... وماذا عن كراماتنا يا صاحب السيادة؟


«إن كنتُ قد أسأتُ في الكلام، فبيِّن لي الإساءة، وإن كنت قد أحسنت، فلماذا تضربني؟»

تعرف هذه الآية يا صاحب السيادة، أكثر منّا بلا شك. وتعرف مصدرها، من يوحنا 18ــــ23. وتعرف خصوصاً سياقها: لحظة وقف يسوع، عشيّة محاكمة الزور والصلب والجلجلة، أمام رئيس الكهنة، شاهداً للحقّ، فكان جزاؤه الضرب...

طبعاً ليست المماثلة هي المقصودة بهذا الاستشهاد. ولا نسمح لأنفسنا، ولا نقبل. لكن الشيء بالشيء يُذكر. ويُذكر خصوصاً، حين نقرأ كلامك، فينا، أو في «معظمنا»، كما قلت في مؤتمرك وفي مداخلة تلفزيونية تلته، عن أخلاقنا ومبادئنا وثوابتنا وكراماتنا.

تستعمل يا سيدنا في كلامك عنا، مفردات، اسمح لنا بأن نعرض بعضها: «أقاويل كاذبة، أخبار ملفقة، تطاول على الكرامات، تحقير للأشخاص، امتهان للكذب، انحطاط في الأخلاق، استعباد لمغرضين وراشين، قبَّح الرب فاعلي الشكوك (أي نحن)، ما يتسببون به من ضرر وشرور»... ونكتفي بهذا القدر، فلا نسهب، كي لا نبدو كمن يحرِّض، أو ينكأ جرحاً بليغاً.

والأهم يا صاحب السيادة، أنك سقت هذا الكلام، بصيغة التعميم، بلهجة تجهيل الفاعل، وبلغة إغفال التحديد. فاعتبرنا أنفسنا، في هذه الزاوية بالذات، مستهدفين بكلامك. لسنا مسؤولين طبعاً عن أي كلام آخر في زوايا أخرى، ولا عما يمكن أن يكون قد ورد في وسائل أخرى. لكن يكفي تعميمك، لنسألك يا صاحب السيادة، بكل احترام وحزم: وماذا عن كراماتنا؟ من قال لك، إن كرامتنا أقل جوهراً أو مرتبة أو قدسية من كرامة أي شخص آخر، وإن كان مسؤولاً كنسياً؟ وأنت تدرك يا سيدنا، أكثر منا بلا شك، أن لنا كرامة أصيلة، لأننا أبناء يسوع الرب، المفتدون بدمه. وأن لنا كرامة متأصلة، لأننا أبناء إنسانية العاشر من كانون الأول 1948، حيث «يولد الناس أحراراً متساوين بالكرامة والحقوق». ولنا أيضاً كرامة مكتسبة، نادرة في هذا الزمن يا سيدنا. إنها كرامة تاريخنا وكفنا ونضالنا. إنها كرامة مواجهتنا كل وصي، وكل طاغية، وكل محتل. يوم كان «معظم» المصفقين لكم اليوم، يفرش السجاد الأحمر للغازي، ويدوس بجزمته كرامة كل الوطن. إنها كرامة جوع أطفالنا يوم اضطُهدنا. وكرامة أرق عائلاتنا يوم لوحقنا. وكرامة شموع الأيقونات على عتبات أمهاتنا، يوم شُردنا. إنها كرامة من انتزع حريته بأظافر يديه، بسلاح العينين في وجه المخرز، فكيف له أن يتساهل بها، أو يفرِّط أو يهوَّل عليه، أو يسكت؟

وكرامتنا هذه من كرامة الكنيسة. فأنت تدرك يا سيدنا، أكثر منا قطعاً، أنك تمثل السلطة الكنسية وحسب. وأننا نحن وأنت معاً، نجسد الكنيسة. هكذا نفهم تعليم المجمع، بأن كنيستنا هي «جسد المسيح السري». وهكذا تصير فعلاً، كما تعلمنا العقيدة، «جماعة منظورة، وأخرى غير منظورة».

كرامتنا هذه تفرض علينا واجب القول، إننا نتمسك بكل فكرة كتبناها، بكل عبارة، بكل كلمة، بكل حرف. ونكرر كل ذلك، كل لحظة، باحترام، وضمير مرتاح، ورهبة واجب الحقيقة. ونحن في كل ما كتبنا، لم نفعل غير عرض حقائق في السياسة، ووقائع في التطورات، ووجهة نظر وموقف في مسائل الوطن والجماعة. فهل هذا ما يقتضي العقوبات الكنسية؟ وهل هذا ما يقع تحت أحكام الحرم؟

وماذا تقول الكنيسة الجامعة في ذلك يا سيدنا؟ ماذا قالت في لاهوت التحرير؟ هل رُشق غوتييريز أو بوف بحرم روما؟ أم كان الحوار وسيلة التفاعل مع مقولات عقائدية مغايرة، بلغت حد الدم؟ حتى رسالة مجمع العقيدة والإيمان، «الحرية المسيحية والتحرر» التي لم يكتبها غير راتزينغر نفسه، مبارك السادس عشر اليوم، لم تأت إلا لتكرس تقليد الكنيسة الجامعة، في حرية التفكير والتعبير. لا في مسائل سياسية، كالتي نحن في صددها، بل في حيز اللاهوت نفسه.

لكن الأهم، ماذا عن تقليد كنيستنا المارونية في هذا المجال يا سيدنا؟ هل هو تقليد قد تجمد وتأبد عند حدث أسعد الشدياق؟ كي لا نذكر من هو ولا نتذكر قصته... أم أنه رافق الزمن وواكب العصر، وجارى أكثر الحداثة انفتاحاً وحواراً وتفاعلاً؟

هل تذكر يا سيدنا حركة «كنيسة من أجل عالمنا»؟ كان ذلك قبل 45 عاماً. وكان لك فيها إخوة، من رهبان وكهنة وأساقفة. هل نذكّرك بما قالوا وكتبوا عن كنسيتنا، في ذلك الزمن؟ وهل تذكر «الحركة الاجتماعية»؟ وفيها أيضاً أساقفة إخوة لك؟ وهل تذكر مؤتمر «الشبيبة الطالبية المسيحية» في كانون الأول من عام 1968، وفي دير يسوع الملك بالذات؟ وفي ذلك المؤتمر، كان لك أيضاً يا سيدنا إخوة في النذور والسر الكهنوتي والأسقفية. واسمح لنا بأن نذكِّر أنفسنا ببعض ما كتبوه في «مانيفستو» ختام مؤتمرهم، تحت عنوان: «الكنيسة التي نرفض، الكنيسة التي نريد»... هل تذكر يا سيدنا، كلامهم عن رفض «كنيسة تملك ثروة مادية ونفوذاً سياسياً»؟ ورفضهم «كنيسة تمارس دوراً في نظام الإقطاع والاستغلال الرأسمالي في لبنان»؟ ورفضهم «كنيسة غريبة عن محيطها ومجتمعها ومعتمدة على الحضارة الغربية»؟

هؤلاء كانوا من الإكليروس يا سيدنا. والعديد منهم صار أخاً لك في الأسقفية. ماذا نقول لهم اليوم، هم من قالوا ما قالوه، قبل أربعين عاماً؟

يومها، افتخرت كنيستنا. وافتخر مؤمنوها. لأنها فتحت قلبها وصدرها لمؤتمر، قيل إنه نظير مجمع ميديلين، مجمع الفقراء الذين لا نرى وجه يسوع الحقيقي إلا فيهم. فهل نقنعهم بعد أربعين عاماً بالعودة عن ذاك الفخر؟

وماذا يا سيدنا عن الراحل الكبير أبونا ميشال حايك، وأب المجمع الماروني الثاني، المونسنيور الراحل يواكيم مبارك، ماذا عن دورهما في «تجمع المسيحيين الملتزمين»؟ هل نتذكر إعلانهما أن إسرائيل هي العدو، وأن «دعم منظمة التحرير الفلسطينية يستند إلى مبررات سياسية وإنسانية ودينية»؟ كان ذلك في ذروة الصدام بين الجيش والفلسطينيين، ربيع عام 1973، وفي ذروة التباين بين الكفاح المسلح والوجدان المسيحي. ومع ذلك لم نسمع بعقوبات كنسية، ولا بحرم، ولا طبعاً بمحاكم تفتيش وأحكام حرق...

وبعد ذلك العصر الذهبي، ألا تذكر التسعينيات يا سيدنا؟ كنت أسقفاً. وكنت في بكركي. وتذكر تماماً ذلك «المنشور» الذي كتبه راهب من إخوتك، يعتمر مثلك الإسكيم الرهباني إيماناً وورعاً وتقوى. كتب إلى صاحب الغبطة تحت عنوان «سيدنا». هل نذكِّرك بمضمونه؟ وللمفارقة، نشرته كاملاً يومها، صحافة صفراء تصفق لك اليوم، وتحرض. هل تذكر عبارة ألم الراهب والوجع الجماعي يومها: «أتبقى يا سيدنا بمستوى السيادة، حتى نبقى نحن «عبيداً»، فنتوجه إليك بما يليق بسيادتك؟ أم نبقى نحن «عبيداً» للذبح، فتسمع منا ما لا يليق»؟

ماذا قالت السلطة الكنسية يومها؟ لا شيء. لأنها أدركت أن هذا الكلام نابع من مأساة الالتزام المسيحي الحقيقي، في ظل الخوف على الإنسان والجماعة والوطن. وفي ظل سيل لم ينته من الكلام المشابه...

نكتفي الآن بهذا القدر يا صاحب السيادة. مكررين أن كرامتنا بذات قدسية أي كان. وضميرنا في راحة مطلقة. لأننا متصالحون مع الذات والآخر والرب. وما بقي تفاصيل. لكن الملح الآن، أن تجسد الآية يا صاحب السيادة، «فإن كنتُ قد أسأتُ في الكلام، فبيِّن لي الإساءة، وإن كنت قد أحسنت، فلماذا تضربني؟» (يوحنا 18ــــ23)

تعليقات: