سعاد قاروط العشّي

سعاد قاروط العشّي
سعاد قاروط العشّي


وجه أليف يذكّر بأيام العزّ في «تلفزيون لبنان». منه انطلقت، وفيه واجهت امتحان الحرب الأهليّة، فراحت تبحث عن لغة توحّد المشاهدين. وهي اليوم، مثل كثيرين، تنتظر من الدولة أن تحيي تلك المؤسسة الوطنيّة، في أدغال الفضائيات المحليّة والعربيّة

يوم انتشر التلفزيون في لبنان، كانت سعاد قاروط، ابنة بيروت، لا تزال طفلة سحرتها العلبة الصغيرة والصور الخارجة منها. حينذاك راودها السؤال الذي سيرافقها سنوات: «كيف أدخل هذا العلبة؟». في ذلك الوقت، بدأت تتلمّس ملامح «برعم الفن» الذي يعيش داخلها ويثير قلقها. لاحقاً، ستتنبّه ابنة العائلة البسيطة والمتوسطة الحال إلى أن «الواسطة» التي يتمتع بها أولاد العائلات السياسية، أو «المدعومة» هي البوابة لتحقيق حلمها، لذا صار لسؤالها الأول تتمة «هل ستطأ قدماي يوماً درجات مبنى تلفزيون لبنان؟».

قبل التلفزيون، كان للراديو وحده سحرٌ عليها. حفظت منه أصوات المذيعة المصرية همّت مصطفى والشاعر فاروق شوشة وناهدة فضل الدجاني... إلّا أن الصوت الذي سكنها كان صوت جمال عبد الناصر: «ساحر، مؤثّر عميق، لا تزال ذاكرتي تحفظ خطبه وأقواله». المصادفة ستجعل حلم سعاد حقيقياً، ولمّا تبلغ العشرين. في منزل عمتها، التقت حسين صبرا، المدير التنفيذي لإذاعة لبنان آنذاك. حملت الصبية جريدة وراحت تقرأ له ما يقع تحت عينيها. أثنى على خامة صوتها، وقام بتدريبها، ثم حُدّد لها موعد الامتحان. نصحها صبرا بالبحث عن «دعم»، رغم موهبتها، كي تضمن الانضمام إلى أسرة الإذاعة، فطرقت باب الرئيس الراحل صائب سلام، وتحقق لها ما أرادت. كان ذلك عام 1973.

لم تمضِ المذيعة المبتدئة في الإذاعة اللبنانية سوى ثلاثة أشهر، كانت كافية لتكوّن الشخصيّة الأليفة التي سترافقنا طويلاً، بعدما صارت سعاد العشي (بعد زواجها بالإعلامي أحمد العشي). بعدها طُلب منها الانضمام إلى أسرة تلفزيون لبنان، لتُسجل سابقة فريدة في هذا المجال. تتذكّر من تجربتها الإذاعية اللحظات الأولى، يوم قدمت موجز الأخبار لأول مرة. قدمها حينها الفنان وحيد جلال. ضغطت على الزر لتعلن بداية الموجز، راح صوتها يرتجف، «عندما نطقتُ باسمي سمعَت أذناي دقات قلبي، من شدّة الخوف، تهدّج صوتي». أما البداية التلفزيونية، فلم تكن في نشرة الأخبار، إذ قدمت العشي برنامج «تاريخ السينما المصرية» على الشاشة الصغيرة، وتحديداً على ما كان يُعرف حينذاك بـ «القناة 7».

بعد عامين، ستُرزق العشي بابنها البكر مازن، لكن المسؤوليات العائلية لن تحد من نشاطها. استمرّت في عملها كمذيعة وكمحررة. وجاء عام 1975 المشؤوم ليشهد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. «قُسّم البلد بين شرقية وغريبة، وانتقلت نشرة الأخبار أيضاً إلى القناة 7». تستفيض سعاد العشي في الحديث عن الحرب. المرارة تطبع معظم الكلام. تقول: «مررت بمرحلة صعبة، أستغرب كيف تخطينا حرب السنتين (المرحلة الأولى من الحرب الأهليّة). أخذنا لوناً من دون أن نختاره، صُبغنا به، انقسم الجمهور وكانت في ذلك خسارة كبيرة وضعتني أمام واقع مر».

تتذكر المؤسسة التي لم تغادرها رغم المخاطر: «كان من واجبنا الحفاظ على مؤسسات الدولة وعلى التلفزيون. هل نتركه فيجري احتلاله؟ قناعاتنا كانت تختلف قليلاً باختلاف الوجوه، كنا نتفق مع بعضها ونختلف مع أُخرى». تتوقف لحظة، ثم تنتفض: «الحرب كانت قاسية، بلا أخلاق، شرسة، قمعية، طائفية. اقتلعت الفرح من داخلنا، أوقفت طموحاتنا». لكنّ تلك الحرب ستعلّم العشي كيفية العمل في ظروف صعبة: «علمتني كيف أتعامل بدبلوماسية، كيف أسير بين النقاط، بين الحروف، بين القنابل، تعلمت كيف أكتب الخبر وألاحقه، كيف أكون موضوعية فلا أخاصم أحداً بشكل عدائي». لكنَّ الحرب تخللتها أيضاً فترات «استراحة المتحاربين» التي كان الناس يخرجون خلالها من بيوتهم ويحاولون أن يعيشوا الحياة «بشكل طبيعي». خلال تلك السنوات الصعبة قدمت العشي «المتفوقون» وهو أول برنامج مسابقات في لبنان يأخذ طابعاً ثقافياً، ثم قدمت برنامجاً حوارياً (كان يبثّ من الحازمية) بعنوان «صالون الخميس» الذي عرف نجاحاً كبيراً، وكان أول برنامج سياسي يدور الحوار فيه مع الضيف في شقين الأول خاص والثاني سياسي.

بعد الحرب، قدمت العشي برنامجاً بعنوان «مباشر على الهواء». وللمرة الأولى عام 1991، كان التلفزيون اللبناني يستقبل ضيفه على الهواء من خارج الاستديو. ضيفها كان الرئيس الراحل الياس الهراوي. عام 2002، غادرت العشي بيتها الثاني، بعدما تآمر الحكم في لبنان على تلك المؤسسة الوطنيّة العريقة، فعاش تلفزيون لبنان حالة شبه إقفال، وغادره العديد من إعلامييه. انتقلت إلى شاشة «آي أر تي» وكانت قد انضمت إليها في فترة سابقة لتقدّم برنامج «أهل الدار» الذي استضاف أهل السياسة والفن والثقافة والأدب. في مرحلة ثانية، قدمت «ذاكرة الأسبوع» وهو نشرة تحليلية للأحداث التي شهدها الأسبوع، واختيرت لتكون محور الحلقة. لم تبتعد سعاد أكثر من ثلاث سنوات، فإذا بها تعود إلى مؤسسة لبنانية، هي تلفزيون «أن بي أن». أطلت على شاشته لتقدم برنامج «التاريخ إن حكى» محققة بذلك حلماً قديماً راودها لسنوات طويلة. هي التي قدمت ذات يوم في تلفزيون لبنان برنامج «شاهد على العصر»، انتقلت من السياسة إلى المجتمع، لتقدم على الشاشة نفسها «للمرأة كلام» الذي استمر بثّه عاماً واحداً.

هكذا، حفرت اسمها في سجل الإعلاميات المتميزات في تاريخ لبنان. لسنوات طويلة تربعت على عرش نشرة الأخبار، ولم تجد من ينافسها على اللقب. إذا سألتها عن سرها تقول: «اجتهدت كثيراً، كنت أقرأ الشعر وكتب السياسة والأدب». تقرُّ بأنها في بداية “مشوارها” كانت تسجل صوتها على كاسيت ثم تسمعه، وتؤنِّب نفسها: الفتاة التي أعجبت الناس لم تكن راضية في البداية عن نفسها تماماً، وكانت تريد أن يخرج صوتها بشكل أجمل.

اليوم، كلّما مرّت قرب مبنى التلفزيون في تلة الخياط يتنازعها «شعور مزدوج». «القلب يرقص فرحاً لرؤية محطة هي مدرستي وبيتي وأهلي، فأنا صنعت نفسي في تلفزيون لبنان، كان لي المنبر، وسمح لي بالمجد والشهرة والحضور، لذا أحبه وأحن إليه». لكن العشي تشعر أيضاً بالقهر: «أزعل على التلفزيون الذي وزع إعلاميين كباراً على المحطات اللبنانية والعربية... وبقي يتيماً. حرام أن تتخلى الدولة عن ابنها الشرعي، وتترك المشهد تحت رحمة المحطات الخاصة».

منذ ستة شهور، تقدم العشي برنامج «من ذاكرتهم» على شاشة تلفزيون «آي أر تي»، وتستضيف فيه سياسيين ومفكرين وإعلاميين وفنانين. لكنك إن سألتها عن الحدث الأهم بالنسبة إليها هذا العام، فستجيب فوراً «ولادة حفيديّ»، تهرع إلى طاولة مجاورة، تحمل لك الضيافات وتبدأ بالحديث عن التوأمين.

تعليقات: