رفيق علي أحمد: الحكواتي الجنوبي يحاكم دولة الطوائف

 الحكواتي رفيق علي أحمد
الحكواتي رفيق علي أحمد


سهل جداً على الباحث عن رفيق علي أحمد أن يهتدي إلى عنوانه الدائم في مقهى «الروضة» المطل على بحر بيروت. بعيداً عن البيت، سيكون «الحكواتي» الابن المدلل للمسرح قابعاً في ركن ما هناك؛ يقرأ، يكتب ويلتقي الأصدقاء. هناك كان اللقاء: «هذه جنينتي السرّية؛ مع أنّها لم تعد كذلك. لم يبق صديق أو إعلامي إلا ويعرف مكاني». لماذا «الروضة»؟ بعد ستّة أشهر من قدومه إلى بيروت، اكتشف المقهى. ومن يومها، أي منذ 31 سنة «وأنا أداوم هنا متفلتاً من قيود المدينة؛ أجلس في مكان مفتوح على البحر والسماء والأرض؛ أحلم وأفكر».

كان لا بد للولد من أن يترك «شيطنته» في المرح والتقليد والعزف على قيثارة من خشب في قريته يحمر الشقيف (جنوب لبنان)، المنغلقة في حينه على المجتمع الفلاحي، ويبحث خارج أعراس الضيعة وحلقات الدبكة عن فضاء أكثر رحابةً يتّسع لمواهبه الفنية المكبوتة. هكذا، اهتدى خلال المراهقة إلى مسرح «نادي الشقيف»، وشارك راقصاً في عملين مسرحيين، ثم ممثلاً في أعمال أخرى. ولعبت منطقة النبطية أيضاً دوراً «في تركيب البنى التحتية النفسية في شخصيتي». هذه المرحلة هي التي أسست لشخصيته، لذلك، فهي «تحتلّ مكاناً خصباً في الذاكرة، وهي الخزان الذي ما زلت أنهل منه في أعمالي المسرحية».

خلال الاجتياح الإسرائيلي الأوّل للبنان عام 1978، وصل الشاب رفيق إلى بيروت مهجَّراً من قريته يحمر بسبب الاعتداءات والقصف. حمل معه سراجاً (نمرة 4) وحراماً؛ «لأنّني أتيت مهجّراً، كان يجب أن أحمل شيئاً يدثرني في غربتي. «فجبت» الحرام؛ ولما زرت القرية بعدها، حملت السراج ولم أزل أحتفظ به حتى اليوم، في مكان عال». منذ ذاك الحين، صارت بيروت قبلته الثانية، وخصوصاً بعدما انتسب إلى معهد الفنون، قسم المسرح. لم يكن يدري إن كان أتى إلى المسرح بالمصادفة، أم بسبب الفقر. كان يحبّ الغناء وعزف الموسيقى والرسم، لكنّه لجأ إلى المسرح «لأنه لا يحتاج إلى أدوات كالألوان والآلات الموسيقية الغالية الثمن. عندما اقترح أحدهم على والدي أن يشتري لي آلة موسيقية، علّقت أمّي: ألا يكفي أنك أسود و«مسحمت» (كثير السواد) وتريد أن تعزف على الربابة مثل النوَر؟».

لم تؤثر به المدينة كثيراً؛ لكنّها زوّدته بالخبرة وفسحت له مجالاً أكبر «لأنها المكان الأرحب حيث يستطيع المرء أن يحقق ذاته، وخصوصاً في المسرح والفنون عامة. وهي الميدان الأساسي الذي تجعل الإنسان على احتكاك بالأفكار المسرحية الأخرى؛ وتضعه في قلب الحركة الثقافية والفكرية والفنية». في سنته الجامعية الأولى 1978، اختاره المخرج يعقوب الشدراوي ليلعب دوراً مهماً في مسرحية «ميخائيل نعيمة». وفي 1979، فتح له المسرحي الكبير روجيه عساف باباً سيحدّد مستقبل مسيرته. التحق رفيق بفرقة «مسرح الحكواتي»، ولفت الأنظار من خلال مشاركته في تجربة أساسيّة ما زالت في ذاكرة كثيرين، هي «من حكايات 1936». وإذا بهذا النوع من المسرح يلبس شخصيته، ويلازمه في الأعمال التالية. وكرت سبحة الزمن حتى سنة تخرجه 1981. وفي العام التالي، أبصرت النور «أيام الخيام»، المسرحية الحكواتية بامتياز التي مثّلت الحدث البارز في حياة رفيق علي أحمد... وثبّتت خطاه أكثر على سكة المسرح الشعبي، فانطلق منها إلى مزيد من الأعمال والنجاحات، متنقلاً بين السينما حيناً أو التلفزيون أحياناً. لكنّه دائماً يعود إلى حبّه الأوّل، إلى الفضاء الأساس حيث يجد نفسه فعلاً، أي المسرح.

مونودراما «الجرس» في عام 1991 كانت مفاجأةً للجمهور اللبناني الطالع من الحرب الأهليّة. إذ نجح رفيق علي أحمد في أسر الحضور لساعة ونصف مؤدياً وحده كل الأدوار ومتنقلاً من شخصية إلى أخرى بخفّة لافتة. في هذه المسرحية، استعاد فصولاً من تجربته الذاتية، مسترجعاً دبيب الصبا، بين حنايا قريته وبراريها. معظم مسرحياته اللاحقة ستشتمل على أجزاء من سيرته الذاتية وذاكرته وأهل ضيعته؛ بعدما عمل على تطويعها فنياً وصياغتها بطريقة مختلفة. «هناك مشاهد تراجيدية في المسرح تبكيني، وخصوصاً عندما أسمع حشرجة بعض المشاهدين في الصالة. هذا الصمت المطبق من الجمهور المستمع يشعرني بأنني في أسمى حالات الدراما. ولحظة الذروة هي عندما يشعر الممثل بأنّ شيئاً من الحزن علقَ في حناجر الناس، فيما هم يضحكون في الوقت عينه. إنها ذروة النشوة بالإبداع الفني، بحيث يتكامل الفعل المسرحي، إن من ناحية النص أو من ناحية الأداء أو بما تضفيه الإضاءة والسينوغرافيا، وهذه اللحظات هي التي يطمح إليها أي فنان».

صوفة يسارية حمراء طبعت مسيرة صديقنا. بعضهم حسبه على الحزب الشيوعي، ومنهم من اعتبره من الحزب القومي؛ لكن هو ظلّ «على هامش الأحزاب اليسارية، مراقباً لها، ناقداً، معترضاً. طبيعتي كفنان ربما لا تسمح لي أن أنتظم في جماعة أو حزب، أتلقى الأوامر أو أقدم مسرحية ضمن إطار الرؤية السياسيّة العامة. أستطيع القول إنّني متفلت دائماً من التنظيم؛ أطمح إلى الحرية والانتقاد؛ سقراط كان هكذا». لا شك في أنّ «آخر أيام سقراط» مع الرحابنة عام 1998؛ حملت إضافةً نوعيّة جديدة إلى مسيرة الممثّل رفيق علي أحمد. لقد أسند إليه رحابنة منصور دور البطولة في هذا الاستعراض المسرحي الضخم، وكانت فاتحة لعملين آخرين هما لا يقلّان عنه ضخامة: «حكم الرعيان» عام 2004؛ و«جبران والنبي» عام 2005. هذه الحقبة يعتبرها صدى لرؤيته الفنية السابقة وأحلامه، في أن يغنّي ويرقص ويمثل في آن، تحقيقاً لصورة «الفنان الشامل».

خلال عدوان تموز عام 2006، دوّى اسم عيتا و«أخواتها» في العديد من المحطات الإذاعية والتلفزيونية بصوت رفيق علي أحمد. وكانت صرخته الشهيرة «عيتا» التي تركت أثراً وجدانياً ووطنياً واضحاً، اعتبرت جزءاً لا يتجزأ من حركة المقاومة. يقول: «أنا كمواطن لبناني من حقي الدفاع عن أرضي بأسلوبي الذي أراه مناسباً».

وعلى جانب مواز، ومن خلال نقابة ممثلي المسرح والتلفزيون والسينما في لبنان التي انتخب نقيباً لها عام 2000، ناضل رفيق من أجل قانون يحمي الفنانين. وبعد سنتين ونصف سنة، استطاعت الحالة الانقسامية في لبنان أن توقف هذا المشروع بعد درسه في مجلس النواب، فاستقال رفيق. لكنّ مختلف الأطراف المعنيّة عادت وتعاونت، بعد أربع سنوات، على تحريك المشروع، وكان هو اللولب المنسق بينها، بالتعاون مع وزير الثقافة. وكان أن أقرّ القانون أخيراً خلال الفترة القليلة الماضية.

وفي عام 2009، أعاد رفيق علي أحمد عرض «زواريب» للراحل ممدوح عدوان التي عرضت للمرة الأولى عام 1998. وهي عبارة عن مونودراما يسرد فيها عامل تنظيفات سيرته الذاتية والعائلية، من خلال نفايات المجتمع اللبناني. كما أعاد عرض «جرصة» التي أخرجها عام 2007، مازجاً فيها بين العام والخاصّ، بجرأة لافتة. هذا «الشيعي» المتزوّج من «درزيّة» ويبصق بوجه دولة الطوائف، يلعب على العجز الجنسي ليفضح العجز السياسي والأخلاقي الذي يعانيه النظام اللبناني...

حين تسأله عن المستقبل، تكتشف أن همّه التواصل مع الشباب: «هم الأمل والمستقبل». يحاول التحاور معهم بشأن تجربته، و«تجربتنا نحن الجيل الذي سبق، لعلّهم يخرجون بأفكار مختلفة عما يسمعونه على التلفزيون من شحن طائفي وتشنج. هؤلاء الزعماء هم كذَبَة لأنهم يستغلون طوائفهم في سبيل مصالحهم الشخصية».

5 تواريخ

1951

الولادة في بلدة يحمر الشقيف، جنوب لبنان

1981

تخرّج ممثّلاً ومخرجاً من «قسم المسرح» في الجامعة اللبنانية. واكتشفه الجمهور في العام التالي من خلال «أيّام الخيام» مع «مسرح الحكواتي»

1991

جائزة أفضل ممثل في «أيّام قرطاج المسرحيّة» (تونس) عن مسرحية «الجرس» (إخراج روجيه عسّاف)

1998

بطولة «آخر أيام سقراط» لمنصور الرحباني وأبنائه

2009

أعاد تقديم مونودراما «جرصة» (2007) و«زواريب» (1998). ووضعته مجلة «تايم آوت» في نسختها اللبنانيّة على قائمة 40 شخصية مؤثّرة في الحياة العامة في لبنان

تعليقات: