أمتار عن مدخل صور الرئيسي بالقرب من المفرق المؤدي الى منطقة العباسية. هنا تضع لافتات شوارع المدينة السائح أمام حيرة. يبحث الأخير عن طريقة للتهرب من الزحمة فيفشل، وأن تضيع في شوارع صور هو أمر من سابع المستحيلات. فنوافذ السيارات العابرة مشرعة والدردشات تتواصل عبرها بين أبناء المدينة وزوارها.

ينطلق الحديث عن صور من هذه النقطة. يلتقي أحد المغتربين، خلال انتظاره الطويل في حر الازدحام، بصديق قديم. يترجّل من السيارة ويعانقه. «يا زلمي مش مصدّق هيدي صور لي شفتها من ثلاث سنوات». فيبدو أن المغترب زار صور للمرة الأخيرة في حرب تموز، ويعود اليوم مستكشفا المدينة من جديد. تغيب آثار حرب العدوان عن المكان. يعزز التفاؤل السياحي الاستقرار العام مع ارتفاع نسبة الفنادق، المطاعم، المقاهي والمسابح التي تغطي مختلف أنحاء المدينة.

تتميّز صور بامتدادها في عمق البحر كشبه جزيرة، لكنها تعانق بداية جبل عامل ليفصل بينهما أحد أكبر السهول الساحلية الغنية بتربته وبساتين الليمون والموز، إضافة الى احتضانها مواقع أثرية مهمة. تعتبر تلك الميزات معايير تتسم بها المدينة التي فتحت أبوابها لزوارها المغتربين من جهة، والوافدين من المحافظات اللبنانية الست من جهة أخرى.

الكورنيش البحري والخيم

أهلا بك في حي الرملة. تنتصب الخيم البحرية الواقعة ضمن المحمية الطبيعية على شاطئ صور الجنوبي. تستعيد الأخيرة نشاطها الصيفي ويبلغ عددها اليوم 49 خيمة. تحافظ حيوية الكورنيش الجنوبي حيث تمتد الخيم، إضافة الى الفنادق والمطاعم على ضخ النشاط الاقتصادي والسياحي في المنطقة.

تشكل الخيم عاملا أساسيا في جذب السياح وتنشيط حركة الاصطياف والسياحة.

تتنوع كل واحدة بالاسم والشكل. وكانت بلدية صور قد أمّنت موقفا يستوعب العدد الكبير للسيارات التي تركن في مساحة رملية واسعة. يتوجب على كل زائر دفع 1500 ليرة لبنانية لموقف البلدية. الاستراحة تحت الخيم مجانية، أما أسعار الطعام فهي بحسب الطلب. وهي خيم ترتادها فئات المجتمع كافة.

وتقدم جميع أنواع المأكولات والمشروبات. أما الكحول فتقدم في بعض الخيم.

وبرغم ان أغنياء المدينة يرتادون منتجع المدينة، يفضّل بعضهم التوجه الى الخيم الرملية حيث «الاستجمام الحقيقي»، يشير أحدهم. تختلف كل خيمة عن أخرى. كذلك هناك تنوع اجتماعي بين روادها الفقراء والأغنياء. يحضر «البيكيني» مع الثياب المستخدمة للسباحة. تختلط اللهجة الأجنبية باللكنة الجنوبية. برغم ذلك لا يتدخل أحد بالآخر. تغطي «كركرة» النرجيلة على هدير الموج. يوفر المكان جميع أنواع نشاطات السياحة البحرية. تعانق شقراء صديقها على «الجيت سكي»، بينما تلعب السمراء كرة المضرب على الشاطئ. وللأطفال حصة في تعمير بيوت الأحلام الرملية.

تقترب العرّافة من إحدى الفتيات. تقرأ مستقبلها في كفها لتكشف عن مصيرها. تتحمس أجنبية للفكرة. لا تجيد العرافة إتقان اللغة الأجنبية. فتتولى متطوعة الترجمة الى العربية. تصدح موسيقى أجنبية. في المشهد نفسه هناك صوت لأغان عربية. ولكل خيمة ناسها وجوّها الخاص. تشير داليا فران، وهي صاحبة إحدى الخيم التي يرتادها عناصر»اليونيفيل» ومعظم السياح الأجانب، الى أنهـــا من الخيم القليلة التي تقدّم الكحول في المكان. وتشير الى التنسيق الذي يتم بين أصحاب الخــــيم حول موضوع تشغيل الموسيقى كي لا يحصل تضارب «لكن كل شي بحقه». وعن توافــــد الأجانب الى خيمتها تقول: «أخصص حـــفلا خاصا ومعظم الأغاني التي أشغلها باللغة الأجنبية، ما يجذب الحضور الأجنبي الى المكان».

وتستقبل الخيم زوارها من التاسعة والنصــــف صباحا حتى الثانية فجرا. وتؤكد فرّان أن البلدية تفرض رقابة على الخيم، خصوصا انـــها تقـــع ضمن المحمية الطبيعية، وتحدد مستوى الموسيقى للحفلات التي تقام فيها.

من جهة ثانية، تشهد المطاعم والفنادق الممتدة على الشاطئ الجنوبي حركة خجولة، متأثرة بوجود الخيم الصيفية، ما يحرمها نعمة الانتفاع من الموسم السياحي بالشكل المطلوب. يختلف الامر في مساء كل ليلة. تنطلق «كزدورة أبو ديب» عند غروب الشمس. بعدها يختار المكزدرون المطعم المفضل لديهم، لتناول العشاء وتدخين النرجيلة. في الوقت نفسه، تتوجه العائلات وبعض «العشاق المراهقين» الى الكورنيش حيث يأكلون الذرة المشوية ويتناولون البوظة العربية. والــــذي لا يستطيع توفير كلفة المطاعم، ينتقل بنرجيلته الى الكورنيش ويخلق جوا حميما مع الأصدقاء والعائلة.

الأوروبيون أحفادنا

يشير رئيس بلدية صور عبد المحسن الحسيني الى ان السياحة في صور هذه السنة ومهرجاناتها، ستدفعان الى رفع الحيوية السياحية، «ما يكسب المدينة مزيدا من الزوار وضخ النشاط الاقتصادي». ويمازح قائلا: «صور ليست كما المناطق الاخرى، فسياحتنا ثقافية بينما السياحة عند غيرنا هي لتضييع الوقت». ويعرض الحســــيني نبذة تاريخية سريعــــة عن صور السابعة اليوم، بعد أن دمّرت ست مرات، ويبلغ عمرها تسعة آلاف عــام.

ويضيف الحسيني: «الأوروبيون الذين يزوروننا اليوم هم أحفادنا. ارتبطت بصور العديد من الأساطير أشهرها أسطورة أوروبا ابنة آجنور التي أعجب بها كبير الآلهة وخطفها الى بلاد اليونان. وهي التي أعطت لقارة أوروبا اسمها. وتقول الأسطورة إن الملك آجنور أرسل أولاده للبحث عن ابنته ومن بينهم قدموس الذي ذهب الى رودس ونشر الأبجدية في تلك البلاد». وعن مشاريع المدينة السياحية يجيب الحســيني «هناك مشروع الإرث الثقافي لحماية الآثار وترميمها بتمويل من الحكومة الايطالية، إــضافة الى تعزيز وضع ميناء الصياديين ومحيطه بتمويل من وكالة التنمية الفرنسية».

ويتمنى الحسيني إنهاء الجزء الرابع والأخير من أشغال أوتوستراد «الزهراني» الذي يصل الى صور فـ«السياحة لها مقوماتها وتتطلب طرقا سهلة لسلكها، والطرق والمواصلات هي مهمة لأي موقع سياحي». ويلفت الى مهرجان «زلغوطة على الكورنيش» الذي نظمته جمعية «نبض»، بدعم من وزارة السياحة ومهرجانات صور والجنوب والبلدية الشهر الماضي، مؤكدا على مبدأ «السياحة ماشية، لان وضع البلد مستقر وهادئ».

حضور خجول للمواقع الأثرية

يستلقي رجل في العقد السادس من عمره على كرسي خشبي، تحت ظل شجرة، أمام كوخه الصغير داخل قلعة صور. فالحركة الخجولة لا تتطلب منه جهدا لاستقبال السياح. يشير الرجل الذي يعمل مرشدا سياحيا، الى انه يستقبل يوميا بين عشرة وعشرين سائحا، وأحيانا «لا يأتي أحد».

ويشير كتيّب الدليل السياحي للمدينة الى أن المديرية العامة للآثار كانت قد أجرت حفريات في المدينة منذ عام 1943 في ثلاثة مواقع. بداية، في منطقة البص حيث عثر على الطريق الرومانية البيزنطية وعلى جانبها المدافن، وعلى قوس النصر والمدرج، وتعود جميعها الى القرن الثاني بعد الميلاد.

ويقع الموقع الثاني في الجزيرة القديمة في قسمها الجنوبي، وعثر فيه على آثار رومانية أبرزها الملعب والحمامات والمساكن وأسواق على جانبي الشارع الروماني. وقد كشفت في الجزيرة أيضا عن الموقع الثالث لآثار كاتدرائية صليبية لم يبق منها سوى أساساتها. أما صور الفينيقية القديمة فلم يعثر على آثارها سوى على موقع لمدفن فينيقي لم يبق سوى بعض الجرار والنصب التي نقلت الى المتحف الوطني في بيروت.

تألٌق لمهرجانات صور

ولمهرجانات صور والجنوب عنوان آخر مع السياحة الداخلية. تحمل المهرجانات التي انطلقت في الثاني من الجاري وتقام في الملعب الروماني، بوادر استقرار في المدينة، بعد غيابها القسري منذ استشهاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري. تشير أمينة سر اللجنة رولا عاصي الى ان «اللجنة ارتأت ان يكون الاستقرار العام في لبنان مناسبة لإحياء المهرجانات من جديد». وتلفت عاصي الى أن التأخير في إطلاق المهرجانات يعــود الى «خوفنا من ردة الفعل بعد الانتخابات النيابية». وتشرح عن برنامج المهرجان الذي افتتح بعرض الفرقة الصينية «حلمي»، وهو أداء فني يضم فنانين يعانون مشاكل في السمع والنطق، فيحاكون عقولهم ويعبرون عن مشاعرهم من خلال رقصات تملأها الألوان. كما ضم المهرجان عرضا لفرقة «اورنيتا» للرقص المسرحي التي تضم راقصين محترفين. وكان المطرب التونسي لطفي بوشناق قد أحيا حفلا أمس الأول، لتستمر فعالياته الأربعاء المقبل مع الشاعرة اليابانية كيكيو كوما التي تعشق مدينة صور وكانت قد ساندت ضحايا أطفال حرب تموز. وسيقام الخميس المقبل مهرجان الشعر العربي يشارك فيه شعراء وإعلاميون، وتليه أمسية للزجل اللبناني مساء الجمعة. أما الفنان مرسيل خليفة فسيحيي أمسية الثامن عشر من الجاري، ليختم الفنان ملحم زين المهرجان بإحيائه العرس الجماعي الذي تقيمه اللجنة لعشرين عروسا وعريسا. وتؤكد عاصي ان الهدف من العرس الجماعي هو مساعدة الأشخاص العاجزين عن تغطية تكاليف العرس، لافتة الى التنوع الطائفي والمذهبي للمشاركين. وتضيف عاصي أن الفنان رفيق علي أحمد سيقدم، على صعيد نشاطات المناطق والقـــرى المجاورة، مســــرحية لإحياء التراث، إضافة الى عروضات للمخرج المتخصص بالدمى والأطفال كريم دكروب.

شبه الجزيرة الجميلة مددت رمل شواطئها، لناسها الطيبين، ولضيوفهم الكرام. وفتحت قلبها للجميع، يملأونه. يتفرجون على مدينة الجنوب، تعيش فرحاً لا يضاهى بنفسها.. بصيفها.

تعليقات: