حصرّياً

يتعاونان في طبخ الهريسة (عن موقع يا صور)
يتعاونان في طبخ الهريسة (عن موقع يا صور)


- رغم الاختلافات تبقى الهريسة لذيذة وشهية وصحية..

وصلني أوّل صحن «هريسة» من أحد أنسبائي في الحيّ. الهريسة، كما هو معروف، تطبخها الأُسَرُ الشيعية في ذكرى «عاشوراء» كلّ سنة، والمُفترض أن توزّع على المحتاجين، ثمّ أصبحت توزّع على الجيران والأنسباء القريبين، اختصاراً للجُهد واكتفاءً بالرّمز. وهي من القمح واللحم (عُنصري الغذاء الأساسيين) المسلوقين والمهروسين، ومن هنا التسمية: هريسة.

ورغم بساطة تركيبها من هذين العُنصرين، فإنّ طريقة طبخ الهريسة تخرج بنتائج متفاوتة الجودة، وهي موضع منافسة ومباهاة بين الأُسر. والفارق يكمن في نسبة اللحم على القمح وفي نوعية الوقود المُضرمة تحت الخلقين ونوع السّمن المُضاف (الحموي) ودرجة الهرْس بالمخابيط الخشبية أو البلاستيكية. ورغم هذه الاختلافات تبقى هذه الطبخة لذيذة وشهية وصحيّة، وكّنا نعدُ أنفسنا بها من عام إلى عام، ونعتبرها استثناءً يقتضي مثل هذا الوعد. ولم يكن مطروحاً السؤال: لماذا لا تُطبخ كسائر الطبيخ، من حينٍ إلى آخر، فهي ملازمة لذكرى عاشوراء أو الإيفاء نذرٍ من النذور ملازمة حصريّة.

انكسرتْ هذه الحصريّة التي أتوهمها عدّة مرات. الأولى عند مشاركتي في إحدى الندوات في الإمارات العربية – الشارقة. اصطحبني أحد الأصدقاء من كتاب الإمارات، صباحاً، من الفندق إلى الشاطئ، حيث تمتدّ مقاهٍ شعبية مبنيّة من الخشب وسعف النخيل، وهناك قدّموا لنا كإفطار (ترويقة) الهريسة إياها. وشرح الصديق، أنها أكلةٌ إماراتية، حصرياً، وتقدّم صباحاً، تماماً كالفول المدمّس أو مناقيش الزعتر عندكم.

في قبرص – ليماسول، حيث كنتُ أشارك في إصدار مجلة "شهرزاد الجديدة"، ذهبت إلى عيد النبيذ الذي يُحتفل به بين 1 و12 أيلول من كل سنة، في الحديقة العامة. هناك، وأنا أتجوّل بين الستاندات الخاصة بكل نوع من أنواع النبيذ القبرصي، ومعه المأكولات – المشاوي بالطريقة المحلية، شاهدت في أحد هذه الستاندات خلقين الهريسة إيّاها. ولدى السؤال بالإنكليزيّة التي تعلّمت شيئاً منها بشرائط الفيديو الـ (B.B.c)، أجابتني السيدة المشرفة على الستاند خلف الخلقين، أنّها أكلة قبرصية، حصرياً، وتطبخ في عيد النبيذ وخارج العيد أيضاً.

وكنتُ قد لاحظت على الخريطة السياحية القبرصيّة الإشارة إلى غابة الأرز في منطقة "بافوس" وعليها شرح بالفرنسية، بأنها شجرة معمّرة، تعيش، حصرياً، في قبرص! حينها فكّرتُ بالاتصال بالشاعر سعيد عقل وإبلاغه هذا الأمر المهول، كي يرفع دعوى إلى محكمة "لاهاي" ضدّ هذا الادعاء القبرصيّ.

من حصرياً إلى حصرياً إلى حصرياً، دعاني أحد أنسبائي، أثناء مروره في باريس، إلى الغداء إلى مائدة أحد أصحاب مصانع الثياب الجاهزة، والذي يستورد منه إلى محلاّته في الخليج، ذهبنا إلى الغداء لدى مسيو ومدام "هاربوتيان".

وهناك، وضعت السيدة المآكل على المائدة، ثم توجتها بطبق الهريسة إياها. ولدى السؤال أجاب المضيف أنها أكلة أرمنية، حصرياً، وتطبخ في المناسبات والدعوات!

هذا الميل إلى الحصريّة لدى الشعوب والطوائف والأعراق، يمتّع أصحابه ويشعرهم بالتميز، ولو على حساب تجاهل أو جهل أن ثقافة الشعوب المطبخية، ثقافة خلاصات تمازج وتفاعل بين الشعوب عبر التاريخ. وعلى ذلك، فإنّ السجال الذي انعقد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حول من منهما اخترع أكلة الفلافل، قد يستفز لبنانياً ما إلى التدخّل معدداً بيوت الفلافل اللبنانية العريقة مثل المصري، فريحة، طبارة، صهيون، خليفة، بربر إلخ... وتداعياً عن ذلك قد يهتف الواد "سيّد" المصري بالجميع: إيه يا جماعة؟ إنتو حَ تاكلونا أونطة؟ دي "الطعمية بتاعتنا"!

استئناس

أستأنسُ الآخرين

فأخرجُ من وحشتي إلى حيث هم

في المقاهي وما يشبهُها

نتبادل المصافحات والأحاديث

فينْعقدُ الأنسُ

إلى أن يتعقّدَ الأمرُ

ويعلو الصراخُ

ولا تعرفُ مَن يتكلمُ مع مَن

فأعود إلى وحشتي

ويدهشني أنني أتوّرطُ من حينٍ إلى حين

بهذا المعمعانِ الكلاميّ

ويُضحكني أنني قد أعاودُ من حينٍ إلى حين

محاولةَ أن أستأنسَ الآخرين

على علاّتهم، عِلاّتنا أجمعين

الأستاذ محمد العبدالله
الأستاذ محمد العبدالله


تعليقات: