مفهوم المواطنه

حسين السيد علي السيد سعيد زلزله
حسين السيد علي السيد سعيد زلزله


يحتل مفهوم المواطنة موقعاً مركزياً في الفكر القانوني والدستوري المعاصر. إذ ان المواطنة، بما تشكل من شخصية اعتبارية لها حقوق وواجبات، وهي أحد الأعمدة الرئيسة للنظريات الدستورية والسياسية المعاصرة. إذ ان الفكر السياسي الحديث يعتمد في البناء القانوني للوطن على هذا المفهوم ويحدد له جملة من الاجراءات والاعتبارات. لذلك فإننا نعتقد أن تطوير واقعنا السياسي والقانوني اليوم، مرهون الى حد بعيد على قدرتنا على المستويين النظري والعملي لبلورة هذا المفهوم، وتوفير المناخ السياسي والقانوني والثقافي لكي يتبلور هذا المفهوم كحقوق وواجبات في الفضاء الاجتماعي والوطني.

ومن الطبيعي القول في هذا الإطار،ان المجال في لبنان اليوم، لا يمكن أن يخرج من أزماته وتوتراته الداخلية، إلا باعادة الاعتبار في السياسات والاجراءات والتشكيلات الى مفهوم المواطنة والعمل على صياغة فضاء وطني جديد، قوامه الأساس ومرتكزه الرئيس هو المواطنة بصرف النظر عن المنابت الايدلوجية او القومية او العرقية. إذ ان التنوع المتوفر في هذا الفضاء بعناوين متعددة ومختلفة، لا يمكن أن يتوحد في الفضاء الوطني، إلا بمواطنة حقيقية، يمارس كل مواطن حقه ويلتزم بواجبه بدون مواربة او مخاتلة. فالمواطنة بكل ما تحتضن من متطلبات وآليات هي حجر الأساس في مشروع البناء الوطني الجديد.

وذلك لأن الكثير من الأزمات والتوترات المتوفرة في العديد من المناطق اللبنانية ، هي في المحصلة النهائية من جراء تغييب مفهوم المواطنة والاعلاء من شأن عناوين خاصة على حساب الإطار الوطني العام. ان هذا النهج الذي غيب او الغى المواطنة لصالح ولاءات خاصة، هو الذي عبره وعبر متوالياته وتأثيراته الذي فاقم التوترات وزاد من الاحتقان السياسي وأدى الى هشاشة الاستقرار الاجتماعي في العديد من المناطق وافضى الى خلق جزر اجتماعية معزولة عن بعضها البعض، لا يجمعها إلا الاسم والعنوان العام.

من هنا فإن الخطوة الاولى في مشروع الحل والاصلاح هي تأسيس العلاقة بين مكونات المجتمع والدولة على أسس وطنية تتجاوز كل الأطر والعناوين الضيقة. بحيث يكون الجامع العام لكل المكونات والتعبيرات والأطياف هو المواطنة. التي لا تعني فقط جملة الحقوق والمكاسب الوطنية المتوخاة، وانما تعني أيضاً جملة الواجبات والمسؤوليات العامة الملقاة على عاتق كل مواطن.

وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن تكون رابطة المواطنية رابطة قسرية - قهرية، وانما هي رابطة طوعية - اختيارية قائمة على الاختيار الحر والتعايش السلمي بين جميع المكونات والتعبيرات. وتأخذ هذه الرابطة فعالياتها وقدسيتها من طبيعة العقد الوطني والمضامين السياسية والثقافية الاجتماعية التي يتضمنها ويحتضنها.

فإطار المواطنة في المنظور الحضاري، يقوم على مفهوم الجماعات الحرة والمتوافقة والمتعايشة بالتراضي والوئام والشراكة. والتجارب السياسية في العديد من المناطق والمجالات الحضارية، أثبتت أن دحر الخصوصيات الذاتية او الجماعات الفرعية لصالح الإطار العام، لا يفضي الى وحدة ومواطنة سليمة، بل تدفع محاولات الاقصاء والدحر الى تشبث كل جماعة بذاتها وخصوصياتها وتنعزل نفسياً وشعورياً وثقافياً عن الجماعات الاخرى.

لذلك فإننا نعتقد أن خلق مفهوم المواطنة الجامع والحاضن لكل الجماعات والتعبيرات، لا يتأتى بافناء الخصوصيات الثقافية او اقصائها وتهميشها، وانما عبر توفير النظام القانوني والمناخ الاجتماعي - الثقافي الذي يسمح لكل التعبيرات والحقائق الثقافية من المشاركة في اثراء الوطن والمواطنة. وهذا لا يعني التشريع للفوضى او الميوعة تجاه الجوامع المشتركة.

وإما يعني وبعمق ان الالتزام بالجوامع والمشتركات الوطنية ومقتضياتها، لا يتأتى إلا بالحرية والعدالة ومتوالياتها التي تنعكس في السياق الوطني ومستوى التزام الجميع بالوحدة والاندماج الوطني.

ومن خلال هذه الممارسات المنضبطة بضوابط العدل والحرية، يتم تطوير قواعد الوحدة والاجماع الوطني. ودستور المدينة المسمى تاريخياً بصحيفة المدينة التي صاغ بنودها رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم، هي عبارة عن معاهدة قانونية جمعت كل الاطراف وتعبيرات المجتمع على أساس دستوري لكل طرف حقوق وواجبات ومسؤوليات. إذ حددت الصحيفة مجموع المبادئ والقواعد والمسؤوليات التي على أساسها قامت هذه الرابطة ويتم الدفاع عنها. إذ جاء فيها (وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم. وأن يعطوه بالمعروف في فداء او عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وان المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم او ابتغى دسيعة ظلم واثم، او عدوان، او فساد بين المؤمنين. وان أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن وان ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم. وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس).

فالنموذج الذي ترسى دعائمه صحيفة المدينة يتجه الى تأسيس الوحدة على قاعدة الاختيار الحر والرابطة الطوعية القانونية بين تعبيرات وقوى مجتمعية تتساوى في الحقوق والواجبات وتتعاون على حماية حرياتها ومكاسبها الوطنية والاجتماعية.

فليس من شروط المواطنة الاتفاق في الرأي او الاشتراك في الدين او المذهب او القومية. ان مفهوم المواطنة يستوعب كل هذه التعدديات والتنوعات، ويجعل المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي مؤاتياً لكي تمارس كل هذه التعدديات دورها ووظيفتها الحضارية والوطنية في اثراء الواقع الوطني ومده بأسباب الاستقرار والانسجام الاجتماعي.

وترتكب جريمة كبرى بحق الوطن (أي وطن)، حينما يتم التعامل مع مفهوم المواطنة على مقاس واحد وفي حدود الاشتراك في أحد العناوين السالفة.

فالمواطنة كمفهوم واجراءات وحقائق، هي الابداع الانساني الدستوري الذي يضمن لجميع المكونات والتعبيرات المشاركة في ادارة الشأن العام واثراء الوطن على مختلف الصعد والمستويات.

فالوطن الذي تتعدد انتماءات مواطنيه، لا خيار أمامه لضمان الوحدة والاستقرار إلا تأسيس الأوضاع القانونية والسياسية على مبدأ المواطنة ومقتضياتها الدستورية والسياسية. بحيث تكون مؤسسة الدولة محايدة تجاه انتماءات مواطنيها.. بمعنى ان انتماء المواطن الديني او القومي او العرقي، لا يزيد من فرصه ومكاسبه وامتيازاته، كما انه ليس سبباً لانتقاص حقوقه او فرصه في المشاركة في الحياة العامة.

فالتعدد لا يمكن أن يدار في الإطار الوطني إلا بمواطنة تضمن للجميع حقوقهم، وتفسح المجال أمامهم للالتزام بواجباتهم والقيام بمسؤولياتهم.

وبهذا المنظور تتجلى حقيقة لا لبس فيها وهي: ان المواطنة ليست شعاراً مجرداً عن حقائق ووقائع الحياة. وإنما هي منظومة قيمية وادارية وسياسية، تتجه بكل امكاناتها لمنح المواطن كل حقوقه، وتحفزه للالتزام بكل واجباته ومسؤولياته.

حسين السيد علي السيد سعيد زلزله

تعليقات: